اضواء على أساليب التربية القيادية في الاسلام ... التربية بالحوار انموذجا.

مما لا شك فيه  ان التربية بالحوار في المنهج الاسلامي بأنه  كل نداء أو خطاب أو سؤال يوجهه القرآن , أو يحكيه موجهاً إلى منادى أو مخاطبٍ أو مخاطبين, حول أمر هام, أو يوجهه النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) إلى أصحابه أو إلى المسلمين, بقصد توجيههم, أو توجيه اهتمامهم إلى هذا الأمر أو إلى تحقيق هدف معين  أو القيام بسلوك فكري أو اعتقادي أو اجتماعي أ وأخلاقي أو تعبدي.

ويمكن القول ان التربية بأسلوب الحوار تدفع المتعلم إلى الإيجابية والتفاعل والمشاركة بالأسئلة والاستماع والفهم, والتساؤل عما لا يدركه من أمور, كما أنها دليل على ثراء الموقف التربوي وتفاعل عناصره ومحتوياته, ومؤشر على وجود درجة عالية من التفاعل الإيجابي بين المعلم والمتعلم, وبذلك تكون أقرب إلى روح منهج التربية الإسلامية من أسلوب المحاضرات والتلقين[1].

وقد كان العلماء يشجعون تلاميذهم على المناقشة وإبداء الآراء ولكن مع مراعاة الأدب والاحترام دون أن يؤثر ذلك على علاقتهم ببعض ويعدون ذلك من الأمور الأساسية المعينة على التحصيل العلمي، حتى أن ابن خلدون  انتقد الركود الذهني في بلاد المغرب في القرن الرابع عشر الميلادي وعزاه إلى إهمال أسلوب الحوار والمناقشة في التربية والتعليم فقال:" وأيسر طرق هذه الملكة نتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها, ويحصل مراميها, فنجد طلاب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون. وعنايتهم بالحفظ أكثر مما تقتضيه الحاجة" [2].

 ومما يؤكد أهمية التربية بالحوار والمناقشة ما ذكرته بعض الدراسات من أن الإنسان لا يتذكر بعد شهر سوى 13% من المعلومات التي حصل عليها عن طريق السمع, في حين أنه يتذكر بعد شهر 70% من المعلومات التي حصل عليها عن طريق البصر, أما المعلومات التي حصل عليها عن طريق الحوار والنقاش والمشاركة فإنه يتذكر بعد شهر 95% منها [3].

ويمكن الإشارة إلى أبرز الأهداف المتحققة والفوائد الناتجة عن استخدام أسلوب التربية بالحوار والمناقشة فيما يأتي:

تكوين العواطف الإيجابية وتنميتها عن طريق إثارة الانفعالات الوجدانية وربطها بالسلوكيات المطلوبة. تربية الشخصية على الحماسة للحق وتحري الصواب والمطالبة بالحجة والدليل. تربية العقل على التفكير السليم والوصول إلى الحقائق بأسلوب صحيح. الارتقاء بالعلاقة الإنسانية بين المربي والمتربين لتقوم على التفاعل الإيجابي والاحترام المتبادل. تنمية روح الثقة بالنفس لدى كل من المربي والمتربي. إكساب الأفراد جملة من الآداب المتعلقة بالحوار والنقاش والمتمثلة في التزام النظام واحترام الآراء، فضلاً عن الأهداف والفوائد الأخرى التي يمكن تحقيقها باستخدام هذا الأسلوب الشيق في التربية.[4].

ونظراً لأهمية التربية بالحوار والمناقشة فقد اشتمل المنهج الاسلامي على العديد من النماذج التي تبرز هذه الأهمية, بل وقسمها إلى أنواع وأشكال تتناسب مع تعدد الأحداث والمواقف واختلاف نوعيات المخاطبين وحالاتهم, ولعل من أبرز أنواع الحوار الاسلامي في القران الكريم ما يأتي:

الحوار البرهاني والجدلي:

يمكن القول بانه موقف يحدث فيه حوار غايته إثبات الحجة على المخاطب, وإلزامه الإقرار بالأمر الذي وجد من أجله الحوار , وإقناعه به [5]. وهذا ما اكدة القرآن الكريم في قولة تعالى :} أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ* أَمْ خَلقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ* أَمْ لهُمْ سُلمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَليَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلطَانٍ مُبِينٍ .... أَمْ لهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُون {[6].

ويمكن القول ان مثل هذا الحوار كما في الآيات يقوم على إسقاط حجج الخصم ودفعه إلى التسليم بالحق الذي يراد هدايته إليه, عن طريق التفكير السليم والوصول إلى الحقائق بأسلوب صحيح يعتمد على الأدلة والبراهين[7] .

 الحوار الوصفي:

يقع هذا الحوار بين طرفين أو أكثر يصف الحالة النفسية والواقعية للمتحاورين, ويشعر القارئ والسامع بها فيتأثر بهذا الجو تأثراً وجدانياً ينمي فيه العواطف الإيمانية والسلوك الحميد, ويدفعه للاقتداء بالصالحين والابتعاد عن الفاسدين، ومن ذلك قوله تعالى:} إِنَّ الذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ* لهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ لِلهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لعْنَةُ اللهِ عَلى الظَّالِمِينَ* الذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ* وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَليْكُمْ لمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ* وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ* أَهَؤُلاءِ الذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَليْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ* وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَليْنَا مِنَ المَاءِ أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلى الكَافِرِينَ* الذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لهْواً وَلعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَاليَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُون﴾ 

 ويتضح من الآيات بان هذا الحوار يبدأ بالتعريف بأحوال الفريقين" أهل الجنة وأهل النار"، ثم ينتقل إلى عرض صورة حية للأحوال النفسية للفريقين, ويستعين بالمخيلة والوصف الدقيق في التأثير على القارئ أو السامع وتربية عواطفه الإيمانية, كما يعتمد على الإيحاء في بيان مصير كل من يتبع أحد الفريقين[8] .

الحوار القصصي:

هو يقع هذا الحوار بين شخصيات القصة يدل على ما يتوقع من أحداثها قبل وقوعه, أو يحكي ما جرى من تلك الأحداث بعد وقوعه, أو يصف دوافع شخصيات القصة التي تحرك سلوكهم, وهو يقتصر على القصص التي يغلب فيها جانب الحوار على الإخبار. وعلى سبيل المثال لا الحصر  قصة النبي يوسف (عليه السلام) التي جسدت نموذج الحوار القصصي المطول حيث استغرق الحوار معظم أجزاء القصة ومواقفها[9]، وكذلك قصة النبي شعيب (عليه السلام) مع قومه كما في قوله تعالى:} وَإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا المِكْيَال وَالمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَليْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَال وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَليْكُمْ بِحَفِيظٍ* قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أو أَنْ نَفْعَل فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ* قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ* وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أو قَوْمَ هُودٍ أو قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِليْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ* قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلوْلا رَهْطُكَ لرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَليْنَا بِعَزِيزٍ* قَال يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَليْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ* وَلمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الذِينَ ظَلمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ* كَأَنْ لمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُود { [10].

مما لا شك فيه ان هذا النوع من الحوار مؤلف من مجموعة أسئلة وعدة نصائح متتابعة تتخللها بعض الأجوبة والتعليقات, والهدف من هذا الحوار الذي يعتمد على الإيحاء الحث على تطبيق المنهج الرباني في واقع الحياة؛ ضماناً لتحقيق السعادة والنجاة من العذاب الذي يحل بالمخالفين والظالمين[11].

ومن اجل ان تحقق التربية بالحوار لابد من مراعاة عدة عوامل مهمة في إنجاح أي حوار ولاسيما عندما يتعلق الأمر بتربية وإعداد القيادات, ومن أبرز هذه العوامل:

إصلاح النية وإخلاصها لله تعالى، وتحديد الهدف من الحوار والمناقشة. تكوين فكرة عامة عن نفسية المقابل واهتماماته ومشكلاته, وإشعاره بالمعرفة التامة به. تفهم أحول الأفراد وأوضاعهم والانطلاق منها خلال الحوار معهم. الانطلاق من المتفق عليه وتأجيل المختلف فيه.  إشعار الأفراد بالمحبة عبر الابتسامة الصادقة والكلمة الطيبة والهدية البسيطة. إشعار الأفراد بالتقدير والاهتمام عبر التواضع في المعاملة واللين في الخطاب, ومخاطبتهم بأحب أسمائهم والتكلم بما يتناسب وإدراكهم. التزام الموضوعية في الحوار والبعد عن الشخصانية.  دفع الأفراد للوصول إلى الحقائق بأنفسهم حتى يلتزموا بها عن اقتناع[12] .  

 

[1] زياد محمد ،أساليب الدعوة والتربية في السنة النبوية، (بغداد: شركة الراشد للطباعة، د.ت)، ص354،

[2] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون ، (بيروت: دار القلم،1981)، ص274.

 

[3] طارق السويدان , فيصل باشراحيل ، صناعة النجاح،(بيروت: دار بن حازم، 2002)، ص164.

 

[4] علي أحمد مدكور، منهج التربية في التصور الإسلامي،(القاهرة: دار الفكر العربي، 1422ه)، ص345-346.

[5] عبد الرحمن النحلاوي، أصول التربية الإسلامية ،( بيروت: دار الفكر المعاصر،1995)، ص224.

 

[6] سورة الطور، الآية 35- 43.

 

[7] عبد الرحمن النحلاوي ، المصدر السابق، ص220،

[8] المصدر نفسة ، ص 222.

 

[9] المصدر نفسة ، ص222

[10]سورة هود، الآية 84- 95

[11]       عبد الرحمن النحلاوي ، المصدر السابق ، 63- 68.

 

[12] طارق السويدان , فيصل باشراحيل ، المصدر السابق، ص 166- 170.

المرفقات