لا شك ان من اهم مزايا الفنون الاسلامية هي المقدرة على صناعة الجمال بصوره المختلفة، وفن الزخرفة كأحد انواع الفنون الاسلامية الخلابة تعتبر احدى الوسائل المهمة والمناسبة لصنع هكذا جمال خصوصاً عند اشراكها ومزجها مع فنون العمارة الاسلامية، فمن خلال هذا المزج نستطيع الوصول الى غاية الجمال، بالتقاء شكل العمل الفني بمضمونه ليكونا وحدة فنية متماسكة و يشكلان في نفس الوقت رائعة فنية تطغى عليها صفة الجمال والروحانية وهذا ما لا نجده في كل أنواع الفنون الاخرى .
اهتم الفنان المعماري المسلم بالعناصر الفنية المعمارية في المساجد والاضرحة المقدسة، وقد افرط في اهتمامه بالمحاريب منذ الوهلة الاولى لبناء المساجد، كونه يعد احد اهم العناصر والاركان المعمارية الاساسية المكونة لدور العبادة الاسلامية، غاية منهم لدلالة المصلين باتجاه القبلة للوقوف بخشوع بين يدي الله جل وعلا اثناء الصلاة.. تنوعت اشكال المحاريب وهيأتها باختلاف الظروف الزمانية والمكانية التي شيدت فيها ومن خلالها، حتى ازدانت اشكالها اليوم بجمالية خلاقة فريدة من نوعها تبهج المشاهد وتدفعه للتأمل بعظمة الخالق.
اللقطات المرفقة تصور محراب امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في مسجد الكوفة المعظم في النجف الاشرف.. والذي يقبع غائراً ضمن بناء معماري مستطيل الشكل في جدار القبلة الداخلي من المسجد.
المحراب ذو جمالية فريدة من نوعها.. فهو محدد بشريط زخرفي ذهبي من الخارج وقد اعتمد طابعاً تنظيمياً خطياً من خلال تكرار وحدة زخرفية مميزة أشبه بالشكل المعيني، ولكن بخطوط منحنية غير حادة.. وهي مزينة بزخارف نباتية أشبه بالسنبلة، وقد تكررت هذه الوحدة الزخرفية لتشمل مساحة الشريط بأكمله.. مكونة سلسلة متصلة من تلك الوحدات المتماثلة بوساطة مناطق كروية أشبه بالحلقة الرابطة بين الوحدات الزخرفية، وتحوي كل وحدة من تلك الوحدات في داخلها على نقطة مركزية بشكل دائري صغير خُطّ عليها نداء (يا علي)، وبنفس الوقت يتفرع من تلك الدائرة أربعة فروع خطية بصورة متناظرة اثنان من أعلى الدائرة واثنان من أسفلها لتكّون تلك التفريعات بدورها وحدة زخرفية أُخرى مماثلة للوحدة الزخرفية الأساسية الأولى ولكن بخطوط أرفع خالية من الزخرفة ، كما ويلاحظ وجود واضح لتكوين زخرفي نباتي اخر أساسه نصف زهرة بأربع أوراق تقع على جانبي الوحدة الزخرفية الثانية .
يلاحظ المتأمل للمحراب من الداخل وجود شريط زخرفي آخر مماثل تماما ً للشريط الأول ولكنه غير مستطيل وإنما أخذ شكلاً قوسياً مدبباً يحيط بالمحراب، وايضاً وجود البسملة قد اعتلت القوس المدبب، وتوزعت حولها تكوينات زخرفية هندسية دائرية الشكل، وزع جزء منها على جانبي العبارة الأيمن والأيسر وهي مزخرفة بزخرفة خطية، وونجد اخرى تقع إلى الأسفل منها مزينة بزخارف نباتية وخطية.. وقد أحاط هذا الشريط الزخرفي بالمحراب الذي يقع ضمن بناء معماري عمودي مستطيل الشكل مذهب برمته ومحدد بإطارين زخرفيين، خارجي وداخلي، اما الخارجي فيتكون من مجموعة أغصان وأزهار وعناصر لوزية الشكل، وقد تكررت لتملأ مساحة الإطار بأكمله، اما الداخلي فيتكون من تشكيل هندسي قوامه تكرار وحدة زخرفية بيضوية بصورة متتابعة ملأت مساحة الشريط برمته.
ويجد المتأمل ايضاً داخل المستطيل وجوداً لعقد مدبب محمول على زوج من الأعمدة ومجوف من باطنه تجويفاً بسيطاً، وقد شُغلت مساحة المحراب بأكملها بالتكوينات الزخرفية ، فالجزء العلوي من المستطيل والذي يعلو العقد زُيّن بزخرفة خطية قوامها (لا اله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله) بالخط الكوفي المزهر داخل شريط مستطيل الشكل، والى الأسفل منه شُغلت المساحات التي تقع على جانبي العقد بحشوات زخرفية مختلفة، تجمع بين العناصر الهندسية والنباتية.. ونجد العقد ايضاً محاطاً بـثلاثة أشرطة زخرفية تفصل بينها أشرطة صماء أرفع منها، زُين الشريطان الأول والثالث بزخارف خطية لآيات مباركة من القرآن الكريم، خُطّت على الشريط الأول الآية (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) ، وخُطّت على الشريط الثاني سورة الإخلاص كاملةً.. أما الشريط الثاني والفاصل بين الشريطين الأول والثالث فيشبه الى حدٍ ما الشريطين الاساسيين (المستطيل والمقوس) اللذان أحاطا بالمحراب من الخارج، مع اختلاف بسيط هو استبدال الدائرة المركزية في الشريطين الرئيسيين بشكل زهرة خماسية الأوراق.
تحيط الاشرطة الثلاثة المذكورة اعلاه بباطن العقد المزخرف بتكوينات مختلطة جمعت بين الأشكال الهندسية المتمثلة بوجود دائرة مركزية مؤطرة بشريط زخرفي هندسي قائم على تكرار وحدة زخرفية تمثلت بنجمة خماسية الرؤوس، وقد خُطّت في داخلها العبارة التي أطلقها امير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه عند جرحه على يد الغدر (فزت ورب الكعبة) ، ويلاحظ أيضاً وجود لزخرفة نباتية تمثلت بشكل حشوة زخرفية أحاطت بالدائرة من الخارج وهي مماثلة للحشوة الزخرفية النباتية الموجودة على جانبي العقد.
ويوجد أيضاً شريطان زخرفيان يمثلان امتداداً لانحناءة العقد وهما يجاوران الأعمدة التي تحمل العقد، وقد زُينّت تلك الاشرطة بزخارف متنوعة تمثلت بأشكال شبه بيضوية ناتجة من التقاء خطين وافتراقهما ثم التقائهما مرة أُخرى وقد زُينّت مساحتها الوسطية بعناصر زخرفية نخلية بسيطة ، وتتفرع من تلك الوحدات البيضوية عناصر غصنية حلزونية تكررت لتشمل مساحة الشريط بأكمله على وفق تنظيم خطي متتابع .
أما المساحة الاخيرة المستطيلة المحصورة بين عمودي العقد فقد جاءت على غير عادتها في المحاريب الأخرى، إذ تمثلت بوجود باب ذات مصراعين زين بلفظ الجلالة (الله) ومن حوله الأسماء المباركة لأصحاب الكساء من آل البيت الأطهار سلام الله عليهم.. ويلاحظ ايضاً ان كل مصراع من مصراعي الباب عبارة عن شباك مذهب مؤلف من تقاطع مجموعة من الخطوط العمودية والافقية بمناطق كروية صُممت على وفق تنظيم شبكي واضح، وهي سمة زخرفية ومعمارية تكررت في المراقد والمقامات المقدسة للائمة الأطهار عليهم السلام، ولا ننسى ما يعلو الشباك من عبارة خطية رائعة جاءت متداخلة وسط شريط زخرفي قوامها عبارة (محمد وعلي خير البشر وعترتهما خير البشر(.
اعداد : سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق