يعد المجال الفني من أكثر المجالات عرضة للتحولات الابتكارية والإبداعية، وذلك بفعل تحرر الفن من سلطة التبعات التي تفرضها قوانين الطبيعة الفيزيائية، وبالتالي فالتحرر الكامل من كل القوى الضاغطة بغية تأسيس مسارات نسقية ثابتة لا تتغير.. وتؤدي إلى تكرارات وتناسخات ليس فيها إلى ما يحملهُ المنجز كنموذج فني، مما يجعل الإنجاز الفني يتوقف عند حدود الحرفة او الصفة التي تدفع بالفنان نحو تقنين الانتاج على الرغم من أهمية الصفة في تحويل المفاهيم العقلية الصورية إلى وقائع مدركة عيانياً وتشغل حيزاً من خارطة التقنيات الفنية داخل المشهد البصري .
من هذا المنطلق ومن خلال عملية تحرر الفن من هذه الضواغط وبعض الضواغط الاخرى مثل الضواغط المادية والتربوية وحتى الأخلاقية.. تحولت تراكيب الحرفي ونظم تكوينها إلى نظم إبداعية متفوقة ترتقي إلى مستوى التحول وديمومة الإبداع، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذه التحولات الإبداعية تحتاج إلى قدرة فائقة وفهم ووعي كبيرين لتنضج عملية البناء وتتكامل لغة التركيب بشكل منمق رصين يؤسس من خلاله الفن معرفته الخاصة في بناء أنظمته ونظرياته الجمالية الابداعية، وهذا لا يكون مدعاة لإدخاله ضمن حيز الثوابت والقوانين والأرقام والنظريات التي من الممكن ان تحيده عن مساره الإبداعي.. فالقوانين التي تؤسسها الأعمال الفنية هي قوانين لحظوية آنية تفرضها طبيعة المنجز والاتجاه الذي يشتغل عليه الفنان اثناء انجازه اللوحة، والتي لا تتجاوز كونها قوانين تركيبية آنية متوافقة مع سير التحولات التي تحدث على مستوى السطح التصويري .
وعليه فالفنان يحتاج إلى قدرة استثنائية ووعياً أكثر تفوقاً على الوقائع المادية والحسية المحيطة به، وهذه القدرة هي التي تكشف القوانين داخل نظام العمل وبالتالي اكتشاف أكثر الاحتمالات الناتجة بفعل التحولات الآنية للمنجز الفني، وإن هذه القدرة تنطلق عميقاً في جسد العمل مخترقة نظامه البنائي لتقع على علة الإنجاز وآليات حركتهِ وفعله الأدائي والأسلوبي في نفس الوقت، وهذا الإنجاز يحتاج بطبيعة الحال إلى هذه القدرة المتفوقة ليكون إنجازاً متفوقاً في قدرتهِ على تفعيل العلاقات الارتباطية والاتصالية بين عناصر وأسس التركيب الفني، وهو ما يطلق عليه تسمية ( الإنجاز الحادس ) الذي يتفوق في نظامه الأدائي على ما سواه من الإنجازات المجاورة .
ينطلق الانجاز الحادس في الفن من مساحة اللوحة ذاتها ثم العودة إليها، فهو يمثل إعادة كشف وقراءة أخرى لأسس التركيب البنائي للوحة من خلال معاينة معادلة بنائها ورصد حركة متغيراتها ومستويات تركيبها، على نحو يؤدي إلى وضع آليات مبتكرة تسهم في تحقيق المعادلة الفنية وذلك عندما يؤخذ بالحساب العلاقات الرابطة بين المقاييس النسبية داخل النسق المتحرك _ عناصر اللوحة - بشكل فاعل وسلوك المتغيرات داخل منظومة بناء اللوحة الموحد.. وهذا يتيح الفرصة المواتية لخلق تراكيب فنية جديدة ومتنوعة ذات فعل متكامل من العلاقات الارتباطية.. تنفتح بدورها إلى عدد هائل من التنويعات الابتكارية داخل مساحة العمل الفني الواحد.
إن الإنجاز الحادس طريقة معرفة يقدم من خلالها الفن نفسه عن طريق اللوحة التشكيلية، مع الإقرار الصريح بإشكالية فصل الشكل عن إحدى تجسيداته الفنية أو تعابيره المرجعية- المضامين -، مما يجعل الإنجاز الفني متفوقاً في نظامه ومظاهرهِ الابتكارية، ويكون ذلك من خلال سلطة الحدس العقلية والتي من شانها ان تبتكر المعطيات بفعل قدرتها على كشف وتحليل ما ركب من الاشكال ومن ثم إعادة تركيبها، وهذا ما يبدو واضحا في اسلوب بعض المدارس الفنية مثل اسلوب المدرسة الانطباعية وروادها، فعلى الرغم من تشابه المعطيات المتوفرة في المشهد الفني الا ان الرؤى المفسرة للمشهد البصري قد تميزت باختلافها، وهذا يعطي مؤثراً على قدرة الإنجاز الحادس لفعل هذا التباين .
وفي ضوء ما تقدم نستطيع القول إن الإنجاز الحادس هو ما يعطي للفن حيويته وديمومته وسرعة إنجازه وتنوع أدائه، ويعزى ذلك الى انه فعل معرفي عقلي المنحى يقود الشعور والإحساس إلى ما يمكن أن يحاكيهما ويحققهما بشكل يتناسب وقيمة الاندماج التركيبي للمنجز الفني أو الأداء الجمالي الذي ينظم صوره الإبداعية، وهنا تتأكد أهمية سلطة العقل والوعي المعرفي في تأسيس القيم الجمالية والأنظمة التركيبية الإبداعية .
اللوحة من ابداع الفنان التشكيلي العراقي الراحل حافظ الدروبي 1979 .اعداد سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق