يُشاع بين عامة الناس أن شهر صفر من الأشهر التي تعرف بـ “النحس” أو “الشؤم” التي لا يأمن فيها الإنسان على نفسه وعياله من البلايا والمصائب، فتمضي نسبة كبيرة من مجتمعاتنا الإسلامية بالمواظبة على الإتيان بالعديد من الممارسات “الخرافية” إن صح الوصف، في الوقت الذي نجد فيه بعد إطلالة على النصوص المأثورة في هذا الموضوع؛ أن شهرة شؤم شهر صفر إنما هي شهرةٌ عرفية ولا أصل لها في الشرع المقدس، ولا يوجد ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو احد الأئمة عليهم السلام قد تطيّر أو تشاءم من قدوم شهر صفر بما يشمل أيضا قول النبي “من بشرني بخروج صفر بشرته بدخول الجنة” الذي صرح أهل الاختصاص بشدة ضعفه.
وقبل أن نثبت بالنص خطأ المعتقد هذا، لا بد لنا أن نوضح بعض الأمور المرتبطة بهذا الشهر، و التي منها منشأ تسميته بـ “صفر” والممارسات الجاهلية التي كان يقدم عليها العرب.
صفر هو الشهر الثاني من العام – التقويم – الهجري وسمي بهذا الاسم على عهد “كلاب بن مُرَّة” الجد الخامس للرسول صلى الله عليه وآله، بحسب المصادر التاريخية، وفي تسميته آراء عدة، منها الرأي القائل بأن في هذا الشهر تحديداً كان العرب يغيرون فيه على بلاد يُقال لها “الصَّفَرِيَّة”.. فيما يبرز رأي آخر مفاده أن التسمية مأخوذة من اسم لسوق كبيرة كانت في جنوبي الجزيرة العربية ببلاد اليمن تُسمى “الصَّفَرِيَّة” وربما كان العرب يرحلون بشكل جماعي إلى هذه السوق في هذا التوقيت للتسوق أو التجارة.
ويُقال أيضاً إنه سُمي صفرًا لأنه يعقب شهر الله المحرم ـ وهو من الأشهر الحرم ـ وكانت البلاد تخلو من أهلها لخروجهم إلى الحرب، فبعد استراحة شهرٍ من القتال في المحرم لابد أن تكون هناك حرباً تأتي بعد هذا الانقطاع، خصوصاً وأن العرب كانوا معروفين في زمن الجاهلية بكثرة حروبهم وغاراتهم! وصفر ربما تكون إشارة إلى خلو المدن من رجالها لغرض الحرب أو القتال، وهو ما يؤيده المعنى اللغوي للكلمة، ففي اللغة: “صَفِرَ الإناءُ أي خلا، ومنه ¸صِفْر اليدين·، أي خالي اليدين، لا يملك شيئًا”.
هنالك جملة من الممارسات الطقوس التي يقوم بها عامة الناس في شهر صفر، لا سيما تلك التي يصر عليها البعض في آخر الشهر، والتي منها إشعال النيران أمام أبواب منازلهم، وطرق الأبواب الخشبية بدافع طرد الشر، وكذلك كسر الأواني الزجاجية والفخارية.. بل هناك من يعطل أعماله ومشاغله خلال شهر صفر بحجة “كراهة” العمل والمتاجرة، بل وحتى الانتقال من دار إلى أخرى في هذا الشهر. وعند مبادرة هؤلاء بالسؤال عن منشأ هذا العادات تجد أن الإجابة هي: “عادات وتقاليد آباءنا وأجدادنا”!!
وللأسف الشديد.. إن من سلبيات مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هو التقليد الأعمى واكتساب الموروث الثقافي بكل أنواعه سواء كان مطابقاً لروح الشريعة أو لا، ويأتي كل ذلك في عصر تشهد فيه الحركة الثقافية والفكرية قفزات سريعة وتطور شبه يومي، وبدل أن نلجأ لوقاية أنفسنا بمجموعة من الإجراءات الاحترازية التي تضمن لنا ولأهلينا السلامة والأمان، أو قراءة الايات القرانية والأدعية المأثورة وكلمات النبي وأهل بيته، عليهم السلام؛ ترنا نلجأ إلى مثل هذه الممارسات الخرافية!
نصوص الوحي تذم الطيرة (التشاؤم)!
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه عن الإتيان بأشياء تخالف روح الوحي الذي تمثل بالقرآن الكريم، ومنها “التطير” أو “الشؤم” ونسبهما إلى أعداء الله وضعيفي الإيمان والعقيدة والتوكل حتى قال: “الطيرة شرك”، ويحدثنا القرآن الكريم عن قوم النبي موسى عليه السلام الذي كان يعاني أشد المعاناة من هذه الظاهرة { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ….} (الأعراف – 131) فهم ينسبون ما يأتيهم من الخير لأنفسهم، بينما كانوا يلحقون المصائب بموسى عليه السلام وصحبه، ويأتي هنا رد واضح على هذا المعتقد في سياق الآية المباركة في قوله تعالى: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف – 131) وهي إشارة إلى أن مصدر الخير والشر الناتج عن الفأل أو الشؤم إنما هو من عند الله بسبب شؤمكم وعدم توكلكم على الله وحده. وهذا يؤيد حقيقة أن مجريات الأحداث اليومية التي نعيشها؛ نحن من يرسمها ويحدد ملامحها بعد أن تخضع لتوكلنا على الله أو التطير بالساعات والأيام والشهور الذي يترتب عليه حالة من الإسراف في الوقت، ناهيك عن حالة القلق والترقب التي سترافق هذا المعتقد، ويشير إلى ذلك قول الإمام الصادق عليه السلام: “الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا”، وكذلك قوله عليه السلام: “إنّ الله عند ظن عبده، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر”.
صفوة القول:
إن منشأ تشاؤم المجتمعات في شهر صفر عرفياً موروثاً وليس شرعياً منزلاً، وهو كتشاؤمهم في سائر أيام العام المختلفة الذي نهت عنه ثقافة الوحي وذمته بشدة وحاربه النبي والأئمة الأطهار، عليهم السلام.
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق