الانساق المعرفية في رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين عليه السلام / دراسة تحليلية

ا.م د حسين عبيد الشمري

                                           

تناول البحث الانساق المعرفية في رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين ( عليه السلام ) فكان المبحث الاول حول الانساق ودلالاتها اللغوية والاصطلاحية ومصادر المعرفة لدى الانسان ( القلب والعقل ) اما المبحث الثاني فسلط الضوء حول دلالة الحق للهوما حققه الخطاب الوعظي للامام من معرفية شاملة بكل تجلياته وانساقه المعلنة والمضمرة اما المبحث الثالث فجاء حول حق الانسان لتربيته تربية روحية لبناء المجتمع الانساني الامر الذي اكسب الخطاب في رسالة الحقوق عالمية مميزة في اقرار الحق وافعاله التي تتجه بالانسان الى الانعتاق الروحي ودوائر الجذب الوجداني مع الذات المقدسة فكان حق الله ثم حق الرحم وحق السلطان والرعية والمملوك وصولا الى حق الاخر الذمي.

 

المبحث الاول \النسق المعرفي

مفهوم النسق بين اللغة والاصطلاح:

عرّف (الخليل الفراهيدي) النسق قائلاً: ((نسق: النسق من كل شيء: ما كان على نظام واحد عام في الأشياء، ونسقته نسقا ونسقته تنسيقا، ونقول: انتسقت هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت))[1].

ويقول (الجوهري): ((ثغر نسق، إذا كانت الأسنان مستوية، وخرز نسق: منظم، والنسق: ما جاء من الكلام على نظام واحد، والنسق بالتسكين: مصدر نسقت الكلام، إذا عطفت بعضه على بعض، والتنسيق: التنظيم))[2].

ويرى (أحمد بن زكريا) أن ((النون والسين والقاف أصل صحيح يدل على تتابع في الشيء، وكلام نسق جاء على نظام واحد قد عطف بعضه على بعض))[3].

أما (الزمخشري) فقال: ((النسق الدر وغيره، ونسقه ودر منسوق، ومنسق ونسق وتنسقت هذه الأشياء وتناسقت، ومن المجاز كلام متناسق، وقد تناسق كلامه، وجاء على نسق ونظام، وثغر نسق، وقام القوم نسقا، وغرست النخل نسقا))[4].

وقد اختلفت معاني النسق بين أصحاب النظريات، فقد عرف (بارسونز) النسق بأنه نظام ينطوي على أفراد فاعلين، تتحد علاقتهم بمواقفهم وأدوارهم التي تنبع من الرموز المشتركة، والمقررة ثقافياً في إطار هذا النسق، وعلى نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي[5]، ويقول: ((إن النسق يرتكز على معايير وقيم، تشكّل مع الفاعلين الآخرين جزء من بيئة الفاعلين، وهدف كل فاعل هو الحصول على أقصى درجة من الإشباع، وإذا ما دخل الفاعل في تفاعل مع آخرين وحصل في ذلك الإشباع فذلك مدعاة لتكرار التفاعل))[6].

يقول الشكلانيون الروس ((إن النسق الأدبي، (مقابل النسق التاريخي) يتميز باستقلالية معينة: لأنها إرث الأشكال والمعايير الثقافية المتنوعة التي بدأت من البناء السردي إلى مختلف طرق النظر في مسألة العروض، وتسمح هذه الاستقلالية بالتفكير في مسألة أدبية))[7].

يقول (أحمد يوسف): تردد مرارا مصطلح النسق في محاضرات (دي سوسير)، وهو موطن الجدة في نظريته، بل كاد يمثل المحور الجوهري في نظريته، فاللغة في تصوره نسق لا يعرف إلا طبيعة نظامه الخاص، وهي نسق سيميائي يقوم على اعتباطية العلامات، ولا قيمة للأجزاء إلا في ضمن الكل، فجاراه كثير من البنيويين في هذا الشغف بالنسق حتى أطلق (فوكو) على جيله جيل النسق، ومن ثمرات هذا المفهوم تصوره المتفرد في تاريخ التفكير اللغوي للعلامة، وانبثقت من هذه المتصورات مرتكزات البنيوية في مجال الدراسة التزامنية، والتعريف السيميائي للسان الذي يحظى بالأفضلية على بقية الأنساق الأخرى كالكتابة ولغة الصم البكم وغيرها[8].

ويعلل (الغذامي) بعد أن يسأل عن النسق؟ وكيف نقرؤه؟ وكيف نميزه من سائر الأنساق؟ قائلاً: يجري استعمال كلمة (النسق) كثيرا في الخطاب العام والخاص، وتشيع في الكتابات إلى درجة قد تشوه دلالتها، وتبدأ بسيطة كأن تعني ما كان على نظام واحد، كما في تعريف المعجم الوسيط، وقد تأتي مرادفة لمعنى (البنية)، أو معنى (النظام)، بحسب مصطلح (دي سوسير)، واجتهد باحثون عرب في تصميم مفهومهم الخاص للنسق، ومع أننا لا نعترض على حضور هذه الدلالات إلا أننا نعرض (النسق) مفهوماً مركزياً في مشروعنا النقدي، ومن ثم فإنه يكتسب عندنا قيماً دلالية وسمات اصطلاحية خاصة[9].

وما أضافه (الغذامي) يعدّ عنصراً سابعاً، وسماه (العنصر النسقي)، على عناصر الرسالة الستة المعروفة كما هي عند (رومان ياكوبسون)، في أنموذجه الاتصالي وهي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والسياق، والشفرة، وأداة الاتصال، وبإضافة العنصر السابع (النسقي)، عند (الغذامي) زادت وظائف اللغة الست إلى سبع وهي: الذاتية، التعبيرية، المرجعية، المعجمية، التنبيهية، الشاعرية (الجمالية)، ثم الوظيفة السابعة الجديدة (النسقية) وهذه الإضافة قد غيرت النظرة الجمالية إلى النص الأدبي ؛ لأنها تركز النظر في الأبعاد النسقية للخطابات، وبذلك توسع من وظيفة النقد، وتنقلها إلى آفاق جديدة[10].

إن النص ليس أكثر من وقع للصراع الطبقي المستمر وإن تحليل النص أو تفسيره ينطلق من إدراك هذه الحقيقة وهذا يعني في الواقع أن الأمر لم يعد قاصراً على التعامل مع النص داخل سياقه السياسي، أو داخل السياقات السياسية التالية التي تفرض على النص فرضاً من جانب الناقد، ومن أساليب هذا النقد أن يفيد من مناهج التحليل المعرفية، مثل: تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، فضلاً عن إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.[11]

لم تعد الدراسات الثقافية تنظر إلى النص على أنه نص, ولا إلى الأثر الاجتماعي أو النفسي الذي قد يظن أنه من إنتاجه, إنما تأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية فالنص هنا وسيلة وأداة للكشف عنها, وبحسب مفهوم الدراسات الثقافية ليس النص مادة خاما يستعمل لاستكشاف أنماط معينة من الأنظمة السردية والإشكالات الايدولوجية وأنساق التمثيل, وكل ما يمكن تجريده من النص, وليس هو الغاية القصوى للدراسات الثقافية, وإنما غايتها المبدئية هي الأنظمة الذاتية في فعلها الاجتماعي في أي تموضع كان, بما في ذلك تموضعها النصوصي[12].

  وبهذا المفهوم فإن الدراسات الثقافية لا تقرأ النص في ظل خلفيته التاريخية ولا الايدولوجية, وإنما تركز في الثقافة من باب أنها تساعد على بناء التاريخ وتشكيله والدراسات الثقافية والنقد الثقافي الذي يرتبط بها موجودة منذ أواخر السبعينيات بل يمكن إرجاعها إلى ما قبل ذلك بسنوات إذا أخذنا تأثير (ميشيل فوكو) في الاعتبار بيد أن ذلك الإلحاح يؤكد من ناحية أخرى درجة التداخل، التي تقترب من الفوضى داخل المشهد النقدي الذي فشلت اتجاهات ما بعد الحداثة أحيانا في إنقاذه وفض اشتباكاته مثل: الماركسية الجديدة, والمادية الثقافية, والتاريخية الجديدة, وأخيرا الدراسات الثقافية[13].

 

المبحث الثاني \مصادر المعرفة

ان الاساس السليم للمعرفة عند العرفاءهو الوحي وان مصدر المعرفة غير العادية او الخارقة للطبيعة هو الالهام او الاشراق كما ان مصدر المعرفة العادية هو الادراك الحسي والاستدلال العقلي.

الا ان هذا الاساس المعرفي لا يشير للجميع بل للصفوة المختارة كما  يرى المتصوفة الذين خلصت نفوسهم من شوائب المادة وتجردت فكانت في وضع يؤجلها لاختراق الابعاد الحسية للوعي الى الابعاد الميتافيزيقية الخالصة , ففي العالم الصوفي الاشراقي تصبح  الوظائف الحسية متعطلة تماما وتعمل ملكات اخرى كامنة خلف الوعي الحسي العادي على التفاعل مع هذا العالم والاستجابة الى محفزاته وتذوق الابتهاج الروحي بعالم  الروح الحقيقي ويتم التعرف على الاشياء ليس من خلال النظرة الثنائية بل بالدخول الى البعد الذاتي للموضوع والتوحد مع الشيء في ذاته لتجربته من الداخل وتلك هي المعرفة الحقيقية ([14]) .

ان اوضح ما يتميز به عن طريق المعرفة الوجدانية  هو طابعها المباشر لان كل مصدر اخر الجهاز الحسي او خطوات الاستدلال او المخطوطات التي نقلت بها المعلومات الينا , ففي كل حالة تكون بعيدين عن العالم الحقيقي مرحلة واحدة , اما المعرفة المباشرة فلا تكتسبها الا بالحدس والتجربة الروحية فهي تستبعد كل توسط من عملية المعرفة , وهي عملية جلب الذات والموضوع يصبحان في بعض التجارب الصوفية شيئا واحدا وهذا يبلغ الطابع المباشر اعلى درجاته ([15]).

(1) القلب

يرد تعريف القلب في معجم مصطلحات الصوفية بان له معنيان ( احدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الايسر من الصدر, وهذا القلب يكون للبهائم ايضا , بل للميت ايضا ومن الواضح ان الصوفية لا يتكلمون ولا يعنون في نصوصهم الاشارة الى مثل هذا القلب , بل ان قولهم ( يكون للبهائم ... والميت ايضا) ما يكفي من الاشارة الى تدني قدرة وهو ان شانه مع التأكيد ان هذا القلب نفسه – وعند حدود التعريف هذا- يشارك الانسان فيه الحيوان والميت – في حال غفلته واعراضه عن الله واستعماله فقط كمبدأ  لديمونة الجسد والحياة , بعبارة موجزة ان هذا النوع من القلب , هو نوع بيولوجي بحق موجود الانسان كحيوان وبهيمة بين البهائم , اما المعنى الثاني للقلب – وهو نوع معرفي- فهو " لطيفة ربانية رومانية,  لها تعلق بالقلب الجسماني كتعلق الاعراض بالأجسام , والاوصاف بالموضوعات زهي حقيقة الانسان, وهذا هو الماد من القلب اذ وقع في القران والسنة" ([16]) .

ويعرف الكاشاني القلب بانه : ( جوهر نوراني مجرد, يتوسط بين الروح والنفس,  وهو الذي يتحقق به الانسانية ... كما مثله القران بالزجاجة والكوكب الدري, والروح بالمصباح....)([17])

وشان الصوفية طائفة من خواص المسلمين , ممن استمد نوعه الثقافي وذخيرته المعرفية من القران والسنة , فليس يخفي عليهم , الاصل القرآني لهذا المعنى الذي يذهبون اليه ويشبتونه لأنفسهم , اذ ان هناك جمع من الآيات الكريمة مما يشير الى هذا المعنى صراحة , كقوله تعالى :" ان في ذلك كذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد" ى([18]).

وقوله تعالى: ( نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين) ([19]).

وهي اية بالغة الدقة في معناها بإشارتها الى ان القلب هو ممل  نرول القران , وان وسيلة تلقي القلب لهذا القران هي التنزيل, لكن على قلب الرسول محمد(ص) اطهر قلوب بني البشر واكثرها صفاء,  ومعنى هذا ان قلوب الاولياء بعد صفائها وسموها واخلاصها لله قابلة  هي الاخرى لتلقي مثل هذا التنزيل , لكن لا عن طريق الوحي من الله- لان الرسول محمد (ص) هو اخر البنيين واخر من اوصى الله لهم , بل عن طريق الالهام ([20]). والاتصال المباشر([21]) , عبر نور القلب بمصدر النور في الكون كله, الله تعالى جل شانه.

لكل ما تقدم يضع الصوفية على اختلاف طبقاتهم معاني عديدة للقلب, عاملة في نصوصهم وعباداتهم , منها " انه لبابة المخلوقات وزبدة الموجودات جميعها ,.......  ومنها انه سريع التقلب وذلك لأنه نقطة يدور عليها محيط الاسماء والصفات , ومنها ان القلب لحقائق الوجود كالمرآة للوجه ولما كان العالم سريع التغير في كل نفس انطبع عكسه في القلب,  فهو كذلك سريع التغير ([22])"

(2) صراع العقل والقلب

اما العقل , وهو وسيلة المعرفة المشتركة لدى البشر وادائها التي يتفق الفلاسفة وكثير من الناس على اهميتها المعرفية هذه , فيبرد ان امره , - كونه وسيلة معرفية- مختلف عليه في فهم الصوفية ومبادئهم الكبرى  في التعامل معه والتوكل عليه في تحصيل المعرفة , وانه – دنماشك- وسيلة  فعالة لمعرفة ما في العالم , غير انه (عاجز) بالياته المعرفية عن  التعرف على ا وراء العالم, نعني الله تعالى , يقول النوري عندما سئل  " بما عرفت الله؟ فقال : بالله , فقيل فما بال العقل؟ قال : العقل عاجز  لا يدل الا على عاجز مثله؟"([23]), القلب والعقل اذا , في التعاليم الصوفية, بوصفهما اداتي المعرفة البشرية , ليسا على وفاق , بل ان احدهما وهو العقل, معزول ومعنى عن دوره المعرفي في التعرف على الله,  ومثل هذه الحقيقة تعد ركنا معرفيا اساسيا وتعليما ومبدا اعلى حتى  ان الصوفية كمصطلح يشتق كامل معناه من مبدا التفريق هذا من حيث ان " التصوف هو تلمس المعرفة الحقيقية بالذوق الايماني , وتجلي النور الالهي في المؤمن العابد, وهاتان الحالتان لا سبيل للعقل اليهما , وليس معنى هذا ان نهمل قدر العلم ومكانه العقل, بل نرى ان العقل مصور في اطار التجربة المادية  وان التجربة الصوفية الاسلامية هي روحية  صرفة , وساحة العلم هي المادة وكلة حصيلة الحواس , اما التصوف فيحلق بالانسان في اجواء الروح والضمير والنور الالهي لكن دون ان يخرج عن حدود الشريعة الغراء"([24])

ان موضوع التصوف الاكبر والاوحد , هو العلاقة بالله وما يندرج تحت هذه العلاقة , وهو العلم بالله تعالى, اي العلم بما هو خارج العالم, وبما هو متنزه عنه, فضلا عن التعريف الاخلاقي للتصوف بانه:

" التخلق بالأخلاق الالهية" ([25])

يلخص السراج في (اللمع) تعريف الصوفية بقوله " هم العلماء بالله , وبأحكام الله, العاملون بما علمهم الله تعالى"([26]).

موضوع العلم اذا لدى الصوفية , بحسب تعريف السراج هو الله ووسيلة تحصيله هو الله ايضا.

ومثل هذه الحقيقة – كما اشرت – هي المبدأ الاعلى في نظرية المعرفة الصوفية التي تقوم في جوهرها على اساسين : الاول هو " التجربة الباطنية المباشرة للاتصال بين العبد والرب ([27]), والثاني هو " امكان الاتحاد بين الصوفي  وبين الله"([28]).

اذن يقتضي القول بملكة خاصة غير العقل المنطقي , هي التي يتم بها هذا الاتصال, وفيها يتحد الذات والموضوع , وتقوم فيها البوادر واللوائح  مقام التصورات والاحكام والقضايا في المنطق العقلي , ومن هنا يشعر صاحب هذه التجربة بإثراء في كيانه الروحي , وتحرره في افكاره وخواطره ([29]).

وهو الامر الذي لانجزه لدى الفلاسفة مثلا , قدر تعليقهم بمعرفة الله تعالى حتى وان كانوا الهيين من حيث اعتمادهم العقل وسيلة لتحقيق ذلك العلم المتعالي , يقول بدوي موضحا مبدا التعريف هذا :

" اداة المعرفة عندهم هي ملكة خاصة , تسمى الوجدان او الذوق او  العيان بينما الالهيين هي العقل والبرهان العقلي" ([30]).

ان نوع المعرفة التي يصل اليها العارف , هي " معرفة مباشرة بغير وسائط من مقدمات او قضايا او براهين وانها معرفة فوق عقلية لا يجوزها الا من سلك سبيل التصوف" والهم المعرفة المباشرة , ومن هنا ايضا تسمى المعرفة كشفا , ولهذا يرى الصوفية ان هذه المعرفة هي علم الصديقين وان من كان له نصيب منه فهو من المقربين وينال درجة اصحاب اليقين" ([31]). 

وباعتمادنا مبدا التفريق المعرفي هذا, اي من خلال اداة المعرفة ذاتها " العقل ام القلب لا يمكن ان تسمي الصوفية فلاسفة , وبالفعل فقد وضع صوفيه القرنيين الثالث والرابع نظاما كاملا في التصوف في ناحيتين النظرية  والعملية , ولكنهم لم يكونوا فلاسفة ولم يعنوا الا قليلا بالمشكلات  الميتافيزيقية"([32]).

تلك التي دخل في الغازها العقلية المميزة من عاصرهم او سبقهم من فلاسفة المسلمين , بل ان احد شيوخهم ذهب الى القول في تعريفه للتصوف, ان التصوف هو ان " تتخلى عن كل ما في دماغك"([33]).

ان علاقة القلب بالنوع الخاص للمعرفة من حيث طبيعة فروقه عن اداة العقل التي يشترك الناس في اتخاذها اداة للمعرفة يمكن ايجازها على النحو الاتي:

ان العقل له مقام لدى الاسلام , اذ القران الكريم  يدعو الى الايمان بالعقل قائلا: " كذلك يبين الله لكم الاليات لعلكم تعقلون"([34]), وقد امتان الاسلام بانه  دين الفطرة , ولم  يأت بما يتنافر مع العقل السليم وتاباه النفوس الصحيحة, امر الاسلام بالبحث والنظر والاستدلال, ان مبدا احترام العقل وحرية التفكير الذي كفله الاسلام وحض عليه القران الكريم جعل المسلمين لم يحسبوا افكار المفكرين, ان الاسلام  يحاول اصل الملل والنحل جدالا عماده العقل, ويعيب الكفار  بنقص عقولهم وقال تعالى : " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين  لا يبصرون بها  ولهم ءاذان لا يسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم اضل"([35]).

ينطلق الامام السجاد في ادعيته لتربية  الانسان تربية روحية ينطلق من العلم الحسي  المحدود الى العلم الروحي الذي لا حدود له فلا بد له ان يتخلص من  الذاتية , وذلك يتمثل في قطع روابطه بما يكدر صفاء قلبه من علائق الدنيا وهومها...... فيتجلى ذلك عبر اسس اعتمدها في الصحيفة السجادية او رسالة الحقوق ، يمكن ترتيبها كما يأتي

1_ مرحلة التزكية والانعتاق الروحي

2_ مرحلة المعرفة الحقة ( حق الله ، حق الانسان ، حق الاخر )

3_ العبادة

وتعد مسألة الجذب من ابرز النتائج التي تحققها الاعمال العبادية للانسان في مرحلة العبادات العامة ( الصلاة ، والصوم ، والزكاة .... الخ ) فهي وسيلة لتربية الانسان الروحية للدخول في دائرة الجذب القلبي والعقلي والخلاص من الحجب الظلمانية ، يقول الغزالي)) ومهما اقبل القلب على  الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجابا له عن مطالعة اللوح المحفوظ... كما ان من نظر الى الماء الذي يحكي عن صورة الشمس لا يكون ناظرا الى نفس الشمس)) ([36]).

من هنا فان المعرفة المتحققة عبر مراحل للوصول الى اصل الحق كانت عناية الامام عليه السلام في رسالته التي تكامت في انساقها المعرفية الامر الذي جعلها نصا معرفيا وعالميا خالدا عبر الاجيال.

لعل القارئ لرسالة الحقوق يرى انها ذات بنية ثلاثية بحسب الموضوع ؛ اذ توزعت على ثلاثة محاور :

1\ حق الله

2\ حق الانسان

3\ حق الاخر

ولكل هذه  المحاور تفرعات ثانوية تصب في هدف واحد لتجتمع بعد قراءة واعية في بنية واحدة وبؤرة مركزة هي ( الحق ) وما لهذه الدلالة من انساق مضمرة تتنوع بحسب الخطاب والمخاطب ، قال تعالى((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ  )) ([37]) فالحق هو الله ، وهو القسط او العدل ، وبه تنعم البشرية _ _ وهو الموت . ان القلب كأداة معرفة وحيدة تنفتح على الذات الالهية لمعرفتها كموضوع لها يتأكد دوره ومعناه وضرورته من خلال تعريف الصوفية انفسهم لمعنى ( المعرفة), يقول الدكتور الحنفي في معجم مصطلحاتهم مستحصلا هذا المعنى من طريقة نظرتهم الى المعرفة كونها " صفة من عرف الحق  سبحانه بأسمائه وصفاته.... وسئل بعضهم ما المعرفة ؟ فقال: " تحقيق القلب بإثبات وحدانية بكمال صفاته واسمائه"([38]).

حق الله

وهو اول الحقوق واعظمها التي ينبغي على الانسان معرفته من خلال التزكية والتجرد والانتقال من عالوالق ومظاهر الوجود اليه وتتم هذه العملية عبر سلسلة من الخطوات أكدها الامام عليه السلام في رسالة الحقوق ، اذ يقول ((  إعلم أن الله عز وجل عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنه سكنتها، أو حال حلتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت فيها. فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق)) ([39])

 

ولهذا الاصل تفرعات اطلق عليها الامام عليه السلام حقوق الافعال ومنها حقوق الجوارح السبع : ((  أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل عز وجل للسانك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، ولبصرك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال)) ([40]).

ان تصنيف الافعال وفقا للجوارح السبع بحسب متن الرسالة يدعو القارئ الى التأمل في نوعية هذه الافعال ، فمنها ما يرجع بالاصل الى فعل قولي لفظي او فعل ادائي حركي ، وما يترتب على ( القول او الاداء ) من قوى انجازية بالتأثر او التأثير بحسب نظرية الافعال الكلامية التي تتناول الخطاب من وجهة نطر الوعظ او الحكميات او القصد.

ويمكن تناول هذه الافعال التي عرضتها الرسالة وما يترتب عليها من حقوق في معرفة الله كما يأتي :

* العبادة

وتشمل كل الطقوس العبادية للوصل الى الحق ( عزوجل )  هذه العبادات التي يشترك بها ( العقل والقلب ) سواء أكانت قولية لفظية او حركية مثل ( الصلاة او الصوم  او الحج او الصدقة ...... الخ )

هذه العبادات التي تؤكد معنى العبودية لله وحده ، اي الاقرار بوجود عبد ورب او مالك ومملوك([41]) ، يقول الامام عليه السلام: ((  ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا: فجعل لصلاتك عليك حقا، و لصومك عليك حقا، ولصدقتك عليك حقا، ولهديك عليك حقا، ولأفعالك عليك حقوقا )) ([42]).

فتوحيد هذه الافعال بالاخلاص يضفي الى توحيد الله عزوجل وهو القصد من العبادة اي الوصول الى الحق المطلق ،قال تعالى : (( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا )) ([43]).

ان موضوع المعرفة الاوحد , هو الله تعالى , وان هذا الموضوع المتعالي لا يمكن له ان يوجد داخل العالم الذي خلقه, ولما  كان هذا العالم , مدركا بالحواس والعقل , فان استخدام هاتين الوسيلتين لا يمكنهما ان تؤديا الى معرفة الله تعالى , لانه يقع خارج حدود برزخ العقل, ومعنى هذا ان معرفة الله لا يمكن ان تتحصل عن طريق العقل, انما عن طريق وسيلة واداة اخرى هي القلب ولما راى الصوفية ان  هذا القلب , هو موضع التنزيل , وان طبيعة الله, اذ تستعصي على  الادراك عبر العقول انما تقتصر معرفتها على القلوب وحدها, اثر الصوفية التوكل على هذه الاداة في مهمة المعرفة الالهية , عن طريق الكشف والالهام, اي عن تنقية الصوفي لقلبه من كل دنس عبر المجاهدة, حتى اذا بلغ قلبه مثل هذه المرتبة اصبح معدا ومهيئا لاستقبال الالهام الالهي اليه وعلى نحو مباشر , هكذا , بلا علل واسباب وعلائق وجودية وبهذا تتحقق عملية الجذب الروحي .

 

وقد أكد الامام عليه السلام هذا المعنى في تنبيه المخاطب قائلا: ((فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة. وحق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله عز وجل )) ([44]).

ومن الافعال العبادية التي اشار اليها الامام في الرسالة هي صلاة العبد العارف ، وهي فعل لفظي وحركي ؛ اذ يقول : ((  وحق الصلاة أن تعلم أنها وفادة إلى الله عز وجل وأنك فيها قائم بين يدي الله عز وجل فإذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير ، الراغب الراهب، والراجي الخائف المستكين المتضرع، المعظم لمن كان بين يديه بالسكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك وتقيمها بحدودها وحقوقها )) ([45]) ، كذلك الحج فهو ((وفادة إلى ربك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك)) . وهكذا يستمر الخطاب في تبيان حقوق الافعال العبادية في تربية النفس الانسانية وصولا الى المعرفة الحقة ، فحق الصوم   ((  أن تعلم أن حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك، ليسترك به من النار، فان تركت الصوم خرقت ستر الله عليك )) ([46])  . اما ((حق الصدقة أن تعلم أنها ذخرك عند ربك عز وجل ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد عليها  )) ([47])  

يتضح من ذلك ان الامام السجاد منح قيمة جوهرية للافعال العبادية لتربية المخلوق واستدعائه الى دائرة الجذب الروحي من خلال استعراض الافعال وحقها على القائم بها ، هذا الاستعراض الذي يعد مقدمة تمهيدية لعلاقة الانسان بالانسان ومايترتب على هذه العلاقة من افعال وحقوق اخرى .

المبحث الثالث \  حق الانسان

لقد فصل الامام عليه السلام حقوق الرحم لبناء المجتمع الاسلامي بشكل سليم في المعرفة ومايترتب عليها ، قائلا:

 (( فحق أمك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً ، وأطعمتك من ثمرة قلبها مالا يطعم أحد أحداً ، وأنّها وقَتْكَ بسمعها وبصرها , وبيدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها ، مستبشرةً فرحة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها , حتى دفعتك عنها يد القدرة ، وأخرجتك إلى الاَرض ، فرَضِيَتْ أن تشبع وهي تجوع ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتضمى ، وتُظلك وتضحى..)) ([48]) .

لقد بدأ الامام بتوجيه خطابه الى السامع بفعل المعرفة والدراية (فحق امك  ان تعلم.... )  لافتا الى مسألة الادراك بالمعرفة اولا ، ثم تبيان الحق المترتب على هذه المعرفة لدى السامع او القارئ مؤكدا ان الحقوق المتربة على ذلك هي ذاتها افعال الجوارح السبع من خلال المقارنة مع جوارح الام ومعانتاتها التي اشار اليها النص هذه المقارنة التي اضمرت انساقا معرفية اشارت اليها الرسالة في مواطن سابقة .

إلى أن يقول (عليه السلام) : « وتنعّمك ببؤسها ، وتلذّذك بالنوم بأرقها.. كان بطنها لك وعاء ، وحجرها لك حواء ، وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه.. »([49]) . شكلت هذه الثنائيات المتضادة صورا غاية في الروعة في عرض الافعال وحقوقها وما يترتب عليها في علاقة الابن والام وصولا الى معرفة الحق والرعاية الالهية التي تكمن في خبايا هذه الدلالات المعلنة

ثم يقول ((.. وأما حق أبيك فأن تعلم أنّه أصلك ، وأنت فرعه ، وأنّك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك ، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، ... واحمد الله واشكره على قدر ذلك...))  

... وأما حق ولدك ، فأن تعلم أنّه منك ، ومضافٌ إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه ، وأنك مسؤول عما ولّيته من حسن الاَدب والدلالة على ربّه ، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسك ، فمثابٌ على ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره , عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذّر إلى ربِّه فيما بينك وبينه , بحسن القيام عليه والاَخذ له منه... » . وقد اشار الامام الى حق الزوجة قائلا : ((  وأما حق الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكنا وأنسا فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب فان لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك وتطعمها وتكسوها وإذا جهلت عفوت عنها)) ([50]) . وهذا الحق اشارة الى قوله تعالى ((    وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) ([51])

« ... وأما حق أخيك ، فأن تعلم أنّه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزّك الذي تعتمد عليه ، وقوّتك التي تصول بها ، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ، ولا عدّة للظلم لخلق الله ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحؤول بينه وبين شياطينه , وتأدية النصيحة إليه والاِقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربّه وأحسن الاِجابة ، وإلاّ فليكن الله آثر عندك وأكرم عليك منه... » . بهذه الدقة والايجاز يستمر الاِمام السجاد (عليه السلام) يسجّل حقوق الرحم ، وكأنّه يغوص في أعماق النفس الاِنسانية ، ليستلّ منها أسمى ما فيها من النوازع والعواطف النبيلة ، ويجتثّ منها أخبث ما فيها من أحابيل الشرّ ودوافع الشيطان..  ثم يتدرج الخطاب في عرض الحقوق  ((فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك)) ([52]) .

كذلك (( حقوق رعيتك ثلاثة أوجبها عليك: حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم فان الجاهل رعية العالم، ثم حق رعيتك بالملك، من الأزواج وما ملكت الإيمان)) ([53]).

السلطان

وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعل الله عز وجل له عليك من السلطان، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه، فتلقي بيديك إلى التهلكة، وتكون شريكا له فيما يأتي إليك من سوء. وحق سائسك بالعلم التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، و الإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحدا يسأله عن شئ حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدث في مجلسه أحدا ولا تغتاب عنده أحدا وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا ولا تعادي له وليا فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته، وتعلمت علمه لله جل اسمه لا للناس. فأما حق سائسك بالملك فأن تطيعه ولا تعصيه إلا فيما يسخط الله عز وجل فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

حق الاخر

كما شدد على معرفة حق الاخر  : ((وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم)) 

وأما حق رعيتك بالعلم (( فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم وفتح لك من خزائنه فان أحسنت في تعليم الناس، ولم تخرق بهم، ولم تضجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك)) . وما للجارية والعبد واهل الذمة من حقوق وافعال مترتبة عليها .

إنَّ المتتبع لسيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) يلحظ بجلاء أن مواعظه لم تفارق سيرته فقد وردت كثير من مواعظه على ألسنة العلماء فمن ذلك ما أورده العاملي بقوله عنه (عليه السلام): إنَّ بين الليل والنهار روضة يرتعي في رياضها الأبرار، ويتنعم في حدائقها المتقون  فأدبوا رحمكم الله في سهر هذا الليل بتلاوة القرآن في صدره، وبالتضرع والاستغفار في آخره، وإذا ورد النهار فأحسنوا قراه بترك التعرض لما يرد بكم من محقرات الذنوب فإنها مشرفة بكم على قباح العيوب، وكأن الرحلة قد أظلتكم، وكأن الحادي قد حدا بكم، جعلنا الله وإياكم ممن أغبطه فهمه ونفعه علمه[54].

وفي موعظة أخرى قال: إبن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسنة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل ومسؤول فأعد جوابا[55].

وقال لأبي حمزة الثمالي: أيُّ البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم؟ فقال: إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عَمّر ما عَمّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا[56].

وقال: أربع من كن فيه كمل إيمانه ومُحِّصت ذنوبه ولقي ربه وهو عنه راضٍ: من وفى الله بما جعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيى من كل قبيح عند الله وعند الناس، وحسن خلقه مع أهله[57].

وقال: لا تمتنع من ترك القبيح وإن كنت قد عرفت به، ولا تزهد في مراجعة الجميل وإن كنت قد شهرت بتركه، وإياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه[58].

ومن أقواله المبثوثة في بطون الكتب ما نجمله بالآتي:

ما يسرني أن لي بنفسي من الذل حمر النعم[59].

الصبر من الغنائم، والجزع من الضعف[60].

لا تكذب وإن نفعك، وأصدق ولو أضرك[61].

إن الجسد إذا لم يمرض أشر، ولا خير في جسد يأشر[62].

فقد الأحبة غربة[63].

اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات العيون سريرتي اللهم كما أسأت، وأحسنت إلي، فإذا عدت فعد علي[64].

وقال لإبنه: يا بني إصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب  أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له[65].

 وقال: لا تقومنَّ إلا لأحد أربعة: مأمولٌ خيره، ومرجوٌ عونه، ومقتبسٌ علمه، ومرهوبٌ شره[66].

وقال: ثلاثٌ منجياتٌ للمؤمن: كفَّ لسانه عن الناس وعن إغتيابهم، وشغله بما ينفعه لدنياه وآخرته، وطول بكائه على خطيئته[67].

 وقال: لكل أمر سبب، فأجملوا في الطلب، فكم من حريص خاب ومجمل لم يخب[68].

وقال: مجالس الصالحين داعية إلى الصلاح، وأدبُ العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستتمام المال تمام العقل، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً[69].

 أما زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان.

فقد روي عنه (عليه السلام) أنه إذا توضأ اصفر لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال:"أتدرون بين يدي من أريد أن أقف"[70].

ومن كلماته: "إن قوماً عبدوا الله رياضة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوه رغبة، فتلك عبادة التجار، وإنَّ قوماً عبدوه شكراً، فتلك عبادة الأحرار"[71].

وكان إذا أتاه سائل يقول له:" مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة"[72].

خلاصة القول ان خطاب الامام الوعظي حمل انساقا معرفية وجمالية يمكن دراستها على وفق المنهج الثقافي ومقولاته وتبيان الدلالات النسقية والجمل الثقافية التي مصدرها الوحي والقرآن والسنة النبوية الطاهرة التي مثلها عترة ال الرسول صلى الله عليه واله وسلم

الخاتمة

تناول البحث الانساق المعرفية عند الامام علي بن الحسين عليهالسلام مسلطا الضوء على رسالة الحقوق بوصفها خطابا موجها للانسانية ويمكن اجمال ابرز النتائج كمايأتي

1\  ظهرت الانساق المعرفية في متن رسالة الحقوق انها اعتمدت على مصادر المعرفة الاساسية في عناصرها وادوارها الثلاث في عملية الادراك والتجربة الروحية والموقف المراد منه بالقياس الى القلب والعقل ةالصراع بينهما .

2 اضمرت الانساق المعرفية للحق انساقا مضمرة لتربية الانسان تربية روحية في علاقاته مع الحق والافعال المترتبة على ادائها في المسائل العقدية من جهة والروحية  التي تأثرت بالقرآن الكريم من جهة اخرى

  3 حمل الخطاب الوعظي للامام علي بن الحسين عليه السلام قيم انسانية عالية في اقرار الحق ومايترتب عليه ؛ الامر الذي يعد خطابا عالميا لحقوق الانسان في الاسرة التي تعد النواة الرئيسة لبناء المجتمع في علاقة الابن والاب والام والزوجة والاخ كما سلطت رسالة الحقوق الضوء  على حق السلطان والعالم والرعية  والمملوك والجارية واهل الذمة من جهة والصديق والجار والمشير والمستشار والغريم من جهة اخرى؛  لبناءمجتمع متكامل يتصف بالعدل والانصاف ومرعاة الحقوق .

 

الهوامش والمصادر

 

[1] - العين، الفراهيدي، ج5: 81.

[2] - الصحاح، الجوهري، ج4: 1558.

[3] - معجم مقاييس اللغة، أبن زكريا، ج5: 420.

[4] - أساس البلاغة، الزمخشري:953.

[5] - ينظر، جماليات التحليل الثقافي، يوسف عليمات:40.

[6] - النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إيان كريب:71.

[7] - مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، مجموعة من الكتاب:214.

[8] - ينظر، القراءة النسقية، احمد يوسف:117 ؛ علم اللغة العام، دي سوسر:23-54.

[9] - ينظر، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، عبد الله الغذامي:76.

[10] - ينظر، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، عبد الله الغذامي:63.

[11] - ينظر، النقد الثقافي وآليات إنتاجه، جاسم محمد جاسم:1.

[12] - ينظر، النسق الثقافي لأغراض الشعرية عند العرب، سلوى بو زرورة:15.

[13] - ينظر، النسق الثقافي لأغراض الشعرية عند العرب، سلوى بو زرورة:15.

([14]) ينظر: الروحي ماضيا وحاضرا شرقا وغربا :ج2: 735.

([15]) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها, هنترميد, تر: د.فؤاد زكريا,القاهرة,ط2, 1975:  1984.

([16]) معجم مصطلحات الصوفية, د.عبد المنعم الحنفي, دار المسيرة, بيروت, 1980: 218.

([17]) معجم اصطلاحات الصوفية, د.عبد الرزاق الكاشاني, تح: د.عبد العال شاهين, ط1, 1992, دارالمنار.القاهرة:162.

([18]) سورة ق, اية:37.

([19]) سورة الشعراء,اية:193-194.

([20]) ينظر: معجم مصطلحات الصوفية,الكاشاتي:298.

([21]) ينظر: المصدر نفسه:50.

([22]) معجم مصطلحات الصوفية, د.عبد المنعم الحنفي:218.

([23]) معجم مصطلحات الصوفية, د.عبد المنعم الحنفي:185.

([24]) فلسفة النصوص, عبد القادر ممدوح, دار الشؤون الثقافية: بغداد,2007 :69.

([25]) معجم إصلاحات الصوفي :الكاشاني:174 .

([26]) اللمع, للسراج:26-27.

([27]) تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى القرن الثاني, عبد الرحمن بدوي, وكالة المطبوعات, الكويت, ط2, 1978, 18.

([28]) المصدر نفسه:18.

([29]) المصدر نفسه:18.

([30]) المصدر نفسه:20.

([31]) تاريخ النصوص الإسلامي عبد الرحمن بدوي:21.

([32]) في النصوص الإسلامي وتاريخه, وينولدأ.نيكسون, تر:أبو العلا عفيفي, لجنة التأليف والترجمة والنشر,القاهرة,1969, 21.

([33]) المصدر نفسه:41.

([34]) سورة النور, الاية:61.

([35]) سورة الاعراف,الاية:179

([36]) احياء علوم الدين,الغزالي,ح3: 21.

([37]) الحج : 62

([38]) معجم المصطلحات الصوفية:246.

([39]) رسالة الحقوق :  53    .

([40]) رسالة الحقوق :  43    .

([41]) ينظر  شرح رسالة الحقوق :      .

([42]) رسالة الحقوق : 53     .

([43]) النساء :  116    .

([44]) رسالة الحقوق :  22    .

([45]) رسالة الحقوق : 17     .

([46]) رسالة الحقوق :  32    .

([47]) رسالة الحقوق : 17     .

([48]) رسالة الحقوق :  22    .

([49]) رسالة الحقوق :  40    .

([50]) رسالة الحقوق :34      .

([51]) الروم : 21     .

([52]) رسالة الحقوق : 24     .

([53]) رسالة الحقوق : 20     .

[54] - الدر النظيم، ص585.

[55] - الدر النظيم ، ص586.

[56] - الثمالي، ثابت بن دينار أبي حمزة (ت،148هـ-765م)، تفسير أبي حمزة الثمالي، تحقيق: عبد الرزاق حرز الدين، مطبعة الهدى، ط1، (قم، 1420هـ)، ص137.

[57] - البرقي، احمد بن محمد بن خالد  (ت،274هـ-861م)، المحاسن، تحقيق: جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، (طهران، 1370هـ)، ج1، ص8.

[58] - الديلمي،الحسن بن أبي الحسن (ت، ق8هـ)، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، (قم، د.ت)، ص300.

[59] - العاملي، الدر النظيم، ص587.

[60] - المصدر نفسه، ص588.

[61] - المصدر نفسه، ص587.

[62] - الذهبي، تذكرة الحافظ، ج1، ص75.

[63] - الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص396.

[64] - الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص397.

[65] - ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج41، ص408.

[66] - الكراجكي، محمد بن علي أبو الفتح (ت،449هـ-1057م)، معدن الجواهر، تحقيق: احمد الحسيني، مهر استوار، ط2، (قم، 1394هـ)، ص43.

[67] - الحراني، تحف العقول، ص282.

[68] - العاملي، الدر النظيم، ص588.

[69] - الحراني، المصدر السابق، ص283.

[70] - ابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ج2، ص858.

[71] - ابن كثير، البداية والنهاية، ج9، ص123.

[72] - الشعراني، العهود المحمدية، مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، ط2، (مصر،  1973م)، ص140.

 

المرفقات