لذاذ البصائر..

لا اختلاف على ان ابهى جماليات الفن في العمارة الاسلامية هي جماليات الالوان واستخدامها المنسق مع البنى المجاورة لها وبالخصوص في مجال الزخارف الاسلامية، فاللون يعد العنصر الأساسي في تلقين المتلقي وتحسيسه بتقريب فكرة ما أو أبعادها حسب اللون المستخدم على ارضية السطوح، على اعتبار ان اللون احد أضلاع مثلث جمالية الزخارف الاسلامية الى جانب النقش والتركيب.. فالزخرفة بطبيعة الحال لا تقتصر على المجال المادي فحسب بل تتعداه الى ما وراء المادة لملامسة الروح.

اللوحة الفنية لا تسمى بذلك إلا بتحقيق وحدة الألوان والرسوم والتناسق فيما بينها، حيث ان اللون له تأثير كبير على العين والنفس معا، ومن شأنه ادخال البهجة في الصدور وله أن يسدل على النفس ستار الشؤم في مواطن اخرى، وان من خواص الزخارف الاسلامية المهمة هي تراص الألوان المتعاكسة وتجانسها في المساحات الكبيرة بحيث تتشابك بتناغم مع المساحات البارزة والمنفرة لتخلق انطباعات لونية أخاذة، وهذا ما اكده كثير من دراسي الفن الاسلامي على مستوى العالم ومنهم  خبير الفن الاسلامي الالماني د. ريتشارد إتينغوسين حيث اكد ان استعمال اللون في العمارة الاسلامية يمثل بحد ذاته إنجازا اسلاميا محضاً ولا يتمكن منه الا الفنان الاسلامي .

   ان الفن الزخرفي شأنه شأن الفنون البصرية الأخرى قد تشكل كخطاب من ائتلاف عقلي روحي ليكون بالنتيجة نصاً تطالعه البصائر لا الأنظار، وذلك ما دأبت على تبنيه كل الفنون الرمزية والتعبيرية والتجريدية فيما بعد، فالفن الزخرفي قد وجد من عالم لا مرئي، ومذاقاته موائد مطلقة تمده بمعطيات يستطيع من خلالها أن يتحرر من عبودية الأطر المحدودة الموجودة في عالم الحس الظاهر الذي نال حظاً وافرا من الاهتمام في ميدان الفنون التشكيلية الاخرى عبر التنوعات التي تبعت الفن الاسلامي من الأساليب والمدارس الفنية المختلفة، في حين أن الظواهر التي التزمها الفنان المسلم لا تمثل إلاّ ركيزة من ركائز الحقيقة التي أُعلنت كهوية له، في محاكات الاشكال للوصول الى المطلق من خلال ملامسة الروح للأول والآخر والظاهر والباطن.. فلا وجود للأشياء والاشكال له بمعزل عن حقيقتها الباطنة أو الجوهر الذي أظهرها للوجود، فالأشكال لتكون فناً جميلاً مبهراً لابد ان تتحلى بما سبق ليكون الخطاب البصري ناطقاً بالحقيقة ومحركاً للبصائر ومعبراً عنها بالرجوع الى الله الخالق المبدع جل وعلا.

ولو أجرينا تحليلاً شاملاً للفن الزخرفي الاسلامي، لوجدنا انه بواقعه عبارة عن تكرارات مستمرة لمفردة ما.. يلح بها الفنان من أجل أن يتأمل المشاهد أبعادها، فالبعد الأول الذي يتجلى لنا هو أن هناك بداية تكفلت مساراً بصرياً وصلت به إلى نهاية، أو ما يطلق عليه نهاية الامتداد الزخرفي او التكرار، وما من شكٍ أن الفاعل أو الذي أظهر البداية والنهاية هو الفنان، فالفن الزخرفي ظهر بفضل الفنان.. كما أن لهذا الفن كوامن تبطن فيه وأقل هذه الكوامن هو كون النسيج الزخرفي يمثل فعلاً وفكرة وإرادة وقابلية وتمكين، ومن هذا يتضح لنا أن الزخرفة – كتجريد - استطاعت وبجدارة أن تحمل خطاباً يأتلف فيه الظاهر والباطن والأول والآخر، ولا يخفى علينا دور القرآن الكريم في تكوين جماليات الفن الاسلامي بوصفه خطاباً يحمل كل المعرفة الإلهية التي تختص بعالم الوجود.. ذلك الخطاب الذي شكل المعين الأعظم الواجب اللجوء إليه،  والذي وجد فيه الفنان المزخرف المصدر الأعم والأشمل الجامع لما سلف والحاضن لما هو آت، فالمزخرف المسلم بدلاً من أن يستند بخطابه شكلاً وباطناً لفكرٍ سابق، اتخذ من الخطاب القرآني والديني مرجعيات له يبدع من خلالها، باعتبار أن القرآن فيه خبر ما كان ويكون وما هو كائن .

ومن الجدير بالذكر في هذا الموطن الجمالي ان الفنان والمزخرف المسلم حين أسند بحوثه إلى الخطاب القرآني، إنما أراد بذلك تأصيل بحثه بتدعيمه بحقيقة تحفظه من الزوال وتجعله يشع بالجمال والحيوية والنقاء.. فالفنان المسلم المزخرف استطاع التماهي في حقيقة الوجود فكان فنه انعكاس لانغماسه الروحي العذب مع تلك الحقيقة.

اعداد سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات