يُقاس رُقي الأمم بما خلد أبطالها من مآثر وما أشخصوا من مكارم فهي معيار سمّوها ورفعتها، والتاريخ الإسلامي يزخر بهذا التراث الضخم من المآثر والمناقب, ويشمخ بعلو هامته على كثير من حضارات الأمم. ورغم تعاقب السلطات الجائرة على الحكم والتي حاولت لأغراض سياسية أن تمحو هذه المآثر والنيل من أبطالها إلا أنها شخصت في أعماق التاريخ وأشرقت في غياهب الزمان لتدل على أصحابها.
وفي بطون التاريخ أشرقت صفحات ناصعة كثيرة لم يستطع الحاقدون تلويثها وإخماد جذوتها، من هذه الصفحات تلك التي سطرها بطل من أبطال الإسلام وعلم من أعلام التاريخ الإسلامي هو شبل أمير المؤمنين (ع) محمد بن الحنفية.
أمّه السيدة خولة
أجمعت المصادر التاريخية على أن السيدة خولة ـــ زوجة أمير المؤمنين (ع) وأم محمد بن الحنفية ــ هي من السبايا, ولكن المؤرخين اختلفوا في مصدر السبي, حتى بلغ الاختلاف عندهم أن شطّ عن الواقع التاريخي الذي حدّد حياة ابنها محمد والحقبة التي عاش فيها.
ومن هذه الأقوال في ذلك هو:
إن رسول الله (ص) بعث علياً إلى اليمن، فأصاب خولة في بني زبيد، وقد ارتدّوا مع عمرو بن معدي كرب، وصارت في سهمه (ع) وذلك في عهد رسول الله (ص)، فقال له رسول الله (ص):
إن ولدت منك غلاماً فسمّه باسمي وكنّه كنيتي. فولدت له غلاماً فسمّاه محمّداً، وكنّاه أبا القاسم. (1)
وقيل: إن بني أسد بن خزيمة أغارت على بني حنيفة، فسبوا خولة بنت جعفر، ثم جاءوا بها المدينة في أول خلافة أبي بكر فاشتراها علي (ع)، وبلغ الخبر قومها، فقدموا المدينة على علي (ع) فعرفوها، وأخبروه بموضعها منهم، فأعتقها علي ومهرها وتزوّجها، فولدت له محمداً ابنه.
وقد كان (ع) قال لرسول الله (ص) أتأذن لي إن ولد لي غلام بأن أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك فقال: نعم. فسمّى ابن الحنفية محمداً وكناه أبا القاسم. (2)
وقيل: إنها من سبي اليمامة في الحرب التي وقعت على مسيلمة الكذّاب بين بني حنيفة وأبي بكر في زمان حكومته, وأنها كانت أَمةً لبني حنيفة سندية سوداء ولم تكن منهم، و إنّما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم (3)
وقيل: أنها من سبي بني حنيفة وجاء بها خالد بن الوليد عندما غدر بمالك بن نويرة وقتله (4)
وهناك أقوال أخرى تركناها لخلافها الواقع التاريخي.
وقد دلت الشواهد والقرائن التاريخية على أن القول الأول هو الراجح والذي أثبت أن خولة سُبيت على عهد رسول الله (ص) ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن حجر في الإصابة وغيره من أن: خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية، والدة محمد بن علي بن أبي طالب، رآها النبي (ص) في منزله فضحك، ثمّ قال: يا علي أما إنك تتزوجها من بعدي، وستلد لك غلاماً فسمه باسمي، وكنه كنيتي وأنحله. (5)
ويؤيد ابن حجر قول ابن الكلبي في جمهرة النسب: من قال: إن خولة من سبي اليمامة فقد أبطل (6)
كما يؤكد ذلك تاريخ حياة ابنها محمد فقد اتفقت أغلب المصادر على أن وفاته كانت سنة (73), كما اتفقت أغلبها أيضاً على أنه مات وله من العمر (65) سنة وهذا يعني إن ولادته كانت سنة (8هـ) في حياة رسول الله (ص) وإن خولة كانت جارية لأمير المؤمنين وقد تزوجها بعد وفاة الصديقة الزهراء وبعد زواجه من أمامة التي لم تلد له.
ويؤكد ذلك أيضاً إن رسول الله عندما بعث علياً إلى اليمن ليأخذ الخمس من خالد وأصحابه اصطفى جارية، وأصابها، فشكوه إلى رسول الله (ص) فناصره عليهم.
وهذا لا ينفي القول المؤكد من أن أمير المؤمنين لم يتزوج على الصديقة الزهراء (ع) في حياتها فهو لم يتخذ خولة زوجة دائمة في حياة فاطمة (ع)، بل أم ولد فيكون أولد خولة قبل شهادة فاطمة (ع) وأعتقها ثم تزوجها بعد شهادتها (ع) فولادة محمد كانت على عهد رسول الله (ص)
كما أكد ذلك الامام (ع) نفسه فيما كتبه لكي يقرأ على الناس يوم الجمعة:
ولولا خاصّةٌ بينهما ــ أي بين عمر وأبي بكر ــ وأمرٌ كانا رضياه بينهما لظننت أنّه لا يعدله عنّي وقد سمع قول رسول الله (ص) لبريدة الأسلمي حين بعثني وخالد بن الوليد إلى اليمن وقال: إذا افترقتما فكل واحد منكما على حياله وإذا اجتمعتما فعليّ عليكم جميعاً، فاغرنا وأصبنا سبياً فيهم خويلة ــ خولة ــ بنت جعفر جار الصفا ــ وانما سُمّي جار الصفا من حسنه ــ فأخذتُ الحنفية خولة، واغتنمها خالد مني، وبعث بريدة إلى رسول الله محرِّشاً عَلَيَّ فأخبره بما كان من أخذي خولة، فقال (ص): يا بريدة ! حظّه في الخمس أكثر ممّا أخذ، إنّه وليّكم بعدي، سمعها ــ الاثنان ــ وهذا بريدة حيّ لم يمت، فهل بعد هذا مقال لقائل !. (7)
كما ورد عن أسماء بنت عميس أنّها قالت: جاء علي بالحنفية أوان مقدمه من اليمن، فوهبها لفاطمة. (8)
قصة السبي
وملخص قصّة سبيها كما ورد في المصادر المعتبرة ومنها البحار للمجلسي والإرشاد للمفيد وغيرهما من المصادر: إن رسول الله (ص) لما عاد من تبوك إلى المدينة وفد عليه عمرو بن معدي كرب الزبيدي من اليمن فعرض عليه النبي الإسلام فأسلم وأسلم معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم.
بعد فترة جاء عمرو إلى المدينة فوجد رجلاً يدعى أبيّ بن عثعث الخثعمي وهذا الرجل قتل والد عمرو في الجاهلية فأمسك عمرو برقبته وجاء به إلى النبي (ص) ليقتص منه فأجابه النبي: بأن الإسلام قد أهدر ما كان في الجاهلية والخثعمي الآن هو رجل مسلم
غضب عمرو وارتد عن الإسلام ورجع إلى قومه وقام يحرض على رسول الله وأغار على قوم من بني الحارث بن كعب وهم مسلمون ومضى إلى قومه !!
لقد أسلم عمرو ولكن النزعة القبلية الجاهلية تغلبت على قلبه والنبي جاء لمحق هذه الجاهلية والوحشية في النفوس وتحطيم أصنام النفس الأمارة بالسوء والكبر قبل أصنام الحجر.
استدعى رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع) وأرسله قائداً على سرية من المهاجرين لقتال عمرو وبني زبيد، كما أرسل خالد بن الوليد على رأس جماعة من الأعراب وأمره بالمسير إلى جعفى ــ وهي قبيلة قحطانية من سعد العشيرة ــ ، فإذا التقيا فأمير الجيشين أمير المؤمنين (ع).
فسار أمير المؤمنين (ع) ونصب على مقدمة جيشه خالد بن سعيد بن العاص ونصب خالد على مقدمة جيشه أبا موسى الأشعري.
وأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فذهبت فرقة إلى اليمن وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (ع) فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي.
ولكن خالد عصى أمر أمير المؤمنين فلم يقف !
فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص: تعرّض له حتى تحبسه.
فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أمير المؤمنين (ع) فعنّفه على خلافه !
ثم سار (ع) حتى لقي بني زبيد بوادٍ يسمى كثير، فلما رأوه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا أبا ثور ــ وهي كنية عمرو وكني بها لشجاعته ــ إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة ؟
قال: سيعلم إن لقيني !
وخرج عمرو فقال: من يبارز ؟
فنهض إليه أمير المؤمنين (ع) وقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه.
فقال له أمير المؤمنين (ع): إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك. فتوقف خالد. ثم برز إليه أمير المؤمنين (ع) فصاح به صيحة فانهزم عمرو !
وقتل أمير المؤمنين (ع) أخا عمرو وابن أخيه وسُبيت نساء من زبيد.
وانصرف أمير المؤمنين (ع) وترك على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمِن من عاد إليهم ممن هرب مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له، فعاد إلى الإسلام، فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له.
وكان أمير المؤمنين (ع) قد اصطفى من السبي جارية، فغضب خالد بن الوليد وبعث بريدة الأسلمي ومعه كتاب منه إلى النبي (ص) وقال له: تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقِعْ فيه !
فسار بريدة حتى دخل المدينة وجاء إلى باب رسول الله (ص) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه فقال له عمر:
إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي !
فدخل بريدة على النبي (ص) ومعه كتاب خالد وفيه يطعن بأمير المؤمنين وينتقص منه.
أخذ رسول الله (ص) كتاب خالد وقرأه فتغيّر وجهه فقال بريدة وهو يظن أن رسول الله قد غضب على علي (ع) فأراد أن يدعم كتاب خالد بقوله:
يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم !
لكن رد رسول الله كان عكس ما كان يتوقع بريدة فقال له (ص) غاضباً:
ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ؟
إن علي بن أبي طالب يحل له من الفيء ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي ! يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله ! (9)
وفي رواية: والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة، وإن كنت تحبه فازدد له حباً (10).
وفي رواية: لا تقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي (11)
ارتجف بريدة وهو يتمنى أن الأرض قد انشقت وابتلعته ولم يكن قال ما قال, فقال: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله, يا رسول الله إستغفر لي، فلن أبغضن علياً أبداً ولا أقول فيه إلا خيراً، فاستغفر له النبي (ص).
هذه مجمل قصة خولة ولقائها بالإمام أمير المؤمنين (ع) وبذلك فإنّ محمّد بن الحنفية هو الولد الثالث من ولد الإمام وهو أكبر أولاد الإمام علي (ع) بعد الإمامين الحسن والحسين (ع). وهناك اتفاق تام على أنه كان بجنب والده في حروبه في الجمل وصفين والنهروان.
نسبها
أما نسب السيدة خولة فقد ذكر الطبري (12) والبلاذري (13) ومحمد بن سعد (14) نسبها وهو:
إنها خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم
وقد أكمل السمعاني (15) وابن الأثير الجزري (16) نسب خولة إلى عدنان فقالا:
لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان..
أما أمها فهي: أسماء بنت عمرو بن أرقم بن عبيد بن ثعلبة (17)
وهي من بني حنيفة أيضاً وهي بنت عمّ زوجها وهما يلتقيان عند الجد الثاني وهو عبيد بن ثعلبة كما هو واضح من نسبيهما, وهذا ما اتفقت عليه كل المصادر المعتبرة على نسب السيدة خولة.
والذي دعانا إلى ذكر هذا النسب العريق والأصل المحتد للسيدة خولة والذي استقصيناه من جميع المصادر التاريخية المعتبرة, هو أن بعض النفوس المبغضة أرادت التلاعب بهذا النسب العربي الصريح, فروت بعض المصادر عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت:
رأيت أم محمد بن الحنفية سندية سوداء وكانت أَمة لبني حنيفة ولم تكن منهم وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم. (18)
والطريف في الأمر أن من روى هذه الرواية الكاذبة أثبت أيضاً نسب السيدة خولة العربي الذي ذكرناه !!
ورواية أسماء لا اعتبار له أمام اتفاق المصادر على نسبها الأصيل, لأنها قد جنفت عن الحق واستندت إلى البغض الذي تكنّه أسماء بنت أبي بكر وابنها عبد الله بن الزبير لمحمد لامتناعه عن البيعة مع جماعة من بني هاشم لابن الزبير عندما دعا البيعة لنفسه في مكة بعد مقتل الامام الحسين (ع).
فلم تجد أسماء في محمد ولا في أمه ما يُعاب فالتجأت إلى هذا القول الزائف للتقليل من شأنهما, ومما يؤكد ذلك أنه لم يرد مثل هذا القول من غيرها من نساء المهاجرين والأنصار وخاصة أسماء بنت عميس التي كانت خولة في دارها بعد سبيها فأكرمت مثواها, كما يدل اسم خولة على أصلها فهو اسم عربي صميم.
ويدحض قول أسماء ما روي عن بريدة بن الحصيب قال: أصبنا سبياً، فكتب خالد إلى رسول الله (ص): ابعث إلينا من يخمسه, وفي السبي (وصيفة هي من أفضل السبي). (19)
كما ينافي قول أسماء أيضاً ما ورد عن الإمام الصادق (ع) ما نصه:
وقع بين الحسين بن علي ومحمّد بن الحنفية كلام، حَبَس كل واحد منهما عن صاحبه، فكتب إليه محمّد بن الحنفية:
أبي وأبوك علي، وأمي امرأة من بني حنيفة لا ينكر شرفها في قومها، ولكن أمك فاطمة بنت رسول الله (ص) وأنت أحق بالفضل مني، فصر إليّ حتى ترضّاني، فلبس الحسين رداءه ونعله وصار إليه فترضاه (20)
وقول محمد: (لا ينكر شرفها في قومها) يدل على أنها كانت سيدة جليلة ذات منزلة ومكانة كبيرة في قومها.
كما يدحض قول أسماء بنت أبي بكر كلام أمير المؤمنين حينما ذكر أبا خولة بقوله ــ وانما سُمّي جار الصفا من حسنه ــ وهذا الوصف الذي أطلق ينفي نفياً قاطعاً رواية أسماء بنت أبي بكر الكاذبة.
شرف الاسم والكنية
وحسب هذه السيدة الجليلة فخراً أن تكون أمّاً لأبي القاسم محمد وهي ميزة اجتمعت لمحمد في الاسم مع الكنية دون غيره, حيث أن رسول الله (ص) امتاز عن الأمة بخصائص لم يشاركه فيها أحد, منها: أنه لم تسمح الشريعة المطهّرة لأحد من الناس بالجمع بين الاسم بمحمد والكنية بأبي القاسم تأدباً مع صاحب الرسالة وتكريماً لجلالة النبوة, حيث ورد عنه (ص) أنه قال: (سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي). لكنه (ص) أصدر الرخصة لعلي بذلك فقال (ص): يولد لعلي (ع) مولود من غير ابنتي فاطمة فقد أنحلته أسمى وكنيتي وهو محمد بن علي. (21)
وهذا من خصائص النبوة, ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن سعد: إن طلحة أراد تهييج الرعاع يوم الجمل وتجرّأ على الوقوف بوجه أمير المؤمنين (ع) معترضاً بوقاحة فقال: لا كجرأتك تسمي بإسمه وتكنّي بكنيته !!
فقال له أمير المؤمنين (ع): الجريء من اجترأ على الله ورسوله. ثم نادى علي (ع): يا فلان إدع لي فلاناً وفلاناً، فجاء جماعة من أصحاب النبي (ص) من قريش فشهدوا إن رسول الله (ص) رخّص لعلي أن يجمع الاسم والكنية. (22)
وفي ذلك يقول السيد الحميري:
ألم يَبلغك والأنبـــــــاءُ تُنمى *** مقـــــــــــالَ محمدٍ فيما يؤدي
إلى ذي علمهِ الهــادي علي *** وخولة خـــادم في البيت تردي
ألم ترَ أن خولةَ سـوف تأتي *** بواري الزندِ ضافي الخيمِ نجدِ
يفوز بكنيتي واســمي لأني *** نحلتــــــهما إلى المهدي بعدي
والإشارة في البيت الأخير واضحة إلى الإمام المهدي المنتظر (ع) الذي تضافرت الروايات عن النبي (ص) والأئمة الطاهرين (ع) في اسمه وكنيته في مصادر الفريقين منها: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي.
وجاء هذا الاعتقاد بأن محمد بن الحنفية هو الإمام المهدي لأن النبي الأكرم (ص) رخّص في ذلك – أي التسمية والكنية – للحجة المنتظر (ع), ورخصهما لعلي (ع) في محمد بن الحنفية كذلك وهو اعتقاد خاطئ.
وكان السيد الحميري عندما قال هذه الأبيات كيسانياَ يعتقد بأن محمد بن الحنفية هو الإمام المهدي المنتظر (ع) وله أشعار كثيرة في ذلك فكان يعتقد – وهذا زعم الكيسانية – إن محمد بن الحنفية لم يمت وإنه حي في جبل رضوى وعنده عينان عين من الماء وعين من العسل يأخذ منهما رزقه، وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه، ومن شعره في ذلك:
يا شِعب رضوى ما لمنْ بكَ لا يرى *** حتى متى تخفى وإن تقريبُ
يا ابن الوصــــــــي ويا سمّيَ محمدٍ *** وكنّيــــه نفسي عليكَ تذوبُ
لو غاب عنــــــــــا عمر نوحٍ أيقنت *** منا النفــــوسُ بأنه سيؤوبُ
لكن السيد الحميري رجع عن معتقده الباطل هذا واعترف بإمامة الصادق والأئمة من بعده عندما التقى بالإمام الصادق (ع) في مكة المكرمة أيام الحج فناظر الإمام (ع) وألزمه الحجة ومن ثم استبصر واهتدى وفي ذلك يقول:
ولما رأيت الناسَ في الدينِ قد غووا *** تجعفرتُ باسمِ اللهِ فيمن تجعفروا
وناديتُ بـــــــــــــاسمِ الله والله اكبر *** وأيقــــــــــنتُ أن الله يعفو ويغفرُ
محمد بريء من الكيسانية
كانت هذه الفرقة الضالة قد ظهرت بعد مقتل الحسين (ع) وقالت بإمامة محمد بن الحنفية بعد الإمام الحسين (ع)، وبالطبع فإن محمداً لم يدّعِ الإمامة وحاشاه أن يدعي ما ليس له وقد تضافرت الروايات عن الأئمة الطاهرين (ع) بأنه كان معترفاً ومقراً للإمام زين العابدين (ع) بعد مقتل أبيه الحسين (ع) ومنها قول الإمام الصادق (ع): ما مات محمد بن الحنفية حتى أقرّ لعلي بن الحسين بالإمامة. (23)
وهو أجلّ قدراً وأرفع شأناً من أن يخالف وصية النبي وأمير المؤمنين في الأئمة بعدهما، ورغم أن هذه الفرقة الضالة كانت وقتية ثم انقرضت إلا إنك تجد من المؤرخين من ينسبها إلى الشيعة وينسب عقائدها الفاسدة إليهم وهم براء منها ومن أصحابها.
منزلته وبرِّه بأمِّه
كان محمد ذا منزلة كبيرة عند أبيه (ع) ويدلنا على ذلك قوله (ع) له: يا بني أنت ابني، وهذان ــ أي الحسن والحسين ــ ابنا رسول الله (24)
كما كان محمد بارّاً بأمه حتى ضرب به المثل في ذلك فروي عن أحد معاصريه: رأيت في يد محمد بن الحنفية أثر الحناء فقلت له: ما هذا ؟ فقال: كنت أخضب أمي، وكان كذلك يمشطها.
ولا عجب من المتأدب بآداب أهل البيت (ع) أن يبلغ برّه بأمه أن تضرب به الأمثال فقد رُبي في بيت تأدب أهله بآداب الله وأصبح مثلاً أعلى في الفضيلة والأخلاق، وكان لأمه العظيمة أثراً في تربيته وأخلاقه.
شجاعته
وإلى جانب هذه الأخلاق العالية التي تمتع بها فقد اشتهر بالشجاعة:
فكان محمد ابن الحنفية من سادات قريش ومن الشجعان المشهورين ومن الأقوياء المذكورين. (25)
وقد شهد محمد الجمل مع أبيه وله فيها مواقف مشهودة وقد أعطاه أمير المؤمنين رايته إليه وقال له: احمل. فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواضعهم وطعنهم طعناً منكراً فقال علي (ع):
اطعنْ بها طعنَ أبيكَ تحمدِ *** لا خيرَ في الحربِ إذا لم توقدِ
بالمشرفيِّ والقنا المقصّدِ
ومدحه الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت الأنصاري في ذلك اليوم وهو يراه يصول صولة الأبطال الشجعان فقال:
محمدُ ما في عودِكَ اليومَ وصـمةٌ *** ولا كنتَ في الــحربِ الضروسِ مُعرِّدا
أبوكَ الذي لم يـركبِ الــخيلَ مثله *** عـــــــــــــــــــــليٌّ وسماكَ النبيُّ محمَّدا
فلو كان حقاً من أبيـــــــــكَ خليفة *** لكنتَ ولكـــــــــــــن ذاكَ ما لا يُرى بدا
وأنتَ بحمدِ اللهِ أطولُ غــــــــالبٍ *** لساناً وأنداها بما مــــــــــــــــــــلكتْ يدا
وأقربها من كلِّ خيرٍ تـريـــــــــده *** قريش وأوفــــاهـا بمـا قـــــــــالَ موعِدا
وأطعنـــهم صدرَ الكـميِّ بــرمحِه *** وأكساهم للهــــــــــــــــــامِ عـضباً مهندا
سوى أخويكَ السيــدينِ كــــلاهما *** إماما الورى والداعيــــــــــانِ إلى الهدى
أبى اللهُ أن يعــطي عدوَّك مــقعدا *** من الأرض أو في اللوح مرقى ومصعدا (26)
في صفين
كما كان حامل الراية في صفين وفيها أبهر العقول بشجاعته وبطولته وقد سجّل له التاريخ مواقف فيها صارت غرّة في تاريخ البطولات (27)
يقول الخوارمي: لقد قتل محمد من أبطال أهل الشام سبعة في ساعة واحدة. (28)
هذه الصفحات سطرها شبل أمير المؤمنين (ع) ونجل السيدة خولة محمد بن الحنفية، ذلك الرجل العظيم الذي أفنى عمره في طاعة الله ورسوله ووصي رسوله, حتى قال فيه أبوه (ع): أبت المحامدة أن يعصى الله. (29)
والمحامدة الذين قصدهم أمير المؤمنين (ع) بقوله هم: محمد بن أبي بكر, ومحمد بن جعفر بن أبي طالب, ومحمد بن حذيفة بن عتبة بن ربيعة, وعلى رأسهم محمد بن الحنفية.
كما أفرد له أمير المؤمنين (ع) كلمة خالدة أفصحت عن مكانة محمد العظيمة عند أبيه حينما قال: من أراد أن يبرني في الدنيا والآخرة فليبرّ ولدي محمداً. (30)
ونحن نعرف أن أمير المؤمنين (ع) لا يتكلم على سبيل العاطفة فيتحف ولده بهذه الكلمات العظيمة وهو لا يستحقها, بل أن هذه الكلمات عبّرت عن مكانة محمد الحقيقية لدى أهل البيت (ع) وقد نالها محمد عن جدارة واستحقاق.
منزلته عند أهل البيت (ع)
كان محمد عظيم القدر جليل المكانة لدى أهل البيت (ع)، وقد شهد شهادة أبيه واشترك مع أخوته في تغسيله (ع) وحمل نعشه الشريف من الكوفة إلى الغري ليلاً ودخل في قبره – أي امير المؤمنين – الحسن والحسين, ومحمد, وبنو علي, وعبد الله بن جعفر. (31)
وهناك شهادة في حقه من الإمام الحسن (ع): حيث مرض الحسن بالمدينة, وكان أخوه محمد بن الحنفية في ضيعة له فأرسل إليه فلما دخل عليه جلس عن يساره والحسين عن يمينه ففتح الحسن عينيه فرآهما فقال للحسين (ع):
يا اخي أوصيك بمحمد أخيك خيراً فإنه جلدة ما بين العينين.
ثم قال لمحمد: يا محمد وأنا أوصيك بالحسين كانفه ووازره. (32)
كان محمد معترفاً بإمامة أخويه الحسنين بعد أبيهما, مطيعاً لهما, وقد أكدت كلماته ومواقفه كلها ذلك, ومنها موقفه عندما توفي أخوه الحسن (ع) مسموماً شهيداً. قال اليعقوبي:
لما قضى الحسن بن علي وقف محمد وقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال:
رحمك الله يا أبا محمد فوالله لئن عزت حياتك لقد هدّت وفاتك, ولنعم الروح روح عمِّر به بدنك, ولنعمَ البدن بدن تضمّنه كفنك, ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك, وكيف لا تكون كذلك وانت سليل الهدى, وحليف أهل التقى, وخامس أصحاب الكساء, وجدك المصطفى, وأبوك المرتضى, وأمك الزهراء, وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى.
غذتك كف الحق، ورُبِّيت في حجر الإسلام، وأرضعت ثدي الإيمان، فطب حياً وميتاً, فعليك السلام ورحمة الله، وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك، ولا شاكة في الخيار لك…
إلى أن يقول: وأنك وأخاك لسيدا شباب أهل الجنة. (33)
ثم رثاه بقوله:
سأبكيك ما ناحتْ حمامة أيكة *** وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب (34)
وعندما عزم الإمام الحسين (ع) على السفر إلى العراق قال له محمد:
يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ…
كما ورد أنه: لما بلغ محمد بن الحنفية مسير الحسين وكان يتوضأ وبين يديه طشت فبكى حتى اختلط مع دموعه... وقال هذه الأبيات:
ولما تبدتْ للرحيــــــــــــــلِ جمــــالُهم *** وجدَّ بها الحـادي ففاضتْ مدامعُ
فقلتُ إلهي كنْ عليهِ خليــــــــــــــــــفة *** فيا ربِّ ما خــــابتْ إليكَ الودائعُ
فقالَ له والله ما من مســــــــــــــــــافرٍ *** يسيرُ ويدري ما به الدهرُ صانعُ
عسى من قضى بالبعدِ بيني وبيـــــنكم *** يجمِّعنا والقلبُ في ذاكَ طـــــامعُ
مضوا واختفوا عني وسرتُ بـحسرتي *** أنوحُ وأبكي بعـدما القلـبُ هاجعُ
رعى الله أياماً تقضّــــــــــــــت بقربِهم *** وحيّا زماناً وهـو للشمــلِ جامعُ
لقد ضاقَ صبري حين فارقــتُ ركبهم *** فيا ليتَ يومي للحسـيــنِ مُراجِعُ (35)
وهذه المواقف تدلنا على شدة حبه لسيّديه وأخويه سيّدي شباب أهل الجنة.
ولما جاء خبر مقتل الحسين (ع) إلى المدينة وسمع به محمد بن الحنفية بكى بكاء شديداً حتى غشي عليه ولما أفاق قال:
يعزّ عليّ يا أبا عبد الله يا أخي كيف يطلب نصراً فلم ينصر ومعيناً فلم يعن.. ثم نادى: واحُسينا، واخليفةَ الماضين، وثُمالةَ الباقين.
كما كان محمد مقراً بإمامة زين العابدين (ع) كما ذكرنا, وهذه التربية العظيمة والأخلاق الكريمة والعلم الغزير والولاء المحض لأهل البيت والصفات العليا كان للسيدة خولة أثرها البالغ فيها.
محمد في سجل التاريخ
وقد ذكرت المصادر قصصاً كثيرة عن شجاعته وقوته وعلمه وأخلاقه وصفاته العظيمة.
كما اثنى عليه كل من ذكره وترجم له من المؤرخين قديماً وحديثاً ومما قيل فيه:
قال عنه الزهري: كان محمد بن الحنفية أعقل الناس وأشجعهم. (36)
محمد تابعي ثقة كان رجلاً صالحاً يكنى أبا القاسم (37)
كان ابن الحنفية أحد أبطال صدر الإسلام وكان ورعاً واسع العلم. (38)
ومنهم الإمام اللبيب ذو اللسان الخطيب الشهاب الثاقب والنصاب العاقب صاحب الاشارات الخفية والعبارات الجلية أبو القاسم محمد بن الحنفية (39)
أبو هاشم محمد بن علي بن أبي طالب كان أبوه يلقيه في الوقائع ويتقي به العظائم وهو شديد البأس ثابت الجنان. (40)
محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ابو القاسم المعروف بأبن الحنفية احد أبطال الإسلام الأشداء في صدر الإسلام وكان واسع العلم ورعاً وأخبار قوته وشجاعته كثيرة. (41)
محمد بن الحنفية، نهاية في العلم غاية في العبادة. (42)
أن محمد ابن الحنفية كان أحد رجال الدهر في العلم والزهد والعبادة والشجاعة. (43)
لا بدعَ في ابن حيدرةَ إذا كانت له مواقف محمودة في الجمل وصفين والنهروان، وكانت الراية معه، فأبلى بلاء حسناً سجله له التاريخ وشكره له الإسلام. وخطبته التي ارتجلها يوم صفين في مدح أبيه (ع)، وهو واقف بين الصفين، تشهد له بالفصاحة والبلاغة على أتم معانيها، فهو جليل القدر عظيم المنزلة. (44)
وأما محمد بن الحنفية فقد أقرّ الصادر والوارد، والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره، وكان أتم الناس تماماً وكمالاً (45)
محمد طاهر الصفار
.................................................................................
1 ــ أنساب الأشراف البلاذري / ج 2 ص 110 عن المدائني / شرح نهج البلاغة ج 1 ص 244
2 ــ أنساب الأشراف في نفس الكتاب والصفحة حيث عقب البلاذري على الرواية الأولى بالقول: وهذا أثبت من خبر المدائني ونقل قوله هذا السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء ص 191
3 ــ المعارف / ابن قتيبة ص 210 الطبقات الكبرى ج 5 ص 91 / تاريخ دمشق ج 54 ص 323 ، وفيات الأعيان ج 4 ص 169
4 ــ الفضائل - شاذان بن جبرئيل القمي ص ٩٩
5 ــ الإصابة 8 ص 113
6 ــ عمدة الطالب ص 352 / المجدي في أنساب الطالبين ص 14
7 ــ كشف المحجّة لثمرة المهجة ــ ابن طاووس ص 177 ـ 178/ بحار الأنوار ج 30 ص 12
8 ــ سر السلسلة العلوية في أنساب السادة العلوية ــ ابو نصر البخاري ص 81 / عمدة الطالب ص 353
9 ــ الإرشاد للمفيد ج 1 ص 159 ـ 161 / بحار الأنوار ج 21 ص 356 ـ 358
10 ــ بحار الأنوار ج 39 ص 277 / مسند أحمد ج 5 ص 351
11 ــ مجمع الزوائد ج 9 ص128 / ذخائر العقبى ص 68
12 ـــ تاريخ الطبري 3 ص 162
13 ــ أنساب الأشراف 2 ص 421
14 ــ الطبقات الكبرى ج 3 ص 19
15 ــ التجبير في المعجم الكبير 2 ص 341
16 ــ الباب في تهذيب الأنساب ج 1 ص 397
17 ــ سر السلسلة العلوية ــ ابو نصر البخاري ص 81 / شرح نهج البلاغة ج 1 ص 244 / عمدة الطالب ص 353.
18 ــ الذهبي في تاريخ الاسلام ج 6 ص 183 / ابن خلكان وفيات الأعيان ج 4 ص 169
19 ــ السيرة النبوية ابن كثير ج 4 ص 202 / العمدة لابن البطريق ص 275
20 ــ مناقب ابن شهرآشوب ج 3 ص 222 وقد ذكر هذه الرواية أيضاً البيهقي في شعب الايمان 6 ص 316
21 ــ النوري في المستدرك ج 2/ ص 619 ومسلم في صحيحه ج2 / ص 228
22 ــ الطبقات الكبرى ج 5 ص 66
23 ــ الصدوق في اكمال الدين ج 1 ص 36 / بحار الأنوار ج 42 ص 81.
24 ــ ربيع الأبرار الزمخشري ج 2 ص 598
25 ــ ابن كثير البداية والنهاية ج 9 ص 38
26 ــ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ج 1 ص 245
27 ــ وقعة صفين / نصر بن مزاحم
28 ــ مناقب الإمام علي ص 147
29 ــ بحار الأنوار ج 33 ص 242
30 ــ بحار الأنوار ج 44 ص 74
31 ــ الإرشاد ــ المفيد ص 14
32 ــ الأخبار الطوال ــ الدينوري ص 203
33 ــ تاريخ اليعقوبي ص 132
34 ــ مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 429
35 ــ نور العين في مشهد الحسين لأبي إسحاق الأسفراييني ص 11
36 ـــ عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 111 / تذكرة الخواص ابن الجوزي ص 293.
37 ــ الكوكب الدري في سيرة أمير المؤمنين علي ص 184
38 ــ وفيات الأعيان ج 1 ص 449
39 ــ حلية الأولياء ص 234
40 ــ المستطرف في كل فن مستظرف ص 228
41 ــ الأعلام ــ الزركلي ص 270
42 ــ الملل والنحل للشهرستاني ص 18
43 ــ أخبار السيد الحميري للمرزباني ص 164
44 ــ وقعة الجمل المفيد 179
45 ــ تذكرة الخواص ابن الجوزي ص 295. عن الجاحظ
اترك تعليق