لا بُدَّ للحوار من مُناخ يعيش فيه، كي يتحوّل إلى عملية منتجة، بدلاً من أن يكون عملاً ضيقاً عقيماً في الشكل والمضمون. وقد أراد الله للنبي الاكرم "صلى الله عليه واله"، في القرآن الكريـم أن يوجد القاعدة الأساسية لهذا المناخ، بالتخطيط العملي لتوفير الخصائص الضرورية لذلك، وفي مقدمتها، شخصية المحاور الذي يقود عملية الحوار ويتبناها وشخصية الطرف الثاني للحوار، حيث الحالة النفسية التي تعيش مع الحوار في طريق المعرفة والإيمان، لا في الجدل العقيم.
في الوقت نفسه، ان المحاولة الجادة لخلق الأجواء الهادئة للتفكير الذاتي، الذي يبتعد عن التأثيرات الانفعالية، التي تُربك ذهن الإنسان وتفكيره، وتبعده عن الآفاق التي يمثل فيها شخصيته الخاصة، لا شخصية الآخرين؛ لئلاَّ يكون مجرد ظل للآخرين، "لا يملك أن يريد وأن لا يريد، لأنه لا يملك أن يفكر أو أن لا يفكِّر".
وعليه يمكن القول، أنّ العناصر التي يجب توفرها في عملية الحوار منها على سبيل المثال لا الحصر.
اولاً: شخصيّة المحاور الذي يدير عمليّة الحوار.
من الطبيعي لأي حوار يدور بين اثنين، لينتهـي في هدفه ـ إلى النتيجة الحاسمة من الإيمان العميق المنفتح والمتقبل لنتائج الحوار، وحتى يحقق شرطاً أساسياً، الا وهو أن يملك كلٌّ من الطرفين حرية الحركة الفكرية، التي يملك معها الثقة بشخصيته الفكرية المستقلة؛ فلا يكون واقعاً تحت رحمة الإرهاب الفكري والنفسي والاجتماعي، الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الآخر، نتيجة إحساسه في أعماقه بالعظمة الكبيرة والمطلقة التي يملكها الآخر، وبالتالي، ثقته بفكره وبقابليته لأن يكون طرفاً للحوار، فيتجمّد عند ذلك، ويفقد قدرته على الحركة الفكرية، فيتحوّل إلى صدى للأفكار التي يتلقّاها من الآخر.
وقد عمل النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" من خلال تعاليم الله في القرآن الكريم ـ على توفير ذلك الشّرط للآخرين عندما كان يتحدَّث إليهم، انطلاقاً من ذلك، حيث نجد ان القرآن الكريم يؤكد في أكثر من مناسبـة على جانب البشريّة فيه؛ فهو بشر مثلهم، لا يملك أيَّة قوّة غير عادية في تكوينه الذاتيّ، فقال الله تعالى) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[1](، كذلك يؤكد القرآن مرة أخرى في سورة الأعراف بقوله )قُل لا أَملِكُ لِنَفسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَو كُنتُ أَعْلَمُ الغيبَ لاستكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِن أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ ( [2]
ثانيا: شخصيّة الطّرف الآخر للحوار:
لا بُدَّ لمن يدخل في عملية الحوار من إعداد جوّه الداخلي، للاقتناع بالنتائج الحاسمة التي يقوده إليها، وإلا انقلب الموقف إلى جدل عقيم، لا يُراد منه إلا عرض العضلات الكلامية والمزايدات الجدلية، التي لا تقدّم أو تؤخِّر في الموضوع؛ لأنّ الفكرة قد أُعدّت سلفاً بشكل لا مجال للتراجع عنه على قاعدة من الدوافع الذاتية والاجتماعية التي لا ربط لها بالقناعة الذاتية الفكرية، المرتكزة على أساس من الحجّة والبرهان.وقد ركّز القرآن الكريم على هذا الجانب، فتحدَّث عن أولئك الذين لا يريدون أن يؤمنوا أو يقتنعوا، وذلك في قوله تعالى)وَمِنهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِم وَقْراً وإِن يَرَواْ كُلَّ آيةٍ لاَّ يُؤمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِين كَفَرُوا إِن هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الأوَّلِينَ(25) وَهُمْ يَنْهَونَ عَنْهُ وَينأونَ عَنْهُ وإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون[3] ( ،كذلك في قوله تعالى )إِنَّ الَّذينَ كَفَروا سَوَاءُ عَلَيْهِم ءَأَنذَرْتَهُم أَم لم تُنذِرْهُم لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمِعِهم وَعَلَى أَبْصَارِهِم غِشَاوةٌ وَلَهُمْ عَذَابُ عَظِيم [4](
قد اعطى القرآن الكريم لنا الصورة الحية لأولئك الذين يستمعون إلى الدعوة، وقلوبهم مغلقة عن وعي ما يسمعون، وآذانهم مسدودة عن الإصغاء إليه؛ فإذا جاءتهم آيات الله بكل جلاء ووضوح، أعرضوا عن الإيمان بها، لا لأن لديهم ما يواجهون به هذه الآيات، ليبرروا به إنكارهم ورفضهم ـ فهم لا يملكون شيئاً من ذلك ـ بل لأنهم يريدون أن ينكروا عناداً وكفراً.
وربما نجد نماذج حية من هؤلاء في الواقع المعاصر من الكثيرين من أعداء الدين، الذين لا يملكون علماً يواجهون به الفكر الديني، في عقائده ومفاهيمه العامة في شؤون الحياة، إلا كلمة الأسطورة و"الخرافة"يدمغونه بها، أما لماذا؟ وكيف؟ فهذا ما لا يحاولون الإفاضة فيه؛ وربما يلجؤون إلى طريقة يغلقون بها باب الجدل في الموضوع، بالإيحاء بأنّ الدين قد انتهى دوره وتجاوزه العصر، ليحلّ محلّه العلم، ولكنهم لا يدعمون ذلك بالحجة الواضحة والبرهان القاطع، لأنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.
وقد نجد هناك بعض الآيات التي تجسّد هذا الموقف تجسيداً حيّاً، يظهر بوضوح فظاعة المكابرة التي يلجأ إليها هؤلاء في موقف الإنكار والجحود الأعمى، وذلك في قوله تعالى )وَأَقسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِم لَئِن جَاءَتهُمْ آيَةٌ ليُؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشعِركُمْ أَنَّها إِذا جاءَت لا يُؤمِنُونَ(109) وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة وَنَذَرُهُم في طُغْيانِهِم يَعْمَهُونَ(110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمَ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيءٍ قُبُلا ما كَانُوا لِيؤمِنَوا إِلاَّ أن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلون( [5] ، يبدو ذلك من خلال الآيات المباركة إنَّ هؤلاء لا يريدون الإيمان بالله، ويطالبون بآيات خارقة للعادة، يقترحونها على النبي الاكرم محمَّد "صلى الله عليه وله"، كشرط من شروط الإيمان. وذلك ان القضية آيات تقترح ليستجاب لها أو لا يستجاب؛ بل القضية قضية فقدان الاستعداد للإيمان، مهما كانت الآيات والبراهين. ونلتقي في هذا النموذج مع الناس الذين يكابرون ولا يريدون أن يقتنعوا أو يؤمنوا، ببعض الأشخاص الذين يصورهم لنا القرآن الكريم بصورة رائعة، في قوله تعالى: )وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَو تَأْتِينَا ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثلَ قَولِهِم تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَومٍ يُوقِنُونْ( [6] كذلك في قوله تعالى ) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمِطرْ عَلَيْنَا حَجارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَو ائِتَنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( [7] .
وفي مقابل تلك الصورة القاتمة التي يعطيها القرآن الكريم للمعاندين والمكابرين الذين لا يريدون أن يؤمنوا، مهما كانت وسائل الإيمان موفورة لديهم، تواجهنا الصورة المشرقة للنموذج الحيّ الرّائع الذي يبحث فيه الإنسان عن الحقّ ويسعى إليه، وهي صورة النبي إبراهيم "عليه السلام" ، في مواقفه التي كان فيها هو نفسه طرفاً للحوار الذاتي أمام دعوة الحقّ والباطل فقال تعالى)وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهيم مَلَكُوتَ السَّمَواتِ والأرِض وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْه الَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبرُ فَلَمَّا أَفَلتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ حَنيفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشْرِكِينَ([8]، يبدو ان القضيّة بدأت عند النبي إبراهيم "عليه السلام" ، كما بدأت عند البسطاء والساذجين من قومه، من الخضوع للظواهر الكونية، بما تمثله من عظمة، وبما يكتنفها من أسرار، فكانت عبادة الكواكب، وعبادة القمر، وعبادة الشّمس، وكانت الأوضاع المختلفة لها، هي التي تقرّر طبيعة العبادة لهذه أو تلك، في وعي أولئك الناس، على ضوء ما نفهمه من التدرّج في قضية الألوهيّة المدّعاة من الصغير، إلى الكبير، إلى الأكبر، ما جعل النبي إبراهيم" عليه السلام" وهو يصوّر تفكير قومه يشعر بالخضوع للشمس في النهاية فيعتبرها ربّاً يستحقّ العبادة، لأنها أكبر من الكوكب ومن القمر، فهي أحقّ بالعبادة، لأنها تحمل من مظاهر العبادة ما لا يحملانه[9].
كذلك ان القرآن الكريم ينقل لنا صورة أخرى عن إبراهيم النبيّ" عليه السلام" في موقف آخر، يجسّد لنا فيه طبيعة الإنسان الذي يريد أن يؤمن، ويعمل علـى أن يتجـاوز الإيمـان إلى مستـوى الاطمئنان الروحي، ولذا فهو يبحث عمَّا يركِّز هذه الطمأنينة في القلب، وذلك قوله تعالى )وَإِذْ قَالَ إِبراهِيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي المَوتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيز حَكِيمٌ [10] (
هكذا نستطيع أن نجد في شخصية النبي إبراهيم، من خلال هاتين الصورتين اللتين يعرضهما القرآن الكريم له في حواره المتحرك في طريق الإيمان الشخصية الدينية للطرف الثاني للحوار، الذي يريد أن يصل إلى الحقّ، فيعمل كل ما في طاقته لتحقيق هذا الهدف الكبير، دون أن يمنعه من ذلك مانع قريب أو بعيد.
ثالثا: خلق الأجواء الهادئة للتفكير المستقلّ.
لعلّ من أشدّ الأمور ضرورةً لوصول الحوار إلى هدفه، وجود الأجواء الهادئة للتّفكير الذاتي الذي يمثّل فيه الإنسان نفسه وفكره، والابتعاد عن الأجواء الانفعاليّة التي تعيق الإنسان عن الوقوف مع نفسه، وذلك نجد ان القرآن الكريم صوَّر لنا ذلك، فيما نقله لنا من أسلوب النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله " في الحوار مع خصوم العقيدة، عندما واجهوه بتهمة الجنون، فقد دعانا إلى أن نتجرَّد عن هذا الجوّ الانفعالي، إذا ما أردنا أن نتبنّى فكرة أو نرفضها، أو ننسجم مع موقف، أو نبتعد عنه. فقد اكد الله تعالى في قوله )قُلْ إِنَما أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [11]( .
فقد اعتبر القرآن الكريم اتهام النبيّ الاكرم بالجنون، خاضعاً للجوّ الانفعالي الذي كان يسيطر على التجمّع العدائي لخصومه آنذاك، ما جعلهم لا يملكون ما يستطيعون أن يَزِنوا به صحة القضايا وفسادها، بل ظلّت أفكارهم صدى لأفكار الآخرين، ولذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجوّ المحموم بأن يتفرقوا مثنى وفرادى، في موقف فكر وتأمّل، يُرجع إليهم أفكارهم وشخصياتهم، ليصلوا إلى النتيجة الحاسمة بأسرع وقت، لأنّ طبيعة الفكر الهادئ الواعي الذي يواجه شخصيّة النبيّ الاكرم محمَّد" صلى الله عليه واله" وأفكاره وتعاليم رسالته، سوف يضع القضية في موقعها الطبيعي الذي يرفض هذه التهمة جملة وتفصيلاً، لينتهي ـ بعد ذلك ـ إلى الإقرار بأنه رسول الله إلى الناس لينذرهم بالعذاب الأليم[12].
وعليه يمكن القول إن الأسلوب العملي هو مناقشة أطراف الحوار، في المنهج الّذي يجعلهم يتحررون من الخضوع للشعور بالقداسة التقليدية، لينطلقوا بحرّية وقوّة مع أفكارهم، كشرط أساس لوصول الحوار إلى هدفه.. وهكذا، حاول القرآن أن يوحي إلى النبي الاكرم "صلى الله عليه واله" بضرورة التوفر على إيجاد هذا المناخ الطبيعي الذي يستطيع أن يصل بالحوار إلى غايته الطبيعيّة دون سلبيات أو انفعالات؛ ليكون الحوار رحلة طيّبة في طريق الوصول إلى الإيمان، لا حركةً تشنجيّةً تؤدي إلى الحقد والعدواة والبغضاء.
اعداد : جعفر رمضان
[1] سورة الكهف ، الآية 110
[2] ورة الأعراف ، الآية 188
[3] سورة الانعام ، الآية 25-26.
[4] سورة البقرة ، الآية 6-7.
[5] سورة الانعام ، الآية 109-111
[6] سورة البقرة، الآية 118.
[7] سورة الانفال ، الآية 32.
[8] سورة الانعام ، الآية 75-79.
[9] محمد حسين فضل الله ، الحوار في القرآن الكريم ، (بيروت : 2002)، ص45.
[10] سورة البقرة ، الآية 260
[11] سورة سبأ، الآية 46
[12] محمد حسين فضل الله ، المصدر السابق، ص50.
اترك تعليق