شهد اليوم الخامس عشر من شعبان عام (255 هـ) ولادة آخر أقمار آل محمد (صلوات الله عليهم)، وهو الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وبعد خمس سنوات شاءت إرادة الله أن يغيب الإمام، ولكن لابد للأرض من حجة، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن لا تخلو الأرض من أنوارهم وعلومهم (عليهم السلام)، فهم نجوم الهداية وسفن النجاة.
فلم تنقطع الصلة بين الإمام وشيعته، فخلال غيبة الإمام هذه وهي (الصغرى)، التي استمرت حوالي سبعين عاماً من (260 هـ) حتى عام (329 هـ)، تولى أربعة من رجال الشيعة الثقات الأمناء مسؤولية السفارة والنيابة عنه (عليه السلام) في أمور الدين والدنيا، وشكلوا حلقة تواصل بينه وبين شيعته عبر تواقيعه (صلوات الله عليه)، فأدوا ما عهده إليهم بكل أمانة وإخلاص، وكانوا معتمديه وموضع ثقته في الردود على مسائل الشيعة واستفساراتهم من قبله واستلام الحقوق الشرعية منهم وصرفها فيما أمرهم به حتى وفاتهم. وهؤلاء الرجال الأربعة هم:
1 ــ عثمان بن سعيد العمري: تولى السفارة لخمس سنوات من عام (260 هـ) حتى وفاته عام (265 هـ)
2 ــ محمد بن عثمان بن سعيد العمري: تولى السفارة لحوالي أربعين عاماً وهي أطول السفارات من عام (265 هـ) حتى وفاته عام (305 هـ)
3 ــ الحسين بن روح النوبختي: تولى السفارة لأكثر من عشرين سنة من عام (305 هـ) وحتى وفاته سنة (326 هـ)
4 ــ علي بن محمد السمري: تولى السفارة لثلاث سنين وهي أقصر السفارات من عام (326 هـ) حتى وفاته عام (329 هـ)
وتدلنا الروايات الكثيرة على أن هذا النسق في اختيار النواب كان بأمر الإمام المهدي (عليه السلام) (1)، كما دلت التواقيع التي خرجت للناس عن طريقهم منه على ذلك، فاختيارهم كان نصّاً إلهياً جاء وفق ما وهبهم الله من خصال ومزايا لم تتوفر في غيرهم أهلتهم لحمل أمانة الله وإدائها على أكمل وجه. ولو توفرت هذه المزايا في شخص بعدهم لاستمرت هذه السفارة، ومما جاء في ذلك قول السمري ــ آخر السفراء ــ لمّا حضرته الوفاة واجتمع عنده الشيعة، فقالوا: من يكون الوكيل بعدك وأيّ شخص يقوم مقامك ؟ فقال: انّي لم أؤمر بأن أوصّي إلى أحد بعدي في هذا الشأن. (2)
وتؤكد رواية المجلسي على أن الإمام كان يعيّن الواحد منهم حال وفاة من سبقه ببرهان يدل على هذه النيابة، فقال: أما الأبواب المرضيون والسفراء الممدوحون في زمن الغيبة .... ولم يقم أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الزمان عليه السلام ونصب صاحبه الذي تقدم عليه فلم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر عليه السلام تدل على صدق مقالتهم وصحة نيابتهم) (3)
وقال الشيخ عباس القمي كان الامام الحجة (عليه السلام) يجري على يد الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد السمريّ الكرامات والمعاجز وأجوبة مسائل الشيعة وكانوا يسلّمون الأموال والحقوق إليه بأمره (عليه السلام).(4)
وقد أخبر الإمام شيعته بانتهاء هذه السفارة قبل ستة أيام من وفاة السمري تمهيداً للغيبة الكبرى، كما جاء في التوقيع الأخير للإمام المهدي (صلوات الله عليه) قوله: (بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، يا عليَّ بن محمّدٍ السِّمَّريّ, أعظمَ اللهُ أجرَ إخوانِكَ فيكَ, فإنّكَ ميِّتٌ ما بينكَ وبينَ ستّةِ أيّامٍ، فاجمع أمرَكَ ولا توصِ إلى أحدٍ يقومُ مقامَكَ بعدَ وفاتكَ، فقدْ وقعتْ الغيبةُ الثّانية, فلا ظهورَ إلّا بعد إذن الله -عزَّ وجلَّ- وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتِي مَنْ يَدَّعي المشاهدةَ، ألا فَمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السّفيانيِّ والصّيحة، فهُوَ كذَّابٌ مفترٍ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللهِ العليِّ العظيمِ)، فنسخ وكلاء السمري هذا التوقيع وبعد ستة أيام عادوا إليه فوجدوه يحتضر وعندما سألوه من وصيه من بعده قال: للهِ أمرٌ هو بالغُهُ. ومات فكان هذا آخر كلام سمع منه (رضوان الله عليه).(5)
ولكن الإمام (عليه السلام) لم يكن ليترك شيعته بدون حجة ومرجع يرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم فقد جاء في تواقيعه الشريفة قوله: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم)، (6) وقوله (عليه السلام): (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه) (7)
السفير الرابع وخطورة المهمة
حفلت سفارة النائب علي بن محمد السمري ــ على قصرها ــ بالعديد من الأحداث السياسية، فقد جرت في سنوات سفارته الثلاث حروب وفتن كثيرة: منها استيلاء معز الدولة أحمد بن بويه على الأهواز، وحرب بجكم التركي من قبل الراضي العباسي مع البريدي، وفتنة ابن رائق وابن مقلة، واستيلاء بجكم على بغداد، ولشكري بن مردى خليفة وشمكير على أذربيجان، واستفحال أمر القرامطة الذين منعوا الحج ثم اقتتالهم فيما بينهم في فتنة ابن سنبر، كما جرت فتن واضطرابات كثيرة يطول شرحها في أصفهان وجرجان وواسط وبغداد والبصرة وغيرها من البلاد. (8) ورغم هذه الأوضاع السياسية المضطربة إلا أن السمري كان كفؤا للمهمة التي كلفه الإمام بها.
كان السمري من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) والمقربين إليه وقد كاتبه في حياته (9)، وقد كانت سفارته في عهد الخليفة العباسي الراضي بالله (أبو العباس محمد بن جعفر المقتدر) (322هـ - 329هـ) الذي وصف بسوء الخلق، والتحامل على الشيعة، وشهد عهده أشد الأزمات والتمزقات والانقسامات والخلافات المذهبية، حيث استقل البويهيون بفارس، والحمدانيون بالموصل وديار بكر وحلب، والأخشيديون بمصر والشام، والسامانيون بخراسان وما وراء النهر، والأمويون بالأندلس، والقرامطة بالبحرين واليمامة، فيما كانت بغداد التي كانت محط أنظار البويهيين واقعة تحت العصبية الطائفية وكان الحنابلة يسيطرون عليها.
وينقل لنا التاريخ صورة واحدة عما كانت عليه البلاد من الفوضى فقد جاء في حوادث سنة (٣٢٧هـ) أي بعد تولي السمري للسفارة بسنة واحدة ما نصه: (عاثت العامة في الأرض فساداً، وانقضوا على الحمامات العامة وأخذوا ثياب من فيها، وكثرت المصادرات، وتفاقم شرّ اللصوص الذين تسلّحوا بالعدد لكبس الدور ليلاً، وشكى الناس من غير جدوى إلى (بجكم) ما أحله بهم أصحابه من بلاء، وانتشرت الفوضى والمنازعات وساءت أحوال العراق) (10)
في تلك الفترة الصعبة والظروف الحرجة كان الشيعة يعانون عداء السلطة العباسية ومضايقتها لهم من جهة، والحرب الطائفية التي شُنّت عليهم من جهة أخرى، وهو ما جعل مهمة السمري في غاية الخطورة، ووجب عليه التعامل مع وكلائه بأشد حالات التكتم خوفاً على الشيعة ...
وهذه الأوضاع الصعبة والواقع المرير هو الذي حال دون وصول المعلومات الكافية والأخبار عن حياة السمري وتفاصيل نيابته، لكن ما جاء في حقه من كلام الإمام المهدي (عليه السلام) وأقوال علماء الشيعة الأعلام يدلنا على مكانته السامية ومنزلته الرفيعة وإنه أدى مهمته على أكمل وجه، وكان الأمين على إداء الأمانة وعمل بما أراده الإمام منه تجاه شيعته من إرشادهم وتوجيههم حسب إطلاعهم على تواقيعه (ع)، واستلام الحقوق الشرعية والتصرّف بها وفق ما خوله (ع) فيها
السمري في سجل التاريخ
وصفت المصادر السمري بالزهد والورع والتقوى ومما يروى من كراماته: أن جماعة من أهل قم حضروا عنده ببغداد فسألهم عن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه ــ والد الشيخ الصدوق ــ وكان من علماء الشيعة الأجلاء وفقهائهم الكبار فكان السمري يسألهم عنه كلما حضروا عنده فيخبروه بأنه قدْ ورد الكتاب باستقلاله. ولكن هذه المرة أردف السمري بعد قولهم هذا بالقول: آجركم اللهُ في عليّ بن الحُسين, فقدْ قُبض في هذه السّاعة فأثبت من كان معه تاريخ السّاعة واليوم والشّهر، فلمّا كان بعد سبعة عشر يوماً أو ثمانية عشر يوماً, وردَ الخبر أنّه توفي في تلك السّاعة التي ذكرها السمري (11)
وغير عجيب على السمري أن تجري على يديه هذه الكرامة وهو من اختاره الإمام المهدي (عليه السلام) نائباً عنه وسفيرا لشيعته، ولم تكن هذه هي الكرامة الوحيدة بل أكدت المصادر على أن كل واحد منهم كان يأتي ببرهان على سفارته فلم تقبل الشيعة قول السمري إلّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يده من قبل صاحب الأمر (عليه السلام) تدل على صدق مقالته وصحة بابيته (12)، ثم كانت الأموال تحمل إليه، فيخرج لهم التوقيعات وكان يذكر كمية الأموال جملة وتفصيلًا ويسمي أصحابها بالإعلام من قبل القائم (عليه السلام) له في ذلك (13).
وقد وصفت كل مصادر الشيعة السمري بالوثاقة والتبجيل والتعظيم فقد وصفه الشيخ المفيد: (بأنه أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة) (14)، وقال عنه الطبرسي: (صادق اللهجة في مقالته) (15). وقال عنه الشيخ الوحيد البهبهاني: (جلالته أشهر من أن تذكر) (16) ووصفه الشيخ عباس القمّي: بـ (الشيخ المعظّم الجليل) (17) وقال عنه الشيخ علي النمازي الشاهرودي: (وثاقته وجلالته أشهر من أن يذكر، وأظهر من أن يحرر، وهو كالشمس في رابعة النهار) (18) وقال عنه السيد حسن الصدر: (كان حجة المولى على المؤمنين، عالماً ربانياً زاهداً ورعاً، شيخنا في الحديث والفقه، وكان المرجع بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رض) وباب الأحكام للطائفة؛ وله حكايات وكرامات ومكاشفات رواها الثقات (19)
وكان السمري من رواة حديث الأئمة (عليهم السلام) روى له الطبري الشيعي (20) والأربلي. (21) وعده ابن شهراشوب من شعراء الشيعة وذكر أن له ديون شعر (22)، لكن لم يصل من شعره شيئاً (23) وأغلب الظن أن العصر الذي عاش فيه السمري والضغوط السياسية التي مورست على الشيعة من قبل السلطة العباسية هي التي حكمت على تراثه العلمي والأدبي بالكتمان
توفي السمري في بغداد ودفن في الجانب الغربي ببغداد ويقع قبره قرب قبر الشّيخ الكلينيّ (رحمهما الله تعالى).
محمد طاهر الصفار
الهوامش
...............................................
1 ــ الغيبة للطوسي ص ١٩٩
2 ــ إكمال الدّين وإتمام النّعمة للصّدوق: ص 467
3 ــ بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٥١ ص ٣٦١
4 ــ الكنى والألقاب ج 3 ص 268
5 ــ إكمال الدّين وإتمام النّعمة ص 467
6 ــ وسائل الشيعة للحر العاملي ج 27 ص 140
7 ــ الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 263
8 ــ الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 8 ص 201 ــ 234
9 ــ تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 305 / رجال الطوسي ص ٤٣٢
10 ــ تاريخ الإسلام حسن إبراهيم ج ٣ ص ٢٨ نقلا عن أبي بكر الصولي
11 ــ الغيبة، للطوسي ص395- 396 / بحار الأنوار ج ٥١ ص ٣٦١
12 ــ الاحتجاج ج ٢ ص ٤٧٨
13 ــ الخرائج والجرائح للراوندي ص ١٨٦
14 ــ رسائل المفيد ص ٣٦١
15 ــ الاحتجاج ج ٢ ص ٤٧٨
16 ــ تعليقة على منهج المقال ص 258
17 ــ الكنى والألقاب ج 3 ص 268
18 ــ مستدركات رجال الحديث ج 5 ص 450
19 ــ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص ٤١٢
20 ــ دلائل الإمامة ص ٢٨٦
21 ــ كشف الغمة ج ٢/ ص ٤١٧
22 ــ معالم العلماء: ١٣٧
23 ــ الذريعة في تصانيف الشيعة للطهراني ج ٩ ص ٤٧٠
اترك تعليق