من صفات الروح في الفن الإسلامي، هي التوفيق والانسجام بين الطبيعة الداخلية الذاتية والطبيعة الخارجية الموضوعية للأشكال الفنية، أي إعطاء كل قسم من هذين القسمين نصيبه من النظرة إلى الحياة، وهذه الصفة بديهية في الروح الإسلامية ، ففي القرآن الكريم تنسجم النظرة الذاتية مع الموضوعية بتوافق تام من خلال صرف نظر البشر نحو الصور الظاهرية والمعنوية على حد سواء كما في قوله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ، وعلى المستوى الجمالي نجد في قوله جل وعلا ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )، وفي ذلك إشارة واضحة إلى الجمال الصوري الظاهري، ومثلما يقع الجمال في الصور الخارجية يقع في المعاني أيضاً، فالحياد المنصف والإيجابي والاتجاه المعتدل بين طرفي المواقف والقضايا الجمالية المختلفة - الذاتي والموضوعي ، المجرد والمادي ، اللاشعور والشعور - هي سمة من سمات الخطاب القرآني لروحية المسلم ، فكما أن الروح تحتاج إلى مغذيات معنوية تسمو بها عن المجردات الذاتية – على الصعيد الفردي- ، يجد المتأمل بالطرف المقابل توجيه الاهتمام بالجسد الظاهري المادي والانزياح به نحو التطهير والتعفيف الموضوعي، سواء بما يتعلق بالجسد نفسه أو ملبسه ( وثيابك فطهرْ ) ، فليس من المستغرب أن تكون نظرة الفنان المسلم تجاه المواقف الجمالية متأرجحة بين الذاتي والموضوعي .
من هذا المنطلق نجد إن الفنان المسلم ، لم يكن أبداً ذا نظرة ذاتية بحتة، أو موضوعية متطرفة، بل هو ميال على الدوام للتوفيق بين الصورة الخارجية العيانية وبين الصورة الذهنية الذاتية ، وبأي شكل كانت حسية أم خيالية أم عقلية ، فالمفاهيم والصور الذهنية تتميز عادة بكونها مرآة الأشياء الخارجية وكاشفة وحاكية عنها.. وما عين الفنان المسلم سوى عين ذات بصر وبصيرة وليست ذات بصر فقط، فهي تتجه للأعراض او الاشكال الخارجية بحثاَ عن جواهرها وكوامنها ، من منطلق ان العرض زائل متغير، أما الجوهر فهو ثابت على الدوام ، وهو في تلك الحالة يوظف آليات إدراكه الحسي لالتقاط الجزيئات، أما المفاهيم الكلية العامة فيوظف لإدراكها آلياته الحدسية أو التخيلية وصولاً للمفاهيم المجردة العقلية .
ومن الطبيعي إن الفنان أول ناقد لأعماله ، فحين يصدر حكماً جمالياً على عمله الفني ، فانه يكون في أحد أمرين " أما انه يحدثنا عن خصائص الشيء نفسه فيتبين فيها جمالاً أو قيماً بحسب مفهومات عامة خارجية للجمال والقبح فيكون بذلك ناقدا موضوعيا ، وإما أن يحدثنا عن إحساسه الخاص إزاء هذا العمل ، فيكون إحساس الرضا حيناً ، والنفور حيناً ، فهو عندئذ ناقد ذاتي.. والحكم الجمالي قد ينصب على جمال موجود في الشيء ذاته فيكون موضوعياً ، وقد ينصب على الشعور الممتد عنه فيعد ذاتياً، وهنا نجد أن الصورة الذاتية والموضوعية للحكم الجمالي يتبناها البعض عن طريق كيفية أدراك تلك الصورة واطلاق صفة القبح او الجمال عليها.
ان علاقتنا بالمحيط الخارجي لا تحددها الرؤية المجردة بالتصور الذي تحدده الحواس، لأنها تستقبل المواد الأولية التي تكون الإدراك العقلي.. وعن طريق هذه العلاقة يكشف الإنسان عما يحيط به من معالم خلق الله، وان كل حس ينقل من الواقع خاصية معينة وكأن كل حاسة تدرك جزءاً من هذا الكون ليتم التفاعل بين الإنسان وكونه وبين المخلوق والخليقة والخالق جل وعلا، ولأن المحورين الرئيسيين في التركيبة النفسية للإنسان عموما هما: الإحساس باعتباره القوة الجاذبة للذات الإنسانية إلى الكون ، والإدراك لأنه يمثل فهم هذا الكون.. لذا ارتبطت الصورة الفنية عند رسامي المنمنمات بهذين المحورين وبشكل اساسي، فهما اللذان يحددان الصيغة الفنية والدلالية للخط في رسوماتهم .
اما عن ماهية هذين المحورين ، فيبدو انهما قد شكلا أساس الذوق الجمالي للفنان المسلم عموماً وعند مبدعي المنمنمات خصوصاً، وعند فهمنا لمعنى الإدراك والياته الحسية والتخيلية والعقلية، فالأشياء تكون معلومة بالحس وبالعقل و بالأشكال المتخيلة التي هي متوسطة بينهما والذي يتضح من خلالها طبيعة رسوم المنمنمات وإلى أي نمط ذوقي تنتمي، فضلاً عن منهجيتها في صياغة خصائص الخط ، كون الإدراك عملية ذهنية معقدة ذات مستويات عدة نجد بعضها متواجدة عادة وبدفعة واحدة .. وهي :
المستوى الأول : الأحاسيس بأنواعها ، او الحس الظاهر أو القوة الحاسة كما يطلق عليها الفلاسفة المسلمين ، وهي التي تدرك المحسوسات الخمس المعروفة : البصرية والسمعية والشمية واللمسية والذائقية، غير ان الحس الظاهر لا يميز بين الجميل والقبيح ولا الضار والنافع ، كما انه لا يدرك الصورة إلا وهي متحققة في مادة ، كما يذهب بعض منظري الجمال إلى ان الحس الظاهر لا يدرك محسوساته إلا في المادة ، فالحس الظاهر لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواحقها ، ولا يمكن ان يبقي تلك الصورة إن غابت المادة ، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن المادة نزعاً محكما ، بل يحتاج إلى وجود المادة أيضاً في ان تكون تلك الصورة موجودة له، ولما كان الحس الظاهر غير قادر على أدنى قدر من تجريد الشيء عن مادته ، إذ لا مخلص له إلا ان يكون مجرد الصورة، فهو عاجز تماما عن إدراك معنى ما في الصورة المحسوسة ، إنما ذلك ما يحققه الحس الباطن ، الذي يدرك الصورة والمعنى معاً ، ورسوم المنمات لا تنتمي لهذا المستوى من الإدراك وذلك لأمرين ، الأول هو مغايرة الصورة الفنية للصورة المرئية عند اغلب مبدعي هذا الفن ، والثاني ما تحدثه من تنبيه حسي الذي يعد مجرد تنبيه عن الكيفية الحسية ، وما الإدراك الحسي الذي يصاحب التعرض اليها إلا الارتكاز الأولي أو هو أبسط العمليات العقلية ، كونه " لا يكشف عن جوهر الأشياء ، بل عن مستواها السطحي فحسب.
اما المستوى الثاني: وهو الاهم اذ يترسخ في المخيلة .. فالمستوى التخيلي والذي يقع ضمن قوى النفس الباطنة ، والتي حددها بعض فلاسفة ومنظري علم الجمال بخمس قوى متمثلة ب الحس المشترك ، والمصورة أو الخيال ، والمخيلة ، والوهم ، والحافظة أو الذاكرة .
والمهم فيما نطلب من مقاصد تلك القوى ، هو ترتيب مكان كل منها وفقاً للدور الذي تقوم به في عملية الإدراك ، ومدى بعده عن الحس وقربه من التجريد ، فالحس المشترك هو القوة التي تقبل جميع صور المحسوسات التي أدركتها الحواس الظاهرة ، وهو القوة التي تصل الحس الظاهر بالحس الباطن و الذوق بين الحس الظاهر والحس المشترك أن الحس الظاهر يدرك الصورة في طينتها ، أما الحس المشترك ( أو الحاس ) فهو قوة نفسانية مدركة لصورة المحسوس مع عينة طينته فالحس المشترك بناءً على هذا يدرك الصورة أكثر من مرة ، لكنه يستثبت الصورة بعد زوالها ، ولا يشترط وجودها من مادتها ، ومن ثم فهو يحقق درجة من درجات تجريد الصور عن المادة وذلك ما يميز فعله عن فعل الحس الظاهر في تصور بعض الفلاسفة العرب ، أما القوة المصورة فتختلف عن الحس المشترك - وأن بدا أنهما قوة واحدة - فالحس المشترك يقبل الصور ولا يحفظها أو يخزنها مثل المصورة أو الخيال، فهذه القوة تجرد الصورة وتفصلها عن المادة تجريداً تاماً.. وأن كان يأخذها عن المادة فهو لا يحتاج إلى وجود المادة اصلاً ، لأن غيابها لا يحول دون وجود الصورة ثابتة في الخيال، ولكن .. الصورة لا تكون مجردة عن اللواحق المادية ، فالخيال لن يصل الى الصورة المبتغاة كما هو شأن الحس أن يؤدي إليها بشكل او باخر ، فالحس لا يمكن أن يستثبت الصورة بعد غياب مادتها بل يحتاج إلى وجود المادة أساساً، وهو لا يدرك الصورة إلا متحققة في مادة ، لأن الصورة التي في الخيال هي على حسب الصورة المحسوسة اصلاً.
أما المستوى الثالث فهو المتخيلة وهي القوة المتوسطة بين الحس والعقل، والتي تمثل القوة الباطنة الثالثة فهي حسب ترتيب بعض فلاسفة الجمال بالقوة التي لا يقتصر عملها على استعادة صور المحسوسات وتذكرها ثم إعادة تركيبها مرة أخرى ، بل يشمل أيضاً المعاني الجزئية التي تمثل القوة الحافظة للأشكال، فهي تُفعل في الخيالات تركيباً وتفصيلاً وتجمع بين بعضها البعض وتجمع بينها وبين المعاني المبتغاة، وهذه القوة إذا استعملها الفكر سميت ( مفكرة ) ، وإذا استعملها الوهم سميت متخيلة وهي اضعف القوى الباطنة.. فعلى الرغم من أن المتخيلة لا تعمل بدون الحس كونها تعد صور المحسوسات المادة الأساسية لعملها ، فأنها تغاير قوى الحس بشكل قد يكون مباشراً، فباستطاعتها أن تحكم على المحسوسات بعد غيبتها وهذا بحد ذاته يضعف الرؤية الجمالية، فالقوة المتخيلة إذ تستمد فاعليتها من الحس فأنها تصير عرضة للزلل والشطط وذلك لاعتمادها في معرفيتها الأولى على معرفية الحسي القاصرة.. وهي مرتبطة ارتباطاً لا انفكاك منه بالانفعالات والغرائز حيث يعمل الحسي على شدها إليه، ومن ثم تتسلط عليها الغرائز والانفعالات وتقودها إلى أن تعمل وفقاً لأهوائها وهذا يبعد القارئ عن الرؤية الجمالية الحقة عن الموضوع الجمالي المحمول في تفاصيل اللوحة.
الصورة اعلاه احدى المنمنمات الاسلامية المحمدية التي رسمت في العصر الوسيط، وتمثل رسول الله وهو يقطع نزاع الاقوام المتنازعة على وضع الحجر الاسود في مكانه.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق