الأهداف الكامنة وراء اغتيال الإمام الحسين عليه السلام
بعد أن أشرنا ـ فيما تقدم ـ إلى بعض الأهداف والدوافع التي تكمن وراء ظاهرة الاغتيال، وبعد أن أحصينا المحاولات التي أُريد منها التصفية الجسدية للإمام الحسين عليه السلام ، نودّ الإشارة إلى بعض الدوافع الكامنة وراء اغتياله عليه السلام وما هي الأهداف التي أُريدت من وراء ذلك، فالذي يقرأ ما ورائيات الأحداث التي حصلت آنذاك يجد أن الذي دعا الجهاز الحاكم في ذلك الوقت لاغتيال الإمام الحسين عليه السلام كان أكثر من سبب، وكل واحد من هذه الأسباب يصلح أن يكون هدفاً ومبرراً للتخلص منه والقضاء عليه، ونوجز فيما يلي تلك الأهداف في النقاط التالية:
أولاً: الهدف السياسي
إذ يُراد من اغتيال الإمام الحسين عليه السلام مع ما له من مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي، إيصال رسالة إلى الآخرين بأن كل مَن يقف في وجه السلطان فسوف تكون عاقبته ونهايته الموت والهلاك كائناً مَن كان، وهذا ما ينجم عنه تكميم الأفواه وإخراس الأصوات التي تدعو إلى الإصلاح والتغيير؛ الأمر الذي يزرع إرهاباً وخوفاً نفسياً في قلوب كل مَن علم بما جرى على الحسين عليه السلام ، ويتضح ذلك لنا من خلال مجريات الأحداث التي جرت في إرهاصات النهضة الحسينيّة؛ انطلاقاً من المراسلات التي جرت بين يزيد وواليه في المدينة ومروراً باقتراح مروان على الوليد بضرب عنقه عليه السلام [22]، وإرسال جماعة من رجالات الزمرة الحاكمة لقتله عليه السلام في مكة المكرمة وحرم الله الآمن، وختاماً بما جرى في واقعة كربلاء؛ إذ إنهم أرادوا من ذلك كله إخافة الآخرين من سطوة النظام الحاكم.
ومن المعلوم أن هذا السبب هو من أهم الأسباب التي دعتهم للتخطيط لاغتياله عليه السلام والتخلص منه؛ لأن ديدن بعض السياسيين وحكام الجور هو التشبث بكلّ ما يحافظ على ديمومة واستمرارية حكمهم.
وتبرز لنا أهمية هذا الهدف وخطورته فيما لو أخذنا بنظر الاعتبار الأُمور التالية والتي تمتاز بها شخصية الإمام الحسين عليه السلام :
الأمر الأول: إن الشخص الذي يُراد اغتياله هو الشخصية الأُولى بين المسلمين في عصره؛ حيث المكانة التي يحظى بها بين الأُمّة والمقام السامي الذي يتحلّى به؛ وقد حقّق ذلك كله بفضل العناية التي حصل عليها من قِبل جده المصطفى صلى الله عليه وآله من جهة، وما قام به من مواقف مشرِّفة من أجل الحفاظ على الإسلام من جهة أُخرى؛ الأمر الذي جعله مؤهلاً لتولِّي الزعامة الإسلامية في نظر الأُمة جمعاء. فأراد الجهاز الحاكم القضاء عليه والتخلص منه بالاغتيال والغدر؛ لإزاحة أكبر عائق عن طريقهم؛ ولكي يُبينوا للناس أن الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ـ الذي حصل على الحصانة الإلهية المصرح بها من قِبَل النبي صلى الله عليه وآله في بيانات سماوية كثيرة ما لم يحصل لغيره من بين الموجودين في زمانه إطلاقاً ـ عندما نازع الأمر أهله وهم بنو أُمية كان مصيره القتل والهلاك؛ مما يعني بالأولوية أن أيّ شخص معارض للحكومة الأُموية فسوف يكون مصيره الهلاك والموت كما هو مصير الحسين بن علي عليه السلام سبط نبي الأُمة.
الأمر الثاني: كون الإمام عليه السلام أحد الرموز الدينية التي تشخص إليها أبصار الأُمة في تولِّي الحكم الإسلامي؛ بل إنه يفوق كل مَن بقي من أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس وغيرهم، وقد كان المخطط الأُموي ناوياً القضاء على جميع هؤلاء ـ كما مرّ علينا في رسالة يزيد إلى والي المدينة ـ ليوصلوا رسالة إلى المجتمع بأن الرموز الاجتماعية التي تمتد إليها أنظار الأُمّة قد أُزيلت عن الطريق وتم القضاء عليها، ولم يبقَ للأُمة مَن يُتطلَّع إليه في ذلك.
الأمر الثالث: تبوّؤ الإمام عليه السلام الزعامة الدينية لدى شريحة كبيرة من المسلمين في كافة البلدان الإسلامية؛ إذ كان بنظر ومعتقد الشيعة إماماً منصوباً من قِبل الله ورسوله. فكان القضاء عليه والتخلص منه بوسيلة سرية يحمل رسالة تحذيرية واضحة إلى مَن هو أقل من الإمام شأناً من الجهة الاجتماعية والدينية بأن لا يفكر بأمر يكون مصيره كمصير الإمام عليه السلام .
وكل هذه الأُمور وغيرها تحقق الغرض والهدف السياسي الذي ينشده الحاكم الأُموي فيما لو تمت عملية الاغتيال لشخصية الإمام الحسين عليه السلام .
ثانياً: الهدف الانتقامي
مجرد نظرة عابرة في تاريخ بني أُمية ومكائدهم ضد الدين الذي حافظ عليه بنو هاشم أباً عن جد يتجلّى لنا أن أحد أهم الأهداف الكامنة وراء محاولات الاغتيال التي خُطِّط لها للقضاء على الإمام الحسين عليه السلام هو الأخذ بالثأر من البيت الهاشمي والانتقام منهم بقتل زعيمهم وكبيرهم الإمام الحسين عليه السلام ، بعد أن انتقموا منهم بقتل حمزة بن عبد المطلب ثأراً لقتلاهم في معركة بدر؛ ولا حاجة إلى مزيد عناء لإثبات هذه النقطة والتدليل عليها؛ إذ بعد معرفة العداء الذي يُكنّه البيت الأُموي لبني هاشم، والصراع الذي ترأسه أبو سفيان وحزبه ضد رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والمعارك التي خاضها ضد الدين، كما أنه يكفي ما أظهره يزيد في قوله أمام الملأ من المسلمين ومن دون حياء ـ متمثلاً بأبيات عبد الله بن الزبعرى ـ[23] :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تُشل
لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعل.
ثالثاً: الهدف الإجرامي
ويمكن أن يكون أحد الأهداف التي حملت هذا الجهاز الحاكم والسلطان المستبد على محاولة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام والتخلص منه ـ بعد أن خالفهم واعترض عليهم ـ هو التشفِّي به عليه السلام ؛ فقد عُرف التغطرس والتوغل بدماء الأبرياء من قِبَل تلك الحكومة الغاشمة، ويكفي للتدليل على ذلك أن نقرأ ما حدث مع ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهما من أعيان شيعة أهل البيت عليهم السلام ، إذ أمعنوا وتفننوا في قتلهم بأبشع الطرق الوحشية التي لم يكن لها سابقة في المسلمين[24].
رابعاً: الهدف الاعتقادي
ومن بين الأهداف التي دعت بالجهاز الحاكم إلى محاولة اغتيال الإمام عليه السلام هو الهدف الاعتقادي، فقد كان ديدنهم في التعامل مع كل مَن خالفهم في الرأي أو عارضهم في الفكر أن يحكموا عليه بالقتل والإبادة بأي وسيلة؛ وقد سجل لنا التاريخ خروقات كثيرة من قبلهم لمجرد اعتراض أو مخالفة في الرأي، كما في عبد الله بن عفيف الأزدي وغيره[25].
نحن نرى أن هذه الأسباب وهذه الأهداف قد اجتمعت لديهم بأعلى مرتبة؛ الأمر الذي جعلهم يسعون جاهدين للقضاء على الإمام عليه السلام وبأي وسيلة تيسرت لهم.
التأطير الفقهي لظاهرة الاغتيال
كلما أراد بعض أصحاب المطامع والأغراض الدنيوية الحصول على غطاء شرعي لبعض الممارسات التي يقومون بها هم وأتباعهم التجأوا إلى تأطيرها بإطار ديني، من خلال ليّ عنق بعض النصوص الشرعية التي ليس لها أيّ علاقة ومساس بممارساتهم الدنيئة، فترى أنهم يُجهدون أنفسهم لإضفاء السمة الشرعية على بعض الأفعال التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة، فضلاً عن ارتباطها بالدين، ونظائر ذلك كثيرة جداً، ومنها ما رأيناه في عصرنا الحاضر من إحراق للأبرياء العزَّل من المسلمين وغيرهم، حيث حاول بعض المتلبسين بلباس الدين أن يُبرّروا لهذا الفعل الإجرامي الشنيع بأن هناك مَن كان في صدر الإسلام ومن عِليَة الصحابة ورموزهم قد قام بهذا الفعل بمرأى ومسمع من الناس[26].
وحينما يدور الحديث عن ظاهرة الاغتيال نجد مَن يبرهن على شرعية هذا الفعل بمجموعة من النصوص، التي يدّعي أصحاب هذا الرأي أنها وقعت في العصر النبوي، وأن الأحداث التي تحكيها الوثائق التاريخية كان أغلبها بأمر من النبي صلى الله عليه وآله أو بقبول منه، ولنا أن نُقسِّم القائلين بمشروعية الاغتيال على نمطين:
النمط الأول: الإفراط في تبنِّي مشروعية الاغتيال في الإسلام
لقد تبنَّى هذا الرأي ـ وبشكل مُبالَغٍ فيه ـ بعض الباحثين حول هذه المسألة في كتابه (الاغتيال السياسي في الإسلام)[27]، وذكر جملة من الحوادث التي يعتقد بوقوعها في زمن النبي صلى الله عليه وآله، مستدلَّاً بها على مشروعية هذه الظاهرة، وأن الاغتيال هو الحل الأمثل والدواء الأنجع لمعالجة بعض الأزمات السياسية، ونحن نكتفي بذكر عناوين بعضها؛ لئلا نطيل على القارئ الكريم:
1ـ حادثة اغتيال كعب بن الأشرف.
2ـ حادثة اغتيال سلام بن أبي الحقيق.
3ـ حادثة اغتيال ابن سنينة.
4ـ حادثة اغتيال أبي عفك.
5ـ اغتيال خالد بن سفيان.
6ـ اغتيال عَبْهَلة (الأسود العنسي).
7ـ خطة فاشلة لاغتيال أبي سفيان.
وغير ذلك من الموارد التي ذكرها هذا الباحث في الفصل الأول من كتابه دفاعاً عن مشروعية الاغتيال[28].
وقد ذكر أن جميع النواهي التي كان يتقيد بها النبي صلى الله عليه وآله في مكة لم يكن منشأها والسبب الرئيسي فيها هو الارتداع عن المحرم، بقدر ما كان خوفه على أتباعه من الإبادة الجماعية، بعد أن يصبح المبرر العرفي بيد مشركي مكة، كما أنه يرفض الحديث الذي ينهى عن الفتك ويتبنّى القول بأن الحديث الذي اعتذر به مسلم بن عقيل لم يكن هو المانع الأساسي من القيام بقتل عبيد الله بن زياد، وإنما اعتذر بذلك بعد إخفاقه وعدم استطاعته القيام بهذه المهمة الخطيرة فلم يكن موفقاً لأدائها.
إلا أن بعض الباحثين قد سلّط الضوء على هذه الحوادث التي ذُكرت في زمن النبي صلى الله عليه وآله، وحاول الإجابة عنها وتوجيه هذه الوقائع بأجوبة كثيرة من قِبل علماء المسلمين، كان بعضها وافياً للرد على ذلك، لكن المقام لا يسع لذكرها، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في موردها[29].
النمط الثاني: مشروعية الاغتيال بالحكم الأوَّلي وحرمته بالحكم الثانوي
لسنا في صدد تصنيف النمط الثاني من القائلين بمشروعية الاغتيال في قائمة المتعصبين لهذه الظاهرة المتفشية في زماننا، وإنما نودُّ بيان ما وقفنا عليه من وجهة نظر بعض محققي الإمامية حول الأحاديث الناهية عن الفتك والاغتيال؛ إذ يرى أنها كانت مراعية للحالة والظروف التي يمرُّ بها المعصومون وأتباعهم في ذلك الزمان، فأصدروا هذا النهي تقيةً للحفاظ على أتباعهم؛ مستدلاً بوجود أخبار أُخرى آمرة بذلك[30].
هذا فيما يخص الشرعنة والتبرير لظاهرة الاغتيال بصورة عامة.
وأما التبرير لما فعله يزيد بن معاوية وأزلامه من محاولات لاغتيال الإمام الحسين عليه السلام والقضاء عليه بطريقة سرِّيّة، فلم أجد مَن دافع بصريح قوله عن ذلك؛ ولعل السر في ذلك هو عدم انطباق أي إطار شرعي أو قانوني لتلك الأفعال الشنيعة التي مارسها يزيد وأزلامه.
الاتجاه الرافض لهذه الظاهرة
سبق وأن ذكرنا بأن هناك اتجاهاً يبرِّر ويؤطِّر لظاهرة الاغتيال ويتبنَّى القول بمشروعيتها، وأنها طريقة متبعة في بداية العصر النبوي، بينما يرى آخرون أنها طريقة تنمُّ عن دناءة كل مَن يمارسها، وتدل على عجزه عن المواجهة، فيلتجئ إلى هذه الطريقة التي تأباها كل نفس أبية وشجاعة، والتي تعود في واقعها إلى الغدر، وهي من الصفات المذمومة شرعاً وعقلاً، وأنها طريقة يُراد منها تصفية الرموز الدينية لأجل القضاء على الدين[31]، بل حتى في العصر الجاهلي كانت ممارساتهم وأفعالهم ترفض ممارسة الغدر والاغتيال، فكان الفارس إذا أراد قتل أحد ناداه بصوت عالٍ: «خذ حذرك فإني قاتلك»[32].
وقد مورست هذه الظاهرة الخطيرة من قِبَل أعداء الرسول صلى الله عليه وآله في محاولات كثيرة لاغتياله ذُكِرت في كتب السير والتاريخ، وقد أحصاها بعض الباحثين في كتاب مستقل، تضمن المحاولات التي قامت بها أطراف متعددة للقضاء على النبي صلى الله عليه وآله[33] وثَّقتها كتب الفريقين، ومن أشهرها محاولة اغتياله في فراشه ليلة خروجه من مكة قاصداً المدينة، بعد أن أمر علياً أمير المؤمنين أن ينام في فراشه[34]، وهي حادثة غنية عن التوثيق والتخريج.
ولهذا الاتجاه أدلته الكثيرة التي يستند إليها في رفضه نجملها في النقاط التالية:
الدليل الأول: نهي الأدلة الكثيرة عن هذه الظاهرة
إن ظاهرة الاغتيال والمباغتة تتقاطع مع أدلة كثيرة بعضها جاءت مانعة عن هذا الفعل بالخصوص، وأُخرى ناهية عن الأفعال التي تتّحد معه في النتيجة، كالأحاديث الناهية عن الغدر والحيلة، ونحن نكتفي بذكر نماذج منها:
أ ـ الأدلة الناهية عن الفتك والاغتيال
يرى علماء الحديث وشراحه أن المراد من مفردة الفتك هو عين المعنى الذي يراد من الاغتيال؛ استناداً إلى تفسير علماء اللغة لمعنى الفتك[35]، بل إن في بعض الروايات تصريحاً من قِبَل الإمام نفسه يصلح لأن يكون شرحاً واضحاً لهذا المعنى، وهو يدل على اتحاد الفتك مع بعض معاني الاغتيال المتقدمة في اللغة.
وقد وردت هذه المفردة في روايات كثيرة ناهية عن ارتكاب هذا الفعل، ومبيِّنة أنه يتنافى مع روح الشريعة الإسلامية، نذكر منها:
1ـ عن أبي الصباح الكناني قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : «إن لنا جاراً من همدان يُقال له: الجعد بن عبد الله، وهو يجلس إلينا فنذكر علياً أمير المؤمنين عليه السلام وفضله فيقع فيه، أفتأذن لي فيه؟ فقال لي: يا أبا الصباح، أفكنت فاعلاً؟ فقلت: إي والله، لئن أذنت لي فيه لأرصدنه، فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته، حتى أقتله. قال: فقال: يا أبا الصباح، هذا الفتك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن الفتك، يا أبا الصباح، إن الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فستُكفى بغيرك...»[36].
2ـ ما رواه علماء السير والتأريخ في حادثة مسلم بن عقيل مع عبيد الله بن زياد، لما دخل إلى بيت هاني بن عروة لعيادته، وكان مسلم بن عقيل مختبئاً في إحدى غرف هذا البيت فاقترحوا عليه أن يقتل عبيد الله بن زياد، ولم يفعل ذلك، ولما سُئل عن سبب ذلك أجاب: «إن الإيمان قيد الفتك؛ فلا يفتك مؤمن»[37].
3ـ ما رواه الكشي عن إسحاق الأنباري، عن الإمام الجواد عليه السلام أنه أوصاه بقوله: «وإياك والفتك؛ فإن الإسلام قد قيَّد الفتك»[38]، وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي جاءت تنهى المؤمن من هذه الصفة التي لا تتماشى مع روح الإسلام والإيمان، بل لا تنسجم مع إنسانية الإنسان وفطرته.
إلا أن الذي يقرأ الرواية المذكورة في آخر هذه الطائفة من الأحاديث ـ بتمامها ـ
يجد أن الإمام يأمر إسحاق الأنباري باغتيال هؤلاء الأشخاص الذين منعه عن الفتك بهم؛ إذ إنه عليه السلام بعد أن منعه عن الفتك وبيّن له أنه يتنافى مع روح الإسلام قال له: «عليكم بالاغتيال. قال محمد بن عيسى: فما زال إسحاق يطلب ذلك أن يجد السبيل إلى أن يغتالهما بقتل، وكانا قد حذراه لعنهما الله». مما يُبين لنا أن معنى الاغتيال مختلف عن معنى الفتك؛ الأمر الذي يستدعي الباحث لأن يدقق في معنى الفتك، ومدى صحة دعوى اتحاده مع الاغتيال.
ولعل مراد الإمام من الاغتيال هو المعنى اللغوي الذي يعني أن يستدرج الرجل الذي يريد قتله إلى مكان بعيد عن الأنظار فيقتله هناك، وهذا المعنى أحفظ لشيعته وأتباعه، وهو ينسجم تماماً مع ما ذكره العلامة المجلسي آنفاً من كون الروايات الناهية عن الفتك واردة على نحو التقية.
ب ـ الأدلة الناهية عن الخيانة
ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾[39]، أن سياق الآية يتكلم عن حال المسلمين في مكة وأنهم محميِّين من قِبَل الله عز وجل: «هذا حين أمر المؤمنين بالكفِّ عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم سراً فنهاهم»[40]. والخيانة بهذا المعنى تتحد مع عملية الاغتيال في النتيجة؛ إذ كلاهما يؤدي إلى القتل سراً بعد أن كان الشخص المغدور آمناً من أيّ محاولة تودي بحياته.
جـ ـ الأدلة الناهية عن الغدر
والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً نكتفي بذكر بعضها:
1ـ ما رواه الصدوق بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «مَن أمن رجلاً على دمه ثم قتله جاء يوم القيامة يحمل لواء غدره»[41].
2ـ روى الكليني بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: يا أيها الناس، لولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار»[42].
3ـ ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «لكل غادر لواء يُعرف به يوم القيامة»[43].
4ـ ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يبعث سريَّةً دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمَّ يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلُّوا ولا تُمثِّلُوا ولا تغدروا...»[44]. وقد استدل فقهاؤنا الأعلام ـ المتقدمون والمعاصرون منهم ـ بهذه الرواية المعتمدة لديهم على حرمة الغدر بالكفار بعد إعطائهم الأمان[45].
الدليل الثاني: السماح بالاغتيال من قِبَل الشرع يستلزم وقوع الفوضى
إن الأحكام الإسلامية وفي جميع الأبواب الفقهية التي تقضي بعقوبة الأشخاص المتجاوزين والمعتدين قتلاً أو قطع بعض أعضائهم ـ كالحد والقصاص وغيرهما[46] ـ اشترطت أن تكون مباشرة القتل بإذن الإمام أو نائبه المتمثل بالحاكم الشرعي، ولعل الحكمة والفائدة من توقف تنفيذ هذه الأحكام الجزائية على الاستئذان من الحاكم الشرعي هو التحاشي من لزوم الفوضى وعدم الحفاظ على أرواح الأبرياء الذين يذهب دمهم ضحية بهكذا ذريعة شرعية، وهو ما يصطلح عليه في الموسوعات الفقهية بـ (لزوم الهرج والمرج) الذي يُراعى لأجله كثير من الأحكام في مختلف الأبواب الفقهية[47]، بل حتى لو اقتصر الأمر على قتل الشخص الجاني فقط مع ذلك سوف يشيع الخوف والرعب بين الناس؛ إذ إنه ليس واضحاً لدى الجميع الأسباب التي قُتل من أجلها هؤلاء الضحايا فيما لو كانت ملابسات الجريمة غامضة وغير مباح بها لعامة الناس؛ وهذا الأمر يؤدي بالنتيجة إلى انتشار الإرهاب والرعب بين الناس في البلاد، وهذا ما نلمسه واضحاً في عصرنا الحاضر من انتشار للرعب والإرهاب في كثير من بلداننا الإسلامية التي يذهب فيها ضحايا كثيرة وبملابسات غامضة، فتتضارب الآراء في الأسباب والدوافع من وراء ذلك؛ حتى وصل الأمر إلى أن يخشى الأبرياء على أنفسهم أكثر من غيرهم.
تطبيق الأدلة على محاولة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام
اتضح لنا أن هناك اتجاهين متعاكسين حول مسألة الاغتيال والمباغتة، يتبنَّى الأول مشروعية ذلك الفعل وأنه الخيار الأمثل في أحيان كثيرة، وفي قباله مَن يقول بحرمة وقبح هذا الفعل، للأدلة التي سقناها فيما تقدم، وهذا كله بالنسبة إلى ظاهرة الاغتيال بصورة عامة، وأما إذا أردنا أن نُسلط الضوء على محاولات الاغتيال التي نفَّذها الجهاز الحاكم ضد الإمام الحسين عليه السلام ، فإن المسألة والخطورة تتفاقم أمام مَن يريد التنظير والتبرير لها؛ إذ لم يكن هناك أيّ غطاء شرعي لذلك إطلاقاً؛ وذلك للأسباب التالية:
الأول: إن أقصى ما تثبته أدلة جواز الاغتيال على فرض التسليم بها هو قتل المحاربين بطريقة سرّية، وهو أمر لا ينطبق على ما قامت به الحكومة الجائرة في حق الإمام الحسين عليه السلام ؛ إذ ـ مع الغضّ عن مكانته ومنزلته عند الله ـ لم يكن تحركه سوى حركة سلمية رافضة لما قام به بنو أُمية من نقض للعهود والمواثيق، وتحويل الخلافة إلى مُلك يتداولونه بينهم. وهذا بحد ذاته لا يبرر لأن يقوم هؤلاء بعملية الاغتيال والتصفية الجسدية للإمام عليه السلام .
الثاني: على فرض التسليم بأن الإمام قام بعملية انقلاب عسكري ضد الجهاز الحاكم، لكنه لم يكن خروجه عليه السلام على إمام أو خليفة شرعي لكي يُهدر دمه، ولا يمكن أن يُشرعَن لذلك بما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وآله من ممارسات من هذا القبيل، مع غض النظر عن أن محاولات الاغتيال التي مارسوها كانت قبل تحرُّك الإمام بأيِّ خطوة.
الثالث: بما أننا عرفنا أن تطبيق الأحكام الجزائية متوقف على إذن الإمام أو الحاكم الشرعي كما هو أحد القولين في المسألة، فلم ينطبق ذلك على ما قامت به هذه الحكومة الجائرة؛ إذ لم يكن قد تم الاعتراف بيزيد بن معاوية كإمام أو خليفة للمسلمين؛ لكي يكون أخذ الإذن منه كافياً في مشروعيّة قتل الحسين عليه السلام غيلة.
وبذلك يتضح أن المحاولات التي قام بها أعداء الدين ضد الإمام الحسين عليه السلام لم يكن لها أيُّ مبرِّر أو غطاء شرعي، بل إنها طريقة متبعة لدى حكام الجور المتجبرين لزرع الرعب وبث الخوف والإرهاب في نفوس الرعية؛ لكي يتسنى لهم البقاء على عروشهم الفانية.
الكاتب: الشيخ صباح عباس الساعدي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[22] اُنظر: الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص14. والحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص14.
[23] اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص231. وأيضاً: النيسابوري، الحسن بن الفتال، روضة الواعظين: ص191. وأيضاً: الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص80. والطبري، ابن جرير، المسترشد: ص511.
[24] اُنظر: الكوفي، إبراهيم بن محمد، الغارات: ج2، ص799.
[25] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص351. وأيضاً: الكوفي، ابن أعثم، الفتوح: ج5، ص124. وأيضاً: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص117.
[26] فقد حاول بعض السلفية بأن يستدل لذلك بفعل أبي بكر، إذ أحرق الفجاءة السلمي، وقد ورد ذلك في كتبهم الروائية وغيرها. اُنظر: ابن عبد البر، الاستيعاب: ج2، ص776. وهذا ما نجده بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.
[27] اُنظر: العلوي، هادي، الفصل الأول من كتابه الاغتيال السياسي في الإسلام.
[28] اُنظر: العلوي، هادي، الفصل الأول من كتابه الاغتيال السياسي في الإسلام.
[29] اُنظر: الميانجي، أحمد، مكاتيب الرسول: ج3، ص41.
[30] قال العلامة المجلسي: «وقال: فيه (الإيمان قيد الفتك). الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل فيشد عليه فيقتله، والفتكة أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي... أقول: هذا أيضاً محمول على الاتقاء وخوف ثوران الفتنة، لورود الأمر به في بعض الأخبار». ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: ج16، ص451.
[31] اُنظر: ظاهري، جميل، الاغتيال سلاح غدر ومكر يهودي أُموي لكتمان الحقائق الإلهية. مقال منشور في مواقع الإنترنت.
[32] ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص286.
[33] فقد جمعها الشيخ نجاح الطائي في كتاب أسماه اغتيال النبي صلى الله عليه وآله.
[34] اُنظر: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص348. وأيضاً: المفيد، محمد بن محمد، الفصول المختارة: ص61.
[35] اُنظر: الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج4، ص1602. وأيضاً: ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة: ج4، ص471. وأيضاً: ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر: ج3، ص409.
[36] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج7، ص376.
[37] الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص65.
[38] الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي (اختيار معرفة الرجال): ج2، ص811.
[39] الحج: آية 38.
[40] اُنظر: الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير: ج23، ص38.
[41] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص256.
[42] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص338.
[43] خطب الإمام علي، نهج البلاغة: ص804.
[44] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص27.
[45] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط: ج2، ص19. وأيضاً: المحقق الحلي، النهاية ونكاتها: ج2، ص14. وأيضاً: الحلي، ابن إدريس، السرائر: ج2، ص21. وأيضاً: العلامة الحلي، الحسن بن المطهر، تحرير الأحكام: ج2، ص144. وأيضاً: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام: ج3، ص27. وغيرهم من الفقهاء.
[46] إن هذا الرأي هو أحد قولين في المسألة، وقد ذكر النراقي أن مَن تبنَّى هذا الرأي مجموعة من فقهائنا المتقدمين والمتأخرين، وهم: الطوسي في أحد أقواله في المبسوط وقد تبناه في الخلاف، والشيخ المفيد في المقنعة، وابن البراج في المهذب، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي، والعلامة الحلي في القواعد، وابن زهرة في غنية النزوع. اُنظر: النراقي، مستند الشيعة: ج17، ص443.
[47] اُنظر: المدني الكاشاني، كتاب القصاص للفقهاء والخواص: ص84.
اترك تعليق