المبادئ والأُسس القرآنية للقضية الحسينيّة

لا بدّ لكلّ قضية من مبادئ تُؤسّس عليها ـ على اختلاف تلك المبادئ في الأصالة والعلمية والأحقّية ـ كي تكون قضية بحقّ. ولا شكّ في أنّ القضية الإسلامية ذات مبادئ شرعية وعقلية لاعتماد الإسلام عليهما، ولا بدّ أن تكون هذه المبادئ من القرآن والسنّة الشريفة والمدركات العقلية.[1]

لذلك كان اختيار بحثنا للمبادئ والأُسس القرآنية للقضية الحسينيّة موضوعاً له؛ حيث وجد البحث أنّ للقضية الحسينيّة مبادئ قرآنية انطلقت من خلالها، وهذه المبادئ هي:

المبدأ الأوّل: الارتباط باللّه عز وجل

إنّ الارتباط بالله تعالى ذو أهمّية بالغة في كلّ القضايا، فهو الهدف الأساس لكلّ قضية، وخصوصاً إذا كانت تغييريّة من منظور إسلامي؛ لأنّ التغيير فيها يكون على أساس موازين الحقّ والعدل والمصالح الإنسانية الواقعية، وتجنّب المفاسد والأضرار التي يمكن أن تلحق الإنسان في مسيرته الفردية أو الجماعية.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا المبدأ ذو بُعد وزخم لا يمكن أن تجده القضية عند فقدانه؛ لما لهذا الارتباط من تأثير بالغ على بقية المبادئ.

وبالرجوع إلى قصص القرآن، وبالذات قصص الأنبياء عليهم السلام، لوجدنا أنّ قضية كلّ نبيّ تتّسم بهذا المبدأ؛ لذلك نجد فيها بُعد التأثير العميق في نفوس البشر، بحيث نرى التقديس والالتزام باقياً وممتداً لدى الناس اتّجاه حركة النبي عليه السلام إلى آخر الحياة الدنيويّة.

ولا شكّ ولا ريب في أنّ هذا المبدأ متوفر بالقضية الحسينيّة، ولا نقصد بذلك ارتباط شخص الحسين عليه السلام بالله تعالى فحسب، وإنّما ارتباط حركته وثورته بمجملها بالأهداف الإلهية، وإلّا فالحسين عليه السلام إمام معصوم مرتبط بالله سبحانه بلا شك ولا شبهة عند أحد من المسلمين.

فكانت حركته عليه السلام بدافع من الوظيفة والمسؤولية الشرعية والمعاني التي وضعها الله سبحانه وتعالى على عاتق الإنسان المسلم، ومن هذه المعاني المتعلّقة بالارتباط بالله سبحانه وتعالى: إصلاح الأُمّة عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول سبحانه وتعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[2]، وكذلك قوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[3]، وقد وُجِدت هذه المعاني في مجموعة من الخُطَب التي ألقاها الإمام الحسين عليه السلام.

فمنذ اليوم الأوّل الذي تحرّك فيه الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة قاصداً مكّة أكّد على هذا المبدأ في وصيّته لأخيه محمد بن الحنفيّة، حيث ورد فيها: «هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»[4].

فالناظر لمقطع «وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» يجد أنّه عليه السلام يؤكِّد على علّة خروجه وهو الإصلاح في الأُمّة، وهذا الإصلاح إنّما يتأتّى بطرق عدّة، أراد الإمام منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهكذا عندما خاطب أصحاب الحرّ بن يزيد الرياحي عند لقائه بهم، حيث بيّن فيها سبب تحرّكه بقوله: «أيُّها الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود...»[5].

وهكذا يتّضح ارتباط قضية الإمام الحسين عليه السلام بالله سبحانه وتعالى من مجموعة الرسائل التي أرسلها إلى المسلمين في مختلف أقطارهم، منها: ما كتبه إلى أشراف أهل البصرة، حيث جاء فيها: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله على خلقه وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به صلى الله عليه وآله، وكنّا أهله وأوليائه... وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت...»[6].

وهكذا في بقية خُطَبه ورسائله التي يؤكِّد فيها على الوظيفة الشرعية، مضافاً إلى دعوة المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم للإمام الحسين عليه السلام ونظرتهم إلى (يزيد) من أنّه إنسان منفصل عن الإسلام وبعيد عنه.

فمن كلّ هذه الأُمور وغيرها نفهم أنّ تحرّكه عليه السلام مرتبط بالله سبحانه وتعالى، وليس تحرّكاً قائماً على أساس آخر.

وكذلك العقيلة زينب سلام الله عليها في أثناء المعركة وبعدها، عندما وجّه إليها عبيد الله ابن زياد في مجلسه سؤاله وهو يعتبر نفسه منتصراً ومأخوذاً بزهوة الانتصار: «كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيك وأهل بيتك؟» فأجابته سلام الله عليها معبِّرة عن إيمانها بالله وارتباطها به، وصبرها على المصيبة، وإدراكها لأهداف الثورة: «ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم، فاُنظر لـمَن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة...»[7]، وهذا ما يسمّى بجهاد الكلمة.

من هنا كان الارتباط بالله من شروط الجهاد في سبيله وإعلاء كلمته؛ كي لا يرى صنع الله به إلّا جميلاً.

المبدأ الثاني: المعاني الفطرية والوجدانية للإنسان

إنّ كلّ قضية لا تكون قادرة على النجاح ما لم تكن مبنية على أساس من المعاني الفطرية الإنسانية، بمعنى أن تهتّم بالمعاني التي فطر الله عليها الإنسان، كالحرّية، والكرامة الإنسانية، ورفض الظلم والاضطهاد، إلى غير ذلك ممّا يُعبّر عنه بـ(المعاني الفطرية والوجدانية) للإنسان؛ لأنّ هذه المعاني تمثِّل عنصراً ثابتاً في حياة الإنسان، وتبقى معه في كلّ التاريخ وفي مختلف الظروف.

فكلّ قضية مؤسَّسةٌ على هذا المبدأ يمكن أن نفترض فيها القدرة على النجاح والوصول إلى الغايات، حيث يمثِّل هذا المبدأ الطاقة المحرِّكة في داخل الإنسان، أمّا إذا فُقِد فلا يمكن تحريك الإنسان.

والمتأمِّل في تاريخ الأنبياء وحركتهم يجد أنّ هناك خصوصيتين موجودتين في تحرّكهم في المجتمع مضافاً إلى ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، وهما:

1ـ رفض الظلم ومقارعته، والدعوة إلى الحقّ والعدل.

2ـ كرامة الإنسان وعزّته وحرّيته الحقيقية.

فهم يؤكّدون على هاتين الخصوصيتين، بحيث يمكن القول: إنّهما تمثِّلان جوهر القضية في منطقهم وتحرّكهم.

وعند قراءة القرآن والمطالعة في قصص الأنبياء نجد أنّهم دائماً يؤكِّدون على هذا المبدأ، يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[8].ويقول عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَه أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[9]. لقد اهتمّ النبيّ صلى الله عليه وآله، في رسالته بهذا الجانب الإنساني في الحياة المعاصرة لنزول الوحي عندما تحدّث عن رفض الأصنام والوثنية والأوهام والخرافات والتقليد، وكذلك عندما تحدّث عن تقييم العلاقات القبلية والاجتماعية، وكذلك رفض الظلم الذي كان يمارسه الطغاة تجاه الناس، وعمل على تحرير إرادة الإنسان من الشهوات، ودعا إلى العزّة والكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس، إلى غير ذلك من المعاني الإنسانية، مضافاً إلى قضية العبادة بالله وتوحيده والارتباط به.

فالتأكيد على البعد الإنساني كما يعني الاهتمام بفطرة الإنسان وحاجاته الأساسية، كذلك يعني في الوقت نفسه الاهتمام بالواقع الحياتي للأُمّة والتأثير فيه، وتحريكه من خلال القضايا الحسّية المعاشة للسير في طريق التكامل، فالإنسان الذي يعيش حالة من الظلم والاضطهاد والرعب والذلّ والامتهان والعبودية للإنسان الآخر أو للحجر، لا يمكنه في يوم من الأيام أن يتّجه لله سبحانه وتعالى، أو يرتبط به ارتباطاً حقيقيّاً، لأنّه عندما يكون عبداً لغير الله لا يمكن أن نفترضه في الوقت نفسه عبداً لله تعالى، وإذا أردنا منه أن يتمحّض في عبوديته لله سبحانه تعالى لا بدّ لنا من أن نحرّره من العبودية لأيّ موجود آخر.

وهذا المبدأ هو من المبادئ الأساسية والواضحة والبارزة في قضية الإمام الحسين عليه السلام، حيث أكّد عليه السلام على هذا المبدأ المتمثِّل بالكرامة الإنسانية والحرّية التي فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها، وتأكيده عليه السلام على العدل ورفض الظلم والذلّ والحرمان والاستضعاف.

فكان أحد الشعارات الرئيسة لثورة الإمام الحسين عليه السلام هو دعوته للحرّية في الخلاص من عبادة الطاغوت والخضوع للطغيان والظلم، ودعوته للإخلاص في عبودية الله، انطلاقاً من قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[10].

وعند التأمّل في التاريخ الإنساني نجد أنّ هناك صراعاً دائماً ومستمرّاً منذ بداية وجود الإنسان بين حركة الإنسان نحو الله تعالى والارتباط به، وحركة الإنسان نحو الطاغوت والارتباط به؛ومن هنا يطرح القرآن الكريم دائماً لفظ الجلالة (الله) في مقابل (الطاغوت) في جملة من الآيات، قال تعالى: (اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [11]. وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)[12]. وقال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّـهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ)[13].

لذا؛ نجد الإمام عليه السلام ركّز على المحتوى الإنساني في نهضته المباركة، وكانت الشعارات الأساسية في ثورته تتلخّص بشعارين: الإخلاص في عبودية الله تعالى، والحرّية والعدل. ويتّضح ذلك من خلال خُطَبه وكلماته التي تجسِّد هذا المعنى.

وفي مقابله كانت حركة يزيد، الذي كان يسعى لتحويل التزام الإنسان بعبادة الطاغوت، بل إنّ يزيد طوّر هذا المفهوم، كما طوّرَهُ فرعون وجعله أمراً واضحاً في الالتزامات الاجتماعية بين الناس والحاكم، حيث كان يرى أنّ العلاقة والالتزام بين الناس والحاكم، هي أن يكون الناس عبيداً للحاكم بشكل رسمي وأساسي.

كذلك صنع يزيد هذا الأمر بشكل واضح عندما دخل بجيشه إلى المدينة المنوّرة في السنة الثانية من مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وأخذ عهداً من المسلمين جميعاً بما فيهم النخبة الصالحة من الصحابة والتابعين على أن يكونوا عبيداً أقنان له.

وهذا المبدأ الإنساني باعتباره يمثِّل مبدأً قائماً في حركة المجتمع الإنساني ووجود الإنسان منذ اليوم الأوّل وحتى قيام الساعة، فبطبيعة الحال يكون له تأثير في حياة الناس بشكل دائمي ومستمر، غاية الأمر أنّه قد يتصاعد ويشتدّ فيصبح واضحاً، كما في زمن فرعون ونمرود ويزيد وأمثالهم، أو يخف فيصبح خفياً غير واضح، أو يأخذ أشكالاً مختلفة في زمن آخر.لكن محتواه ومضمونه موجود دائماً في حركة الإنسان وفي المجتمع الإنساني.

وبهذا نلاحظ أنّ الإمام الحسين عليه السلام منذ بداية حركته وحتى نهايتها كان يشير إلى هذا المبدأ الذي أكّده القرآن الكريم وأكّده الإسلام، لأنّه يمثِّل حقيقة في مجمل الصراع الذي حدث بينه وبين يزيد. ولعلّ من الكلمات التي تجسِّد هذا المعنى بشكل واضح قوله عليه السلام لقيس بن الأشعث بعد أن عرض عليه النزول على حكم يزيد: «لا والله، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»[14].

وقوله في خطبته الثانية يوم الطف وهو يعبِّئ أصحابه للقتال: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتيّن: السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبيّة، وأُنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...»[15]. وقوله عليه السلام: «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً»[16]. وقوله عليه السلام في ساحة المعركة:[17]

 

«الموت خيرٌ من ركوب العار                          والعار أولى من دخول النار».

 

من كلّ هذه المضامين نفهم أنّ من أوثق الأسباب التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السلام هو العزّة والكرامة، فقد أراد الأُمويون إذلال المسلمين واضطهادهم وممارسة حالة القيمومة عليهم، وإرغام الإمام الحسين عليه السلام على الذلّ والخنوع، لكنّه عليه السلام أبى إلّا أن يعيش عزيزاً تحت ظلال السيوف والرماح.

فالحسين عليه السلام لم يدْعُ الناس إلى إقامة العبادات والارتباط بالله سبحانه وتعالى منفصلين عن قضاياهم الأساسية، وإنّما كان يؤكِّد أيضاً على الجانب الإنساني في تحرّكه، والقضايا التي يعيشها الناس في حياتهم.

المبدأ الثالث: التخطيط بالحكمة والموعظة الحسنة

إنّ كلّ ثورة يُراد لها أن تصل إلى أهدافها وتحقّق غاياتها النبيلة، لا بدّ أن يكون وراءها عقل يخطّط لها تخطيطاً علميّاً يسير بها إلى تلك الأهداف، أمّا عندما تفقد الثورة العقل المخطِّط لها فإنّها تفقد حينئذٍ التدبير والحكمة في مسيرتها، وحينئذٍ تتحوّل إلى مجرّد انفعالات عاطفية، أو مجرّد ردود فعل وتمرّد وانعكاس للواقع السيء، أو تتحوّل إلى فوضى لا يمكنها أن تحقّق مصلحة للمجتمع، أو أن تصل إلى غاية صحيحة.

والقرآن الكريم يؤكِّد على ذلك في مسألة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وفي مسألة دفع الناس نحو الارتباط بالله تعالى، وبالتالي نحو الإسلام على هذا الجانب في العمل، قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[18]. وقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)[19].

إذن؛ فمسألة الحكمة والموعظة الحسنة والتخطيط والتدبير كلّها مسائل ضرورية في نجاح الثورة والوصول إلى أهدافها؛ لأنّ عملية التغيير عملية معقّدة وعسيرة وتحتاج إلى تدرّج في العمل، واستنفاد لكلّ الوسائل، واستفراغ لكل الجهود، وصبر وعزيمة، وتشخيص لطبيعة الظروف والإمكانيات، والاستفادة من كل الطاقات والعوامل المؤثرة.

ويدخل في هذا الجانب عنصر مهم ـ لا بدّ أن ننتبه إليه ـ وهو عنصر المبادرة في العمل الثوري التغييري، فالثورة بمعناها الحقيقي تعني حالة من الابتكار والمبادرة يتّخذها الإنسان الثائر المستشعر للظلم والذلّ من خلال التخطيط لرفع هذا الظلم وتغيير الواقع، والبدء بعملية الهجوم الذي يتّصف بعنصر المبادرة على الواقع الفاسد، والظالمين من أعداء الله وأعداء المحرومين والمستضعفين، الذين يمارسون الظلم والإذلال.

وعليه، فالثورة الناجحة لا بدّ أن تتّخذ هذا العنصر كأساس في التحرّك، من أجل الإطاحة بالطاغوت ورفض الظلم والذلّ الذي يعانيه الإنسان المستضعف.

وعنصر المبادرة هذا يختلف في حقيقته عن عنصر ردّ الفعل، فالإنسان الذي يُستشهد في سبيل الله ويُقتل مظلوماً يمكن أن نفترض فيه فرضيتين:

إحداهما: الشهادة (في حالة المبادرة).

والأُخرى: الشهادة (في حالة ردّ الفعل).

فالإنسان الذي يبادر إلى الشهادة، معنى ذلك أنّه بتخطيط وتصميم مسبق فكّر بالقيام بعمل تغييري معيّن قد يؤدّي به إلى الشهادة، فالشهادة هنا جاءت عن مبادرة مخطّط لها سلفاً.

وقد يُستشهد الإنسان مظلوماً وبعدوان من الظالمين، ويُكتب عند الله سبحانه وتعالى في الجنان مع الشهداء، ولكن لم تكن شهادته على أساس تخطيط ولا على أساس مبادرة، وإنّما جاءت تعبيراً عن ردّ الفعل والإحساس بالظلم والحيف، فيكون هذا الاستشهاد منطلقاً على أساس أنّ الظالم من أجل أن يفرض هيمنته وسيطرته على الناس يقوم بقتلهم، فهؤلاء ـ الذين يقتلهم الظالم بسيفه ظلماً وعدواناً ـ وإن كانوا شهداء، لكن شهادتهم ليست عن مبادرة ولا عن تخطيط مسبق؛ ولذا لا يُعتبر مثل هؤلاء شهداءَ فكرٍ وتصميم.

فالثورة التي يمكن أن تُحقق نجاحاً وتصل إلى غاياتها، هي تلك الثورة التي تُخطط للانتفاضة على الظالم لدفع الظلم ورفع الذلّ الذي يعانيه المجتمع، ويكون لدى أبنائها ورجالها العزم والتصميم والإرادة على التغيير والتضحية والبذل والعطاء من أجل تحقيقه، وهذا ما أراده القرآن الكريم من المؤمنين: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)[20].

وهذا المبدأ هو من المبادئ الثابتة في حركة الإمام الحسين عليه السلام، فالحسين عليه السلام لم يقدّر في تحليله السياسي للأوضاع الوصول إلى الحكم، ولكن مع ذلك لم تفقد حركته ونهضته التخطيط، والسر في ذلك أنّ التخطيط وبذل الجهد يمثِّل الوفاء بالوظيفة والواجب الشرعي في هذا المجال، فإنّ على الإنسان أن يسعى ويبذل كلّ قدرته للوصول إلى الحكم الإسلامي، مضافاً إلى أنّ التخطيط بنفسه يترك آثاراً نفسية وسياسية واجتماعية على مجمل الأوضاع العامّة للمسلمين، وهذا ما كان يستهدفه الإمام الحسين عليه السلام من وراء هذا التخطيط.

حيث إنّ العملية بدون التخطيط لها قد تبدو وكأنّها عملية انتحار، أو مجرّد انفعال ورفض للظلم والذلّ، وأمّا مع التخطيط فتتحوّل إلى عمل ثوري وسياسي عام يرتبط بالأُمّة كلّها، وتتفاعل الأُمّة مع أهدافها ومقاصدها وشعاراتها ومفاهيمها، وهناك بعض الشواهد التي تؤكِّد عنصر التخطيط في نهضة الحسين عليه السلام نشير إليها باختصار:

الشاهد الأوّل: موقف الإمام الحسين عليه السلام من البيعة عندما طلبها منه والي المدينة، فإنّ الحسين عليه السلام قد خطّط لإعلان الرفض في ذهابه إلى الوالي، ولم يصنع كما صنع غيره ممّن دعاه الوالي إلى البيعة، كعبد الله بن الزبير أو عبد الله بن عمر، وفي الوقت نفسه لم يذهب إلى الوالي بشكل عفوي، وإنّما خطط لذهابه فاصطحب معه جماعة من بني هاشم، وكلّفهم بالوقوف على الباب؛ لكي يهجموا عندما يسمعون الصيحة لينقذوه، ثمّ إنّه عليه السلام خطّط للحديث مع الوالي، كيف يبدأ وكيف ينتهي[21].

الشاهد الثاني: ذهاب الحسين عليه السلام إلى مكّة وبقائه هناك حتى اليوم الثامن من ذي الحجّة وهو يوم التروية، فمضافاً إلى أنّ مكّة تُعتبر موطناً آمناً نسبياً؛ لما حباها الله تعالى من قدسية وجعلها بلداً آمناً في الإسلام، وكذلك في تاريخ العرب أنفسهم، تمكّن عليه السلام من الاتّصال بجماهير واسعة من المسلمين الذين وردوا مكّة للحج، كما أنّه عليه السلام قام بإرسال عدّة رسائل إلى مختلف الأقطار الإسلامية، كالكوفة، والبصرة، واليمن من أجل استنهاض المسلمين وشرح قضيته وأهدافه.

الشاهد الثالث: إرسال مسلم بن عقيل عليه السلام إلى أهل الكوفة؛ لكي يهيئ الأجواء فيها، ويعبّئ المسلمين وينظِّمهم ويأخذ البيعة منهم، ويدرس مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والروحيّة فيها، ويعرِّف المسلمين أهداف الثورة ومقاصدها.

نعم، كان الحسين عليه السلام يعرف أنّ مسلم سوف يُقتل في النهاية، كما يعرف أنّه سيُقتل هو في كربلاء، ولكن هذه التضحية والنهاية مسألة أُخرى لها غاياتها وأهدافها، فهو كإنسان ثائر سعى في بذل كلّ ما بوسعه وجهده من أجل تحقيق الأهداف المنشودة، ومن أجل أن يوفّر للثورة شروطها، ويضع عن عاتقه مسؤوليّة مواجهة النظام الأُمويّ الفاسد.

كما أنّه وضع أهل الكوفة أمام مسؤوليّات دينيّة وأخلاقية وسياسية، وفي الوقت نفسه وفّر الغطاء السياسي والاجتماعي والمبرّر الطبيعي لحركته وثورته، ويبدو كلّ ذلك من خلال خطابه السياسي عند خروجه من مكّة، أو في الطريق إلى الكوفة، أو في يوم عاشوراء.

وقد قام مسلم بن عقيل بنشاط عظيم في هذا المجال وحقّق بعض الإنجازات المهمّة التي كان لها بعد ذلك دور كبير في النتائج والآثار، فقد تمكّن من أخذ البيعة من جماهير الكوفة، وبذلك صعّد أجواء المواجهة إلى حدّ إخراج الكوفة عمليّاً من سلطة الحكم الأُمويّ، وأصبح التحرّك ضد النظام للأُمّة كلّها لا للحسين عليه السلام وحده، وأصبحت المطاردة والمظلومية والشعارات عامّة ومشتركة، كما اشترك فيها شيوخ العشائر وقادة الجيش ورجال السياسة إلى جانب الأفراد العاديين، ولم يكن النظام قادراً على السيطرة على الأوضاع من خلال الشرعيّة أو الشعارات الكاذبة أو المفاهيم المزوّرة، وكان هذا من أروع الخطط والبرامج التي وضعها الإمام الحسين عليه السلام ونفّذها مسلم بن عقيل، والتي حقّقت بعد ذلك أفضل النتائج.

الشاهد الرابع: خروج الحسين عليه السلام في الثامن من ذي الحجّة، أي: في يوم التروية، اليوم الذي يتوجّه فيه الحُجّاج إلى عرفات، فإنّ الحسين عليه السلام وجد أفضل طريق للإعلان عن ثورته أمام جماهير المسلمين أن يتّخذ طريقاً آخر يلفت إليه نظر الحُجّاج.

وبذلك أصبح المسلمون على علم بهذه النهضة، وفي نفس الوقت على علم بالأساليب الوحشيّة التي يستخدمها النظام لمطاردة الصالحين، حيث أعلن عليه السلام أنّ السبب في هذا الخروج المستعجل هو محاولة الحكم الأُموي قتله في مكّة، كما كشف عليه السلام بذلك استهتار النظام بالمقدّسات الإسلامية عندما أعلن أنّ خروجه كان بسبب تجنيب الحرم والمسجد الحرام الهتك من خلال إراقة الدماء فيه[22].

الشاهد الخامس: إبقاء ابن عمّه عبد الله بن جعفر، وأخيه محمد بن الحنفية، وعبد الله

ابن عبّاس في المدينة وفي مكّة وعدم اصطحابهم معه، يمكن أن نعتبره عنصراً من عناصر تخطيط الحسين عليه السلام؛ لأنّ هؤلاء بقوا في هذه المراكز المهمّة من أجل أن يؤدّوا عدّة أدوار يأتي في مقدمتها شرح وتوضيح خلفيات هذه الثورة، مضافاً إلى أنّهم عيون يرصدون حركة الأعداء ويناورون في الحركة السياسية، وبذلك تكون عملية الثورة متكاملة بأساليبها وأدوارها[23].

الشاهد السادس: اصطحابه عليه السلام لعياله وأهل بيته في مسيره إلى كربلاء، فإنّ عياله عليه السلام ـ وبالخصوص أُخته العقيلة زينب سلام الله عليها ـ قاموا بدور عظيم في الدفاع عن موقف الإمام الحسين عليه السلام والتعريف بالثورة بعد مقتله، وفي تأجيج العواطف وهزّ الوجدان والضمير لدى الأُمّة.

ومن الممكن افتراض أنّ الحسين عليه السلام بمجرّد أنّ يتحرّك يقوم النظام بإلقاء القبض عليه، وحينئذٍ يكون موقفه حرجاً أمام المسلمين وأمام نفسه، عندما تكون صورة الموقف هي: موقف الإنسان الذي ضيَّع عياله من أجل النجاة بنفسه.

كما أنّ عملية السبي التي كان يتنبّأ بها الإمام الحسين عليه السلام كان لها دور كبير في فضح شراسة بني أُميّة وهمجيّتهم واستهتارهم بالإسلام وقيمه؛ لأنّ قتل الحسين عليه السلام إذا كان لبني أُميّة أن يبرّروه أمام البسطاء والعامّة والمغفّلين ـ تحت شعارات الخروج عن الطاعة، وشقّ عصا المسلمين، وما أشبه ذلك من الشعارات والعناوين التضليلية ـ فلا يمكن لهم بأيّ حال أن يبرّروا سبي بنات رسول الله عليه السلام وذراريه وهتكهم، وتعريضهم للآلام والمحن والعذابات.

ولعلّ هذا الموضوع كان من أبرز وأوضح الشواهد على ضلال يزيد وانحرافه في نظر الأُمّة وعامّة الناس.

ومن هنا يمكن فهم قول الإمام الحسين عليه السلام ـ حين سأله محمد بن الحنفيّة عن سبب خروجه واصطحابه للنساء: «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»[24].

المبدأ الرابع: الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله من الواجبات والعبادات المهمّة التي تحدّث عنها القرآن الكريم في مواضع متعددة.

والجهاد مأخوذ ـ لغةً ـ من الجَهد بمعنى: التعب والمشقة. أو من الجُهْد بمعنى: الوسع والطاقة[25]. والجهد ـ بالكسر: القتال مع العدو، كالمجاهدة[26]. قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[27]، أي: في عبادة الله.

وقيل: الجهاد بمعنى رتبة الإحسان، وهو أنّك تعبد ربّك كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك[28]؛ ولذلك قال الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[29]. ومن سياق الآية الكريمة نجد هناك مفهوماً أوسع للجهاد هو تحمّل التعب والمشقّة، وبذل الطاقة والوسع من أجل إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان، والدفاع عن الحقّ والعدل، ومقاومة الظلم والطغيان، ومحاربة الكفر والباطل والنفاق.

وكذلك نلاحظ أنّ الجهاد مقرون بالهجرة، ولكن ليست الهجرة بمعنى الخروج من بلد إلى آخر طلباً للدنيا أو النجاة من القتل، وإنّما الهجرة التي يكون الهدف منها هو الجهاد في سبيل الله، والمحافظة على الدين والعقيدة والتقرّب لله تعالى؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ)[30]. وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [31]. وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[32]. وقوله تعالى: (إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)[33]. وهذا ما يجعل من الإنسان مهاجراً، وبالتالي متّصفاً بصفة تجعله قريباً من المجاهد في سبيل الله.

وفي قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[34]، مؤشِّراً إلى الهدف الرئيس من تشريع الجهاد؛ حيث إنّ له تأثيراً كبيراً في حركة الإنسان الذاتية ـ وهي تكامل الإنسان وقربه من الله تعالى واتّصافه بصفات الكمال الروحية والمعنوية الموجودة في ذاته ـ فالإنسان المجاهد حقيقة هو مَن اختُبر ومُحِّص من خلال جهاده وتضحيته في سبيل الله، وقانون الاختبار هذا وضعه الله تعالى شاملاً لكلِّ الناس لتتكشّف حقائقهم عند أنفسهم لا عند الله، فعِلْم الله في الآية الشريفة ليس بمعنى معرفة الحقيقة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى عالم بالحقائق قبل وقوعها لإحاطته بكلّ شيء.

ثمّ يؤكِّد القرآن الكريم على حقيقة، وهي أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى نصرة الإنسان لقوله: (إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وإنّما الإنسان هو المحتاج إلى الجهاد والقتال ليتكامل في مسيرته الذاتية والاجتماعية.

ويمكن تلخيص موارد الجهاد التي يمكن استنباطها من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، والتي تُبرّر القتال واستخدام السلاح في مواجهة الأعداء، بالأُمور التالية:

1ـ الدفاع عن النفس، سواء كان دفاعاً عن الفرد أو الجماعة المسلمة التي تتعرّض إلى القتل أو الفتنة، بل في حال الدفاع عن المال والعرض أيضاً. عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: مَن قُتِل دون مظلمته فهو شهيد»[35]. وورد في حديث آخر تفسير المظلمة بأن: «يُقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك»[36].

2 ـ مقاومة الظلم والطغيان الذي تتعرّض له الأُمّة بدرجة عالية، بحيث يستهتر فيها الحاكم بكلّ القيم الإنسانية ويصادر فيها حرية الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية. قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[37].

3 ـ تحرير المظلومين والمستضعفين من أيدي الطغاة والظالمين؛ كما دلّ على ذلك قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[38]. كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «مَن سمع رجلاً يقول: يا للمسلمين! فلم يجبه، فليس بمسلم»[39].

4ـ مقاتلة البغاة من المسلمين، سواء أولئك الذين يخرجون على الحاكم العادل الجامع للشرائط كما في حروب الإمام علي عليه السلام ضد أصحاب الجمل (الناكثين)، ومعاوية (القاسطين)، والخوارج، أو البغاة من الجماعة المسلمة التي تعتدي على جماعة أُخرى حيث يجب السعي للصلح بينهما، فإن أصّرت الفئة الباغية على عدوانها وبغيها وجب على المسلمين أن يقاتلوها ويقفوا في وجه العدوان والظلم، يقول السيد أحمد الجزائري في تعريفه للجهاد شرعاً: «هو بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام والإقرار بها، وإقامة شعائر الإيمان، فيدخل في القيد الأخير قتال البغاة، وهو أعظم أركان الإسلام وفضله عظيم»[40]، ومن مصاديق مجاهدة البغاة مجاهدة ومقاتلة أولئك الطغاة الظالمين من أبناء المسلمين الذين يحكمون المسلمين بالجور والظلم والعدوان، كما شهد بذلك موقف الإمام الحسين عليه السلام ضد يزيد بن معاوية.

فقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال ـ في تفسير موقفه من يزيد: «أيُّها الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله»[41]. فهو عليه السلام في كلمته هذه قد بيّن مصاديق الحاكم الظالم كما أوردها القرآن الكريم في عدة مواضع، وهي:

أ ـ الجور والظلم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[42].

ب ـ استحلال حرام الله وتحريم حلاله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ . . . )[43].

ج ـ نكث عهد الله: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[44].

د ـ مخالفة سنّة الله ورسوله صلى الله عليه وآله: ( سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا )[45].

هـ ـ ممارسة أنواع الإثم والعدوان في المجتمع: (وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[46].

و ـ لزوم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[47].

ز ـ إظهار الفساد في الأرض:  (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[48].

ح ـ تعطيل الحدود: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[49].

من هنا يتبيّن كيف كانت خُطَب الإمام عليه السلام وكلماته متفاعلة مع القرآن الكريم، ومقتبسة منه.

5 ـ الدفاع عن الإسلام عندما يتعرّض الدين وبيضة الإسلام إلى الخطر، سواء من قِبَل الكفار أو الطغاة[50]، فالجهاد هنا يكون واجباً دفاعياً على كلّ القادرين، سواء كان رجلاً أم امرأة، سالماً بدنه أم ناقصاً، من قبيل الأعمى والأعرج، أم غيرهما ممّن يقدر أن يدافع أو يساهم في عملية الدفاع.

ومن أمثلة هذا الصنف هو الجهاد في معركة الطف، حيث كان جهاداً دفاعياً، فالإمام الحسين عليه السلام كان يجاهد ويدافع عن الإسلام الذي يتعرّض إلى الخطر؛ بسبب وجود وطبيعة حكم الطاغية يزيد، ومحاولاته لحرف المسلمين عن الإسلام، وطرحه للمفاهيم الضالّة ضدّه.

ولم يتوقّف هذا النوع من الجهاد على الرجال، بل شمل النساء أيضاً، فكما أنّ الإمام الحسين عليه السلام، يبقى رمز كلّ الرجال الذين شاركوا في واقعة كربلاء، وملحمة الشهادة والفداء والبذل والتضحية والمعاناة، كذلك تبقى الحوراء زينب سلام الله عليها تمثِّل الرمز في هذه القضية بالنسبة للنساء.

فالعقيلة زينب سلام الله عليهاتمكّنت من القيام بدور عظيم في الثورة الحسينيّة، وذلك من خلال الدفاع والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، الذي يمثِّل بقية النبوّة وبيت الوحي والرسالة، ويمثِّل الامتداد للإمامة، وكان لها موقفان معروفان:

الأوّل: عندما قُتِل الإمام الحسين عليه السلام، وتعرّض مخيمه للهجوم الوحشي من قِبَل جيش عمر بن سعد، وانتهى القوم إلى علي بن الحسين عليه السلام وهو عليل على فراشه لا يستطيع النهوض، «فقائل يقول: لا تدعوا فيهم صغيراً ولا كبيراً. وآخر يقول: لا تعجلوا حتى نستشير الأمير عمر بن سعد. وجرّد الشمر سيفه يريد قتله، فمنعه ابن سعد من قتله، خصوصاً لمـّا سمع العقيلة زينب سلام الله عليها تقول: لا يُقتَل حتى أُقتَل دونه»[51].

الثاني: عندما أُدخِل السبايا على عبيد الله بن زياد في الكوفة، وجد مع النساء رجلاً واحداً، فاستغرب ذلك، والتفت إليه، «فقال له: مَن أنت؟ فقال: أنا علي بن الحسين. فقال: أليس قد قتل اللهُ علي بن الحسين؟ فقال له علي عليه السلام: قد كان لي أخ يسمّى علي قتله الناس. فقال له ابن زياد: بل الله قتله. فقال علي بن الحسين عليه السلام: (اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[52]. فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقية للرد عليَّ؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: يا بن زياد، حسبك من دمائنا. واعتنقته وقالت: والله، لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثمّ قال: عجباً للرحم! والله، إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لما به»[53].

وهكذا كان دور العقيلة سلام الله عليها في المحافظة على بقية الله الصالحة، فعندما ينظر الإنسان إلى مشهد أهل البيت عليهم السلام يوم عاشوراء بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، يرى وكأنّه لم يبقَ لهم أثر ولا وجود، لأنّ الشعار الذي رفعه عمر بن سعد وجلاوزته هو: أن لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية، ولكن بالرغم من ذلك نجد بقية الله أصبحت البقية الزاكية النامية المنتشرة، والتي رفعت راية الإسلام في كلّ عصر وزمان.

نتيجة البحث

من خلال ما سبق نستطيع أن نُدرك عمق الموقف في القضية الحسينيّة بأنّه ليس حرباً وثورة وعدواً وقتالاً دنيوياً مجرّداً، وإنّما قضية ودين وحقيقة لها أساسها الإلهي، وهو شرط كلّ ثورة وحركة تغييرية، حيث إنّ مسألة الارتباط بالله تمثِّل الهدف الأساس لكلّ عمل تغييري من منظور إسلامي.

وهذا المعنى نجده واضحاً في الثورة الحسينيّة حيث الارتباط بالله تعالى كان السمة الأُولى التي اتّصف بها الحسين عليه السلام وأصحابه، وكذلك العقيلة زينب سلام الله عليها في أثناء المعركة وبعدها عندما وجّه إليها عبيد الله بن زياد في مجلسه سؤاله وهو يعتبر نفسه منتصراً ومأخوذاً بزهوة الانتصار: «كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيك وأهل بيتك؟» فأجابته سلام الله عليها معبِّرة عن إيمانها بالله وارتباطها به وصبرها على المصيبة وإدراكها لأهداف الثورة: «ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتخاصَم، فاُنظر لِـمَن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أُمّك يا ابن مرجانة...»[54]، وهذا ما يسمّى بجهاد الكلمة.

من هنا كان الارتباط بالله من شروط الجهاد في سبيله وإعلاء كلمته؛ كي لا يرى المجاهد صنع الله به إلّا جميلاً.

وكما للارتباط بالله أهمّية لدى المجاهد، فإنّ لرفض الظلم ومقارعته والدعوة إلى الحقّ والعدل أهمّية كذلك؛ كون كرامة الإنسان وعزّته وحرّيته الحقيقية ترتبط بذلك.

فرفض الظلم وتحرير الإرادة الإنسانية والدعوة إلى العزّة والكرامة الإنسانية من أهمّ ما امتازت به الثورة الحسينيّة، فما قول الإمام الحسين عليه السلام: «هيهات منّا الذلة»[55] إلّا انعكاساً واضحاً لهذه الحقيقة، لأنّ رفض الذلّ يمثِّل في الحقيقة تحرير الإنسان من عبودية الآخرين وإخلاص العبودية لله، وقد تبيّن ذلك أيضاً في خطبة العقيلة سلام الله عليها في الكوفة كيف ضربت عليهم الذلّة والمسكنة بقولها: «... أتبكون وتنتحبون، إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيِّد شباب أهل الجنّة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟! ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبُؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة، ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء...»[56].

إذن؛ فالمرأة يمكن أن يكون لها دور عظيم، خصوصاً في هذه المرحلة؛ لما تشهده الساحة الإسلامية من حرب شعواء ضد الإسلام والمسلمين. فالإسلام اليوم يتعرّض لخطر عظيم، وهذا الخطر هو الذوبان في المجتمعات الغربية والانشغال بالدنيا، وانتهاك حرمة الإسلام. فالمرأة يمكن أن يكون لها دور عظيم جداً كما كان للسيِّدة الزهراء وابنتها الحوراء زينب عليهما السلام وغيرهما في الدفاع عن الإسلام، وتجنّب هذا الخطر وهذه المسؤولية ملقاة على عواتق النساء كما هي على عاتق الرجال.

الكاتب:  أ. م. د. خولة مهدي الجراح

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد الرابع عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1]أ. م. د. خولة مهدي الجراح جامعة الكوفة/كلية الفقه/دكتوراه في علوم القرآن وتفسيره.

[2] النساء: آية114.

[3] آل عمران: آية104.

[4] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[5] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص304.

[6] المصدر السابق: ج4، ص266. واُنظر: ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص70.

[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص116.

[8] القصص: آية4ـ5.

[9] الأعراف: آية157.

[10] النساء: آية76.

[11] البقرة: آية257.

[12] النساء: آية60.

[13] المائدة: آية60.

[14] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98. ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.

[15] ابن نما الحلي، جعفر بن محمد، مثير الأحزان: ص40.

[16] الهيثمي، عليّ بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج9، ص192. الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج3، ص115. ابن عساكر، عليّ بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص218.

[17] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.

[18] النحل: آية125.

[19] الأحقاف: آية35.

[20] النساء: آية75.

[21] ذكر المؤرِّخون هذه القصّة مفصّلاً وممّا جاء فيها: «فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه السلام في الليل فاستدعاه فعرف الحسين الذي أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمناً أن يكلّفني أمراً لا أجيبه إليه وهو غير مأمون فكونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منّي. فصار الحسين عليه السلام إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم فنعى إليه الوليد معاوية فاسترجع الحسين، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمر به في أخذ البيعة منه له، فقال له الحسين: إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى أبايعه جهراً، فيعرف ذلك الناس. فقال له الوليد: أجل. فقال الحسين: فنصبح ونرى رأينا في ذلك. فقال له الوليد: انصـرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس...». اُنظر: الفتّال النيسابوري، محمد بن الحسن، روضة الواعظين: ص171. المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص32.

[22] ذكر الطبري عن أبي مخنف، فقال: «قال أبو جناب يحيى بن أبي حية: عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: خرجنا حاجّين من الكوفة حتى قدمنا مكّة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، قالا: فتقرّبنا منهما فسمعنا ابن الزبير يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك، فقال له الحسين: إنّ أبي حدّثني أنّ كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش». الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص289.

[23] ورد أنّ الإمام الحسين عليه السلام لما تهيَّأ وعزم على الخروج إلى مكّة، قال لأخيه محمد بن الحنفية: «وأنا عازم على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ولا تخفي عليَّ شيئاً من أُمورهم...». المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[24] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص73.

[25] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج2، ص395. ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج1، ص486.

[26] اُنظر: الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط: ص286.

[27] الحج: آية78.

[28] اُنظر: الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين: ج3، ص30.

[29] الحج: آية78.

[30] الأنفال: آية78.

[31] التوبة: آية20.

[32] البقرة: آية218.

[33] الممتحنة: آية1.

[34] الحديد: آية25.

[35] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج11، ص92.

[36] المصدر السابق.

[37] القصص: آية4ـ5.

[38] النساء: آية75.

[39] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص164.

[40] الجزائري، أحمد، قلائد الدرر: ج2، ص131.

[41] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج3، ص307.

[42] الأعراف: آية165.

[43] التوبة: آية29.

[44] البقرة: آية27.

[45] الفتح: آية23.

[46] المائدة: آية62.

[47] الفتح: آية17.

[48] الشعراء: آية152.

[49] البقرة: آية229.

[50] اُنظر: العاملي، زين الدين، مسالك الأفهام: ج3، ص7.

[51] أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين عليه السلام: ص301.

[52] الزمر: آية42.

[53] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص116ـ 117.

[54] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص116.

[55] ابن نما، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.

[56] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص87.

 

المرفقات