المسحرجي.. صوت ينير عتمة الليل وسكونه..

دوّن كثير من الرواة والمفكرين الطقوس المرحبة بحلول بعض الأشهر العربية وصوروا التقاليد والعادات المرافقة لها، وقد رسم البعض منهم صوراً ناطقة حيّة عن هذه المحافل وبالخصوص اشهر ذي الحجة ومحرم الحرام وشهر رمضان المبارك واجوائها الروحانية والعبادية.. حيث تتجدد في طقوس هذه الاشهر - بالإضافة الى اعمالها العبادية - عادات مستمدة من الموروث الذي ما لبثت روحه ان تبقى حاضرة في مجتمعاتنا الاسلامية، وإن طغت ملامح الحداثة والتطور على مناحي الحياة المختلفة..

تتميز الطقوس الدينية المرافقة لبعض الاشهر القمرية المباركة بالتنوع بين دولة وأخرى واقليم وآخر، ولكنها تلتقي في طابع عام يجسد مفاهيم العبادة والعودة الى الخالق والتسامح والإخاء والألفة والمودة الذي نشأ وكبر معها الفرد المسلم، والسحور يعد من اهم العادات والتقاليد المرافقة لشهر رمضان المبارك، والذي ما يزال يشكل عبقا يعطر أنفاس المؤمنين الصائمين، فهو احد الطقوس العبادية المعبرة عن وجه من وجوه التراث العربي القديم والمستمدة من عمق التاريخ الإسلامي الاصيل، ليشكل مظهرا من مظاهر شهر الطاعة..  فهو يطرق أبواب الليل ليحل على القائمين الخاشعين للخالق جل وعلا ضيفا عزيزا مرحباً به.

لقد كان ومازال إيقاظ الناس للسحور يعد ضرورة مهمة.. وقد عرفته الدولة الإسلامية منذ فجر الإسلام، حيث ارتبط هذا الطقس الاسلامي العبادي بشخصية نبيلة محبوبة كانت ومازالت محط تقدير الناس، وكان الصحابيان الجليلان بلال بن رباح وعبدالله بن أم مكتوم  أول من قاما بتنبيه الناس باستخدام الأذان، فكان يقوم أحدهما بالأذان أولاً قبل الفجر ليقوم الناس للسحور، ثم يؤذن الثاني ليمسك الناس عن تناول الطعام، وقد وردت كثير من الروايات عن اهل بيت النبوة الاطهار سلام الله عليهم حول اهمية السحور في هذا الشهر الكريم.. فقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ( تسحروا ولو بجرعة من ماء، ألا صلوات الله على المتسحرين ).. وقال عليه السلام: إن الله  وملائكته يصلون على المتسحرين والمستغفرين بالأسحار، فليتسحر أحدكم ولو بجرعة من ماء ).*

ان اشراقات وقت السحور ونداءاته وتلك الطقوس الرمضانية الخالدة أضافت نكهة وجمالية قل نظيرها على كل مجالات الحياة  ومنها المجالات الفكرية الثقافية بشكل عام والفنون بوجه خاص، حيث الهم كثير من الفنانين بإنجاز اعمالهم الفنية الابداعية بتكويناتها الفريدة من قبسات واجواء هذا الشهر الكريم.. مجسدين فيها اصالة المجتمع العربي المسلم وبعض من طقوسه وتقاليده التراثية ومنها طقس السحور والمسحرجي في رمضان،

المسحرجي... تلك الشخصية الفلكلورية المهمة التي تعد من الثيمات والأيقونات الفنية, ألهمت مخيلة الفنان التشكيلي وشكلت عنصرًا أساسيًا انطلق منه للتعبير عن الشهر الفضيل، ما زالت تجوب الشوارع والازقة الضيقة مخترقة ظلمة الليل وهي مستمرة بالعمل في مدننا ومدن العالم العربي والاسلامي طيلة ليالي شهر المغفرة وعلى مر السنين، حتى اصبحت موروثة بين افراد عائلة  تلك الشخصية،  ليطوف " المسحرجي " بين البيوت موقظا الناس قبيل أذان الفجر، بصوت طبله وحنجرته التي ترتفع بصوت جهوري منشدا بعض التراتيل بلحن مميز لتندمج مع تمجيد مآذن بيوت الله ، بأطوار مختلفة والحان شجية مؤثرة، داعيا ومذكراً ومحرضا أن " قوموا لذكر الله وتسحروا  ".

أبدع اغلب رسامي هذه الثيمة الفنية  في رسم تفاصيل هذه شخصية المسحرجي واستطاعوا من خلالها ايصال افكار اعمالهم  للمتلقين بكل بساطة وهدوء معبرين عن ملمح من ملامح الاجواء الرمضانية من حيث توزيع الأشكال والوحدات الصورية والوانها الباردة والحيادية.. وخلق إنشاء تصويري مميز متبعين النظام والدقة في رسم التفاصيل والأجزاء، حيث صور اغلبهم عتمة الليل والإضاءات البعيدة اللافتة للانتباه مظهرين شبابيك وابواب البيوت في الازقة الضيقة والفوانيس الرمضانية التي تعلو اركانها وإضاءتها الخافتة التي تعم أفضية لوحاتهم وخلفياتها، مصورين بذلك روح الحاضر والماضي الجميل في ليالي شهر رمضان الذي يشع بالحياة وينبض بعطر لياليه الساحرة  والالفة التي تجمع الناس على الرغم من العتمة وظلمة الليل.

ما أعظمكَ من شهرٍ وما اكرمك وما أعذبَ أيامَكَ.. لقد جعلكَ اللهُ سراً بينه وبين عباده، يسبغُ عليهم فيكَ رحمتَه ورضوانَه ، فأنتَ مأوى النفوسِ المتعبة ومرفأ للعبادِ وواحةُ الحق المبين... تقبّل الله صيامكم وقيامكم وصالح أعمالكم وغفر الله لنا ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين  .

* المقنعة - الشيخ المفيد - الصفحة ٣١٦

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات