فاطمة .. علي .. امتداد الإمامة من الرسالة

(لو لمْ يخلقِ الله علياً لما كان لفاطمةٍ كفؤا).. إنه القول الأمثل لهذا الارتباط المقدّس..

انتقلت فاطمة من بيتِ أحبِّ الناسِ إلى قلبِها إلى بيتِ أحبِّ الناسِ إلى أبيها.. وكانت ــ هي ــ أحبُّ الناسِ إليهِما, وها هما حبيبا محمد يجتمعانِ في بيتٍ واحدٍ وهما يتقاسمانِ أعباءَ البيتِ الذي حملَ أعباءَ الرسالة.

محمد, علي, فاطمة, الحسن, الحسين الذين أنضتْ أحزانُهم مقلةَ زينب وأشرعتْ دموعَها

وازدادتْ أعباءُ فاطمة وتنوَّعتْ محاريبُ عطائِها بينَ محرابِ العبادةِ, ومحرابِ الرحى, ومحرابِ حسنِ التبعّل.

كانت حياتُها عبارة عن محرابٍ قدّمت عليه من قرابينِ عمرِها ــ الذي لم يبلغ العقدَ الثاني ــ ما أفعمَ التاريخَ عطاءً, وأفاضَ على الأجيالِ نماءً, ولم تزلْ فاطمة ترتيلة على لمى الفجرِ, ونفحة تنثرُ ندى الصباح و.. دمعة على خدِّ النبوة.

لقد أدمنت روحُها الإيثارَ والسخاءَ, ليس بكلِّ ما تملكُ من قوتٍ يسدُّ رمقَها ورمقَ أبنائِها فحسب, بل تعدّى إيثارُها إلى الروحِ فكانت تدعو في محرابِها لغيرِها ولا تدعو لنفسِها.. كما كانتْ تجودُ بالرغيفِ وتمسي ساغبةً ويتلوّى أبناؤها من الجوعِ طوالَ الليل.. فما أعظمَ هذه الروح وما أجلَّ هذا القلب وما أقدسَ هذا الوجه.. وما أطهرَه

إنّها الكوثرُ الرقراقُ في تضاريسِ الإسلام, بل إنّها الإسلامُ قد جُسِّد بأكملهِ فيها..

وُلدت فاطمة بعد إشراقةِ البعثةِ المحمديةِ بخمسِ سنواتٍ, ورافقت مسيرةَ الفجرِ مع أبيها وهي تشقّ غياهبَ الظلامِ بنورِ (لا إله إلّا الله محمدٌ رسولُ الله) ولتصدحَ بها الحناجرُ على جبالِ مكةَ وليتردَّد صداها في أرجاءِ الأرض.

نشأتْ وصوتُ الوحي يترنّم في أذنيها فاستيقنه قلبُها الصغيرُ وشبَّ عليه, وتبرعم الإيمانِ في روحِها فتملّكته وتملّكها, ولازمته ولازمها, وغذته من روحِها فحصنّها, وآنسَ بها وأنستْ به, واقترنتْ به واقترنَ بها.

وجدَ النبيُّ فيها روحَ أمِّها خديجة.. تلك الروحُ التي احتضنته وضمَّدتْ جراحَه, وواسته في الشدائدِ, ورافقته في المِحنِ والخطوبِ. وها هيَ فاطمة تكملُ معه رحلةَ الصبرِ وتحمُّلِ المشاقِ والصعوباتِ والمخاطرِ من أجلِ الدعوةِ فكانت السندُ والمعينُ والبلسمُ والسلوى.

ووجدَ عليٌّ فيها روحَ النبيِّ وهي تشرقُ بالهدى والرحمة والرأفة ..

وتشهدُ فاطمة فراقَ أعظمِ إنسانٍ على وجهِ الأرضِ وأحبِّ أنسانٍ إلى قلبِها فتهيجُ بها الآلامُ وتتصاعدُ الزفرات:

ماذا على من شـــمَّ تربةَ أحمدٍ   ***   ألّا يشــــمَّ مدى الزمانِ غواليا

صُبّتْ عليَّ مصــــائبٌ لو أنّها   ***   صُبَّتْ على الأيامِ صِرنَ لياليا

فلأجعلنَّ الحزنَ بعدكَ مُؤنسي   ***   ولأجـــعلنَّ الدمعَ فيكَ وشاحيا

ليست سحابةُ صيفٍ وتنقشعُ تلكَ التي خيَّمتْ في سماءِ فاطمة وأطبقتْ على عينيها, بلْ كانتْ كقِطَعِ الليلِ البهيمِ الطويلِ جاستْ به الجاهليةُ خلالَ المدينةِ, وأغلقتْ بابَ حراءٍ.. وحجبتْ عن فاطمةٍ فَدك

لقد كانَ الشرخُ الأولِ في جدارِ الرسالة

وصيّةُ من أنقذَهم من غياهبِ الجهالةِ تُهملُ وتُلغى و.. تُحارب !!

إنّ النارَ التي لسعت بابَ فاطمةٍ ليستْ بأقلّ إثماً من النارِ التي أوقِدت لجدِّها الخليل..

والفمُّ الذي صاحَ : وإن !! ليسَ بأقلّ افتراءً وعدواناً من الأفواهِ التي افترت على السيدةِ العذراء..

واليدُ التي غرزتْ مسماراً في ضلعِها ليستْ بأضلَّ من اليدِّ التي غرزتْ المساميرَ على جسدِ آسيا بنت مزاحم

كانت آهة و.. صرخة.. وما إنْ وصلتْ فضة حتى سادَ الصمت

رأت الجسدَ النحيلَ على الأرضِ كأنّه جثة هامدة وقد غطته الدماء ..

بعد يومين عاد عليٌّ ليلاً بمفردِه إلى البيتِ الذي أخرجَ منه فاطمة إلى مثواها الأخير

كان أطفاله الأربعة ينتظرون رجوعَه بوجوهٍ شاحبةٍ وعيونٍ ملأتها الدموع

يتنقّلُ ببصرِه في زوايا البيتِ... المحراب.. الرحى.. مسبحة هناك.. وهنا جلست زينب عند البابِ وغصَّت ببكائِها.. وقربها بقعٌ من دماءِ أمِّها..

يحتضنُ صغارَه وهو يتخيَّلُ ابتسامتَها له عندَ رجوعِه

حاولَ أن يُسليهم لكنه عجزَ فانفجرَ باكياً معهم وتردَّدتْ صدى كلماتِه المتحشرجة في جوفِ الليلِ.....

نفسي على زفراتِـــها محبوسة   ***   يا ليتها خرجتْ مع الزفراتِ

لا خيرَ بعدكِ في الحياةِ، وإنّما   ***   أبكي مخافة أن تطولَ حياتي         

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار