تميّزت كربلاء بطابعها العلمي على مدى تاريخها الطويل الذي انبثق عن كثير من المدارس العلمية التي أثرت الحركات العلمية في المدن الأخرى مما جعلها تحتل مركز الصدارة بينها إبداعاً وانتشاراً وتجديداً, وكان لهذا الرصيد الضخم من العطاء على مدى قرون أثره الكبير على أرض الواقع من خلال مصداقيته وقدرته على التأثير في الواقع السياسي والإجتماعي, فكان لابد لهذا التاريخ أن يؤخذ بنظر الإعتبار ويُعطى حقه من البحث والتحقيق والدراسة الوافية.
فالعديد من العلماء الأعلام الذين تصدروا الحوزات العلمية استمدوا نبوغهم من هذه المدارس التي أكسبتهم علمية ومركزية في الأوساط العلمية, ومنهم: الشيخ الأعظم الأنصاري الذي تتلمذ على يد السيد محمد المجاهد في كربلاء, والشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين وغيرهما, وبقيت مدارس كربلاء ترفد العالم الإسلامي بأفذاذ العلماء الأعلام.
من هؤلاء العلماء الأعلام المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد طاهر البحراني الحائري صاحب كتاب (أبواب الجنان). والذي قضى عمره في خدمة الدين والمذهب وعُرف بين الناس مرجعاً, وعالماً جليلاً, له مكانته الكبيرة في الأوساط العلمية والاجتماعية.
النسب الشريف
كانت ولادته في كربلاء المقدسة عام (1302هـ/1884م) في أسرة شريفة لها تاريخها العريق في ميدان العلم والتقوى, فهو ينحدر من أقدس نسب ويتفرع من أشرف سلالة فأسرته (آل البحراني) تنتسب إلى السيد إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، وقد سكنت كربلاء في القرن الثاني عشر الهجري، أمّا نسبه الشريف فهو:
السيد محمد طاهر بن السيد محمد بن محسن بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن هاشم بن ناصر بن هاشم بن عبدالله المعروف بالبلادي بن عتيق الحسين بن الحسن العريضي بن حسن بن أحمد بن عبدالله بن عيسى بن حسن بن أحمد بن ناصر بن علي كمال الدين بن سليمان بن أبي موسى جعفر بن أبي الحمراء محمد بن علي الظاهر بن علي الفخم بن أبي الحسن بن محمد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام.
وقد أفرزت هذه الأسرة العديد من الأعلام الأفذاذ وعلى رأسهم عميد هذه الأسرة العالم الكبير والفقيه الجليل والشاعر السيد عبد الله البلادي البحراني, والسيد عبد الله بن السيد محمد البحراني, والسيد محسن بن السيد عبد الله بن السيد محمد البحراني, والسيد محمد بن السيد محسن بن السيد عبد الله بن السيد محمد البحراني, والد السيد محمد طاهر البحراني الذي أنجب خمسة أولاد برز منهما اثنان من الأعلام سارا على منهج هذه الأسرة في خطى العلم هما السيد محمد علي والسيد عماد الدين.
النشأة العلمية
نشأ السيد محمد طاهر نشأة علمية, في أسرة علمية, وسط بيئة علمية, فتتلمذ على يد أساطين العلماء منهم والده السيد محمد الذي كان من أبرز العلماء المجتهدين فدرس على يديه الفقه والأصول, كما تتلمذ على يد خاله السيد علي المرعشي الشهرستاني, والسيد محمد باقر الطباطبائي, والشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري, والسيد اسماعيل الصدر, والسيد أبو القاسم التبريزي, والسيد هبة الدين الشهرستاني, والسيد محمد الفيروزآبادي وغيرهم من العلماء الأعلام والمجتهدين الكبار.
كما حضر أبحاث المراجع الكبار والشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي العالم والمجاهد قائد ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني, والشيخ فتح الله الأصفهاني الملقب بشيخ الشريعة, والشيخ عبد الله المامقاني, ودرس علم الكلام على يد السيد أبي القاسم التبريزي.
وأجيز بالاجتهاد والفتيا من قبل كبار العلماء الذين ذكرناهم وغيرهم وكان أبوه السيد محمد يقيم الجماعة في صحن الإمام الحسين (ع) فلما ذهب إلى الحج أوعز إليه المرجع الكبير السيد إسماعيل الصدر بالنيابة عن والده في إمامة الجماعة وكان عمره آنذاك دون العقد الثالث فأتم به جماعة كبيرة من العلماء وطلبة العلم وبعد وفاة والده بقي يقيم الجماعة وكانت وله مكانة في نفوس أهالي كربلاء لتقواه وزهده وورعه وعلمه.
تلامذته
كان يأتم به كثير من العلماء الذين تتلمذوا على يديه, ممن كانوا يحضرون دروسه من مدينة كربلاء والنجف وإيران وغيرها, ومن أبرز من تتلمذ على يديه من العلماء الكبار الذين يشار إليهم بالبنان: السيد محمد كاظم القزويني الخطيب الحسيني والمؤلف الكبير صاحب كتاب (شرح نهج البلاغة) والكتب الكثيرة في حياة الائمة (ع) وموسوعة الإمام الصادق (ع) والموضوعات الإسلامية الأخرى.
ومن تلامذته أيضاً السيد محمد علي الطباطبائي, والشيخ عبد الزهرة الكعبي الخطيب الشهير وقارئ المقتل, والشيخ محمد الطرفي, والشيخ عبد المنعم الكاظمي, والسيد محمد الشيرازي (سلطان المؤلفين), والشيخ محمد آل صالح, والسيد محمد صادق البحراني, والسيد عباس الكاشاني وغيرهم.
مؤلفاته
ألف السيد محمد طاهر كثيراً من الكتب والآثار والتصانيف منها: الأربعون حديثاً, وتفسير القرآن, وكتاب في الدعاء, وكتاب في الهيئة, ودورة في الفقه, وشرح على الرسالة, وشرح تشريع الأفلاك, إضافة إلى كتاب أبواب الجنان الذي أشرنا إليه, والذي اشتهر به والذي هو من أفضل مؤلفاته. كما وضع حاشية على العروة الوثقى, وتقريرات أساتذته وغيرها.
أخلاقه وتواضعه
مثلما عرفته كربلاء عالماً وفقيهاً ومرجعاً كبيراً فقد عرفه أهلها بالأخلاق الفاضلة والصفات المثلى فكان غاية في التواضع والأدب وسعة الصدر والزهد, فكان يتجنب الزعامة الدينية رغم مؤهلاته العلمية لكي يتفرغ للعبادة والتوجه إلى الله تعالى فبقي يؤم الناس بالصلاة والهداية والارشاد والعلم حتى توفي في السادس من صفر عام (1384هـ/1964م) عن ثمانين عاماً قضاها في خدمة الدين والمذهب وقد شيّع تشييعاً مهيباً ودفن في مقبرته الخاصة به في محلة باب الخان في كربلاء المقدسة.
أولاده
أعقب السيد محمد طاهر ثمانية أبناء منهم خمسة ذكور وهم: السيد محمد علي, والسيد (محمد حسن) عماد الدين, والسيد علاء الدين, والسيد جمال الدين, والسيد مهدي جلال الدين, وقد سار ولداه السيدان محمد علي, والسيد عماد الدين على خطى أبيهما في مسيرته العلمية, فقد تولى السيد عماد الدين المولود عام (1938) مهام أبيه من بعده, فكان عالماً فقيهاً حريصاً على بث روح الإيمان ومبادئ الإسلام في المجتمع من خلال دروسه وتوجيهاته, وقد ألف عدداً من الكتب والآثار منها: تقليد المجتهد الميت، التقويم الإسلامي، علماء الإمامية وحكم صلاة الجمعة، الموسوعة الفقهية في عدة مجلدات.
كما أسس مدرسة الإمام الباقر (ع) عام (1381هـ ــ 1961م), والتي تقع في محلة باب الخان, (الفسحة) وقد جعل فيها مكتبة عامة, إضافة إلى عدد من غرف التدريس وغرف السكن لطلبة العلوم الدينية, وكانت تصدر عنها الكتب والكراسات ذات الطابع الديني التثقيفي, وكانت تشرف على هذه المدرسة لجنة خاصة تُعنى بشؤون الزائرين من مدينة الكاظمية المقدسة, وذلك في مواسم زيارات الإمام الحسين (ع), ونظراً لنشاطه العلمي والتوجيهي الواسع فقد أراد النظام البائد منه الرضوخ لمطالبه وتأييده في أعماله الإجرامية فرفض السيد عماد الدين الرضوخ للظالم المستبد فاعتقل وأعدم عام (1981).
أما السيد محمد علي الذي تولى مقام أبيه في صلاة الجماعة في الصحن الحسيني الشريف فقد كان فقيهاً أيضاً وله نشاط في توجيه الشباب توجيهاً دينياً وله مؤلفات في الفقه وغيرها وعُرف في الأوساط الكربلائية اهتمامه بالنخب ورعايتهم وبسبب نشاطه هذا اعتقله النظام الصدامي المقبور وأعدم عام (1982).
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق