أَثر الإمام علي بن الحسين (ع) في قراءة زيد بن علي بن الحسين (رض)

أ.م.د. شكران حمد شلاكة / م.د.غفران حمد شلاكة

عُرف الإمام علي بن الحسين (ع) بالحلم ، والورع ، والعلم ، والعبادة ، وحاولنا أن نكشف عن وجه آخر لهذا العلم ألا وهو : أثره في قراءة زيد بن علي (رض) ، إذ إن أكثر ما سُلط الضوء على قراءة الأخير ، وتركت الإشارة إلى أن قسماً منها مرجعيتها إلى الإمام علي ابن الحسين (ع) .

واقتضت طبيعة البحث أنْ يكون على فقرتين هما :

الأولى : الأثر اللغوي ، وقد قسمناه على اضرب لا تخرج عن مستويات اللغة بشكلها العام ، هي : الأثر الصرفي ، والاثر النحوي ، والأثر الدلالي .

الثانية : الأثر في القراءة التفسيرية ، ونقصد به القراءات التفسيرية واثرها في توجيه المعنى.

ثم جاءت الخاتمة وفيها أهم النتائج التي خلص إليها البحث .

ونرجو الله عز وجل أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، فأن كنا أوفينا على الغاية وحققنا المراد فلله الحمد والمنة ، وان تعثرنا في عارض فهذا من طبيعة البشر تقومه الملاحظات العلمية الرصينة .

الفقرة الأولى : الأثر اللغويّ

الأثر في المستوى الصرفي اسم الفاعل : قرئ (خَالفوا) في قوله تعالى : (( وَعَلَى الثَّلَاثةِ الَّذِينَ خُلّفُوا)) [1] . قال ابن جني : (( ... وقرأَ : ( خَالَفُوا) أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن السلمي . قال أبو الفتح : من قرأ (خَلَفُوا) فتأويله : أقاموا ولم يبرحوا ، ومن قرأ (خالَفُوا) فمعناه عائد إلى ذلك ؛ وذلك أنَّهم إذا خالفوهم فأقاموا فقد خلفوا هناك .))[2] . ونقف على هذا النصّ بملاحظات هي :-

الأولى : لم ينص ابن جني على أنَّ زيداً قد قرأ بهذه القراءة .

الثانية : لا نركن إلى قوله : (( ... ومن قرأ (خالفوا) فمعناه عائد إلى ذلك – أي خُلِّفُوا - .)) ؛ لأنَّه لو كانت القراءتان بمعنى واحد فلماذا قرأ أئمة أهل بيت النبوة بها ؟

الثالثة : إنَّ هذه القراءة خاصة بأهل بيت النبوة ولم يشاركهم فيها غير عبد الله بن حبيب السلمي (ت73ه أو 74ه) الذي أخذ القراءة عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) وغيره ، وأخذ عنه الإمام الحسن بن علي (ع) ، والحسين بن علي (ع) [3] ، فهو يمتحُ من بئرهم ، قال الطبرسي عن هذه القراءة : (( ... وأما قراءة أهل البيت عليهم السلام : (خالفوا) ...))[4] .

        وقال الزمخشري : (( ... وقرئ (خُلِّفُوا) أي خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم . وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه : خَالفوا ...))[5]

        وذكر الطبرسيّ وجهين في دلالة (خلفوا) هما : خلفوا عن قبول توبتهم بعد قبول توبة من تاب من المنافقين – أي أرجأ الرسول (ص) القبول- لقوله عزّ وجلّ قبل هذه الاية ((وآخرونَ مَرْجُوْنَ لأَمرِ اللهِ إِمَّا يُعَذّبهُمُ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِم))[6] .

        وهذا رأي مجاهد ، أو أنَّ المعنى خلفوا عن غزوة تبوك لما تخلفو هم ، وهذا رأي الحسن البصري ، وقتادة [7] .

        ويبدو أنَّ المعنيين لا ينهضان ولاسيما الثاني ؛ لأنَّه لما تخلفوا بإرادتهِم ، فلماذا بُني الفعل للمجهول (خُلِّفُوا) ولم يبنَ للمعلوم فيكون ( خَلَفُوْا ) ؟ وما يعضد هذا قول الطبرسي عن لسان ائمة أهل البيت (ع) : (( ... وأما قراءة أهل البيت عليهم السلام : (خَالَفُوا) فإنهم قالوا : لو كانوا خُلِّفُوا لما توجه عليهم العتب ، ولكنهم خالفوا ...))[8] .

        وصرّح أبو حيان الاندلسي أنَّ قراءة (خالفوا) بمعنى لم يوافقوا على الغزو أصلاً ، قال : (( ... وقرأ أبو زيد ... وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : خالفوا بألف أي : لم يوافقوا على الغزو ، وقال الباقر : ولو خُلِّفوا لم يكن لهم ...))[9] .

        وبمثل هذا قال السمين الحلبي : (( ... وقرأ أبو رزين ، وعلي بن الحسين ، وابناه : زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : (خالفوا) بألف ، اي : لم يوافقوا الغازين في الخروج ، قال الباقر : ولو خَلَفُوا لم يكن لهم ...))[10] والنصان يكشفان عن أمرين هما : إنَّ النصَّ على زيد بن علي (رض) ضمن القرّاء في هذه القراءة كان متأخراً ولم ترد عند المتقدمين – ابن جني - ، وأنّ الثلاثة خالفوا في رأيهم في عدم الخروج ، فهم (خالفوا) وليس (خُلِّفوا) ؛ لأنهم لو (خُلِّفُوْا) لكان الفعل ليس منهم فلم يعاتبوا على فعلٍ ليس بإرادتِهم ، وإنما يعاتبون على فعل كان بإرادتهم ، وقائمٍ منهم .

        ويبدو أنَّ قراءة (خالفوا) تتساوق تماماً مع توجيهها ، فلا نجد انفصالاً بين القراءة والتوجيه .

المضارع من المزيد بثلاثة أحرف : قُرِئ (تَثْنَوْني صُدُورُهم) في قوله تعالى : (( أَلَا إِنَّهُم يَثْنُونَ صُدُورَهم لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ))[11]

ذكرَ الفراء أنَّ قراءة (تَثْنَوْني) على وزن : افْعَوْعَل [12].

        وصرح ابن جني بأنهَّا على ( تَفْعَوْعِل ) للمبالغة في الثني ، قال : (( ومن ذلك قراءة ابن عباس ... وأبي جعفر محمد بن علي وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد ...(تَثْنَوْنِي صُدُورُهم) على تفعوعل ... قال أبو الفتح : أما (تَثْنَوْنِي) فتَفْعوعِل ، كما قال : وهذا من أبنية المبالغة لتكرير العين ، كقولك : أعشب البلد ، فاذا كثر فيه ذلك قيل : اعْشَوْشب ، واخلو لقت السماءُ للمطر إذا قويت أمارةُ ذلك ...))[13] .

        ولاشك في أنَّ صيغة ( تَفْعَوْعِل ) مضارع من الفعل المزيد بثلاثة أحرف (افْعَوْعل) ، وهذه الصيغة تفيد الكثرة والمبالغة ، قال سيبيويه في ( هذا باب فعوعلتُ وما هو على مثاله مما لم نذكره ) : (( ... وسألتُ الخليل فقال : كأنَّهم أرادوا المبالغة والتوكيد ، كما أنَّه إذا قال : اعشْوشبت الأرضُ فإنَّما يريد أن يجعل ذلك كثيراً عاماً ، قد بالغ . وكذلك احْلَوْلى.))[14]

        ولا غرابة في قراءة ( تثنوني) على المبالغة ؛ لأنّ سياق الاية الكريمة تتحدث عن المنافقين – الاخنس بن شريق – فكما يبالغ المنافق في اظهار خلاف ما يضمر فكذلك يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه [15].

        وصرّح ابو حيان بان ( تثنوني) مضارع  (اثْنَوْنِي) على زنة (افْعَوْعِل) ، وأن معناها : ما تنطوي صدروهم عليه ، قال : (( ... وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ... تثنوني بالتاء مضارع اثْنَوْنِي على وزن افْعَوْعل نحو : اعْشوشِب المكان وصدورهم بالرفع ، بمعنى : تنطوي صدورهم ...))[16].

        وأوجه التشابه بين قراءة الجمهور وقراءة الإمام علي بن الحسين (ع) وزيد بن علي (رض) ، أنّ قراءة الجمهور على المضارع ايضاً من الفعل : ثَنَى – يَثْنِي – ثَنْيَاً ، بمعنى : طوى ، وقراءة الإمام (ع) على المضارع من (اثْنَوْنِي) على وزن (افْعَوْعِل) المزيد بثلاثة أحرف ، ويتمثل الاختلاف في أنَّ (صُدُورَهم) في قراءة الجمهور نصبت على المفعول به ، وفي قراءة الإمام علي بن الحسين (ع) وغيره رفعت على الفاعلية [17].

 

الأثر في المستوى النحوي قرئ (الأنفالَ) في قوله تعالى : (( يَسْئَلُونَكَ عَن الأَنَفَالِ))[18].

قال النحاس : (( ... وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( يسأَلُونَك الأنفالَ ) يكون على التفسير ، وتعدّت يسألونك إلى مفعولين ...))[19].

        وصرّح ابن جني بأنًّ نصب (الأنفالَ) لا يخرج عن أنَّه مفعول به ، على الاستعلام من شأنها ، قال : (( من ذلك قرأ ابنُ مسعود وسعد بن أبي وقاص وعليَّ بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرّف : ( يَسأَلونك الأنفال ) . قال أبو الفتح : هذه القراءة بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الاخرى التي هي : ( عن الأنفال ) ، وذلك أنهم إِنما سألوه عنها تعرضاً لطلبها ، واستعلاماً لحالها : هل يَسُوغ طلبها ؟ وهذه القراءة بالنصب إصراح بالتماس الأنفال وبيان عن الغرض في السؤال عنها ، فان قلت : فهل : يحسن أن تحملها على حذف حرف الجر كأنَّه قال : يسألونك عن الأنفال ، فلما حذف (عن) نصب المفعول ...))[20] .

        وهذا النصّ يكشف عن أمور أهمها :

إن عدد القرّاء الذي قرأوا بهذه القراءة سبعة ، أربعة منهم من آل بيت النبوة ، وثلاثة منهم هم أئمة أهل البيت ، وهذا يعني أنَّ هذه القراءة هي قراءة لأئمة أهل البيت (ع). المتأمل في قراءة من قرأَ بهذه القراءة من أهل البيت (ع) ، يلحظ أن أسبقهم زمناً هو الإمام علي بن الحسين (ع) ، وهذا يعني أنَّ ما قرأ به زيد بن علي (رض) في هذا الموضع هو امتداد لقراءة أبيه (ع) . إنَّ قراءة النصب (الانفالَ) قوامها : حذف حرف الجر ، وتسلط عمل الفعل عليها ، فـ(الأنفال) هنا مفعول به ثانٍ للفعل (يَسْأَلونك) ، والمفعول به الأول الضمير المتصل المبني (الكاف) . توجيه قراءة النصب دلالياً لا يخرج عن السؤال عن الغنيمة ، وبيان الغرض منه وهو : التماس الأنفال ، ( ... أي يسألكِ الشبان ما شرطت لهم من الأنفال ...))[21] .

ونصَّ الطَبَرسي على أنَّ هذه القراءة هي قراءة أهل البيت (ع) بعد أن ذكر في قُرّائِها : علي بن الحسين (ع) ، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر (ع) ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد الصادق (ع) ، إذ قال : (( وقد صحّ أن قراءة أهل البيت عليهم السلام : يسألونك الأنفال ، فقال الله تعالى : قل يا محمد ( الأنفال لله والرسول ) ، وكذلك ابن مسعود وغيره ، إِنمَّا قَرَأوا كذلك على هذا التأويل ...))[22] .

    والمهم في هذا النصّ أنَّ قراءة النصب (الأنفال) هي قراءة صحيحة عن أهل بيت النبوة (ع) ، زيادة على أنَّ مرجعها إلى الإمام علي بن الحسين (ع) ، وانْ قرأ بها زيد بن علي (رض) وغيره .

    وفرّق أبو حيان الاندلسي بين معنيين للفعل (سَأَل) هما : الأول : تَفيد (سأل) اقتضاء معنى عند المسؤول نفسه – أي ما حكم الانفال – فيتعدى بـ(عن) ، والآخر : الاقتضاء المادي : (( وقد يكون السؤال لاقتضاء مالٍ ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين ، تقول : سألتُ زيداً مالاً...))[23] .

    والسؤال هنا : أيَّ الدلالتين ألصق بالسياق ؟ لا مَرْية أنَّ السياق المادي المحضّ هو المهمين على الاية الكريمة ؛ لأنَّه لا خلاف أنها نزلت في معركة بدر ، وتنافر النفوس من إرادة الأَثرة والاختصاص في الغنائم بشكلها العام [24] ، فيكون الأقرب إلى السياق أن يكون الفعل (سَأَل) يقتضي المعنى المادي فيتعدى إلى مفعولين ، وما قيل إن : (( ... الأكثر في هذه الاية أنَّ السؤال إنما هو عن حكم (الأنفال) فهو من الضرب الأول – في نفس المسؤول - .))[25] ، لا يخرج من أنَّ المسؤول – وهو الرسول الأكرم (ص) – قد ادرك ما للأثر المادي للغنام من وقعٍ في نفوسِ المقاتلين ، حتى إنهم سألوا الرسول (ص) كيف تقسّم ؟ ولمن الحكم في قسمتها ؟ ولعلَّ أول بادرة لهذا المعنى هو سؤال سعد بن أبي وقاص (رض) بعد مقتل أخيه للرسول الكريم (ص) : ((... فهب لي هذا السيف ...))[26].

الأثر في المستوى الدلالي .

الفعل (خَفَّ) بمعنى قَلَّ :

قُرِئ : (خَفَّتْ) في قوله تعالى : (( وَإِنّي خِفْتُ المَوَاليَ من وَرائِي))[27].

وصفَ النحاس هذه القراءة بالشاذة ، وأجاب عن سؤال مفاده : كيف يقول : خَفَّت الموالي من بعد موتي وهو حيّ ؟ أنه لا يعني بـ(ورائي) من بعد موتي ، ولكن ورائي في ذلك الوقت [28].

        ونسب ابن جني هذه القراءة إلى الإمام علي بن الحسين (ع) ، والإمام محمد بن علي (ع) ، قال : (( ومن ذلك قراءة عثمان وزيد بن ثابت ... وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وشُبَيْل بن عَزْرَة (خَفَّتِ الموالي) ... قال أبو الفتح : أي قلّ بنو عمي وأهلي ، ومعنى قوله – والله أعلم :- (من ورائي) أي من أخلِّفه بعدي . قوله : ( من ورائي) حال متوقعة محكية . أي : خَفُّوا متوقعاً متصوراً ...))[29] .

        ونسبها الزمخشري إلى عثمان (رض) ، والإمام علي بن الحسين (ع) ، واهتمَّ بتوجيه ورائي أكثر من القراءة نفسها [30].

        ولعلَّ أوّل نسبة صريحة إلى زيد بن علي (رض) نظفر بها عند أبي حيان الاندلسي ، قال: (( وقرأ عثمان بن عفان ... وعليّ بن الحسين وولده محمد وزيد وشُبَيْل بن عزرة ...(خَفَّت) بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث ... والمعنى انقطع مواليّ وماتوا فإنَّما أطلب ولياً يقوم بالدين ...))[31].

        ويتضح من هذا النصّ أنَّ قراءة (خَفَّت) امتدت من الإمام علي بن الحسين (ع) إلى ولديه : محمد (ع) وزيد (رض).

        والفارق بين قراءة الجمهور ، وقراءة الإمام علي بن الحسين(ع) يظهر في دلالة الفعل ، وأصله ، إذ إنَّه على قراءة الجمهور تنحصر دلالته في الخوف من أنَّ مواليه كانوا من شِرار بني إسرائيل فخافهم البني (ع) على الدين ، أما قراءة (خَفَّت) : بمعنى قَلَّ الموالي [32] ، قال الالوسي : (( ... وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد وزيد ... (خَفَّت) ... والمراد : وأني قلَّ الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ...))[33].

        والمتأمل في معنى القراءة يجد أن هناك تساوقاً بين القراءة ومعناها ، إذ لا مشاحة من أنَّ أمور الدين والعقيدة من أهمِّ الأمور التي تهم الانبياء ، وهي أكثرُ نظراً عندهم من الوراثة المادية ، قال القرطبي : (( ... وقالت طائفة : إنمَّا كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب ولياً يقوم بالدين بعده ، حكى هذا القول الزجاج ، وعليه فلم يسل من يرث ماله ...))[34] ، وفي ضوء هذا يكون (الموالي) فاعلاً ، لا مفعولاً به .

الفقرة الثانية : الأثر في القراءة التفسيرية .

قرئ (يَتَبَيَّن) في قوله تعالى : (( أَفَلَمْ يَاْيئَس الذِينَ آمَنُوَا ))[35]

قال ابن جني : (( ومن ذلك قراءة علي (عليه السلام) وابن عباس ... وعلي بن حسين وزيد ابن علي وجعفر بن محمد ...(أَفَلَمْ يَتَبَيَّن الذين)) . قال أبو الفتح : هذه القراءة فيها تفسير معنى قول الله تعالى : (( أَفَلَمْ يَيْئَس الذين آمنوا ) . وروينا عن ابن عباس أنها لغة وَهْبِيل : فخذ من النخع ... وروينا لسُحيم بن وَثيل :

أَقول لأَهْل الشِّعْبِ إذْ يأسِرُونني       أَلم تيئِسوا أني ابن فارس زَهَدْم .

أي لم تعلموا . ويشبه عندي أن يكون هذا راجعاً أيضاً إلى معنى اليأس ؛ وذلك أنَّ المتأمل للشيء المتطلب لعلمه ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه ، فاذا ثبت يقينه على شيء من أَمره اعتقده واضرب عما سواه ، فلم ينصرف إليه كما ينصرف اليائس من الشيء عنه ، ولا يلتفت إليه ...))[36] .

        يفهم من هذا النصّ أنَّ قراءة (يَتَيَيّن) وجّهت على توجهين هما : إنَّها لغة لبطن من النخع (وَهْبِيل) دلالة (يتبيّن) متساوية لدلالة (يَيْأَس) التي بمعنى (العلم) : (( وقال بعضهم : اليأس بمعنى العلم لغة للنخع ...))[37] ، أو أنها راجعة إلى معنى (اليأس) نفسه ولكن قول ابن جني : (( ... فلم ينصرف إليه كما ينصرف اليائس من الشيء عنه ، ولا يلتفت إليه ...)) تثير فينا الحيرة إذْ إنَّ هذه المقولة تمثل فارقاً بين دلالة (تبين) و (يَيْأَس) في الانصراف ، اذ دلالة الاولى في الانصراف عن الأمر فيه إمكانية العدول عن الرأي ، أو تصحيح المسار ، أما دلالة الاخرى فهي قطعية لا يلتفت إليه لليَأس منه .

        ويرى الزمخشري أنَّ معنى (يَيأَس) تفيد (علم) لتضمنه معناه ، وهي لغة لقومٍ من النخع واستدل بأنَّ اليائس من الشيء عالم بأنَّه لا يكون ، حملاً له على استعمال الرجاء بمعنى الخوف ، وأنَّ قراءة الإمام علي بن الحسين ، وزيد بن علي وغيرهما هي تفسير لقوله تعالى : (( أفلم يَيأَس) [38].

        ونصَّ الطبرسي على أنَّها قراءة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، وعلي بن الحسين (ع)، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد (ع) وغيرهم ، واكتفى بذكر توجيه ابن جني المذكور سلفاً[39]، وذكر تفسيراً منقولاً عن ابن عباس (رض) وغيره مفاده الجمع بين العلمِ واليأسِ : ((...وقيل معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا علماً ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه ...))[40] ، ويبدو هذا التفسير أقرب من القول بالتضمين ؛ لأنَّه يتساوق مع قولهم إنَّها قراءة تفسيرية .

        وقال القرطبي : (( قوله تعالى : (( أفلم يَايْئِس الذين آمنوا ) قال الفراء قال الكلبي : (ييئس) بمعنى يعلم ، لغة النخع ، وحكاه القُشيري عن ابن عباس ، أي أفلم يعلموا وقاله الجوهري في الصحاح . وقيل : هو لغة هَوَازن ، أي أفلم يعلم ...))[41].

        ولنا على هذا النصّ ملاحظات هي :

إنَّ قوله : (قال الفراء قال الكلبي) ليس كذلك بل إنَّ الفراء قال : (( قال المفسرون : ييأس : يعلم – وهو في المعنى على تفسيرهم ...))[42] فالقول ليس للفراء . إنَّ قوله : (( ... وقيل هو لغة هَوَازِن ...)) ، لم نجد – فيما اطلعنا عليه – أنَّها نُسبت إلى هوازن . قوله : ((... وقاله الجوهري في الصحاح ...)) ، نعم صحيح [43] ولكن ابن جني صرّح به قبله ، وكان أدق منه إذ نصَّ على البطن (وَهْيِيل) من النخع .

وأنكر أبو حيان أن تكون قراءة (يتييّن) تفسيرية ، وهي مسند إلى الرسول (ص) قال ((...وقال غيره – اي الزمخشري – وعكرمة ... وعلي بن الحسين وابنه زيد ...(أَفلم يَتَبَيّن) من بينت كذا إذا عرفته ، وتدل هذه القراءة على أنَّ (أفلم) ييأس هنا معنى العلم ، كما تظافرت[44] النقول : أنَّها لغة لبعض العرب ، وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله : ( أفلم ييأس ) ، كما يدلّ عليه ظاهر كلام الزمخشري ، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول (ص) ، وليست مخالفة للسواد...))[45].

        وذكر الفيروز آبادي أن من وجوه (يَئِسَ) بمعنى (عَلِمَ) في لغة النخع ، وهي قراءةُ علي ابن أبي طالب (ع) [46] .

        ولا نرى وجهاً فيما نُسب إلى الفراء : (( وقال الفراء في قوله تعالى : (( أَلَمْ يَيْئِس الذين آمنوا ) أفلم يعلم قل : وهو في المعنى على تفسيرهم ... فقال : أفلم ييأسوا علماً ...))[47] ؛ لأنَّ هناك فرقاً دقيقاً بين (بيّن) و (عَلِمَ) ، ولا نعلم لماذا لم تكن القراءة بـ(أفلم يعلم) ما مدام أنَّ اليأسَ بمعنى العلم؟

        وهذا يدل على أنَّ معنى (بيّن) في القراءة : بانَ أمرهم وظهر[48] وهو أمرٌ محسوس ، وأمّا (عَلِمَ) فهي تدلّ على أمرٍ غير محسوس ، ولا ظاهر .

الخاتمة

        توصل البحث إلى جملة من النتائج هي :

إنَّ أثرَ الإمام علي بن الحسين (ع) في قراءة زيد بن علي (رض) لم يكن وقفاً على المستوى الواحد من مستويات اللغة ، بل شملت المستويات اللغوية كلها . قد نجد أنَّ ما نُسِبَ إلى زيد بن علي (رض) من قراءة تمثل قراءة لأهل بين النبوة ، قرأ بها الامام علي بن ابي طالب (ع) ، وعلي بن الحسين (ع) ، ومحمد الباقر (ع) وغيرهم (ع) . امتدَّ أثر الإمام علي بن الحسين في قراءة زيد بن علي (رض) إلى القراءة التفسيرية ، وهي تمثل ذروة هذا الأثر . إن ما ذُكر من قراءات مشتركة بين الإمام علي بن الحسين (ع) وزيد بن علي (رض) في معجم القراءات القرآنية للدكتور : أحمد مختار عمر ، والدكتور عبد العال سالم مكرم، لا يمثل كلّ هذه القراءات ، إذ يمكن الوقوف على قراءات اخرى لم تذكر .

 

الهوامش

 

[1]  التوبة : 118 .

[2]  المحتسب : 1/306.

[3]  ينظر : غاية النهاية : 1/413.

[4]  مجمع البيان : 5/150.

[5]  الكشاف : 2/307-208.

[6]  التوبة : 106.

[7]  ينظر : مجمع البيان : 5/149-150.

[8]  نفسه : 5/150.

[9]  البحر المحيط : 5/145.

[10]  الدر المصون : 3/511.

[11]  هود : 5 .

[12]  ينظر : معاني القرآن (الفراء) : 2/4 ، ومعاني القرآن (الاخفش) :1/380.

[13]  المحتسب : 1/318-319.

[14]  كتاب سيبويه : 4/75 ، وينظر : أوزان الفعل ومعانيها : 112.

[15]  ينظر : الكشاف : 2/364-365.

[16]  البحر المحيط : 5/263 .

[17]  ينظر : الدر المصون : 4/78.

[18]  الأنفال : 1 .

[19]  إعراب القرآن (النحاس) :367.

[20]  المحتسب : 1/272.

[21]  الكشاف : 2/189 .

[22]  مجمع البيان : 4/461.

[23]  البحر المحيط : 4/578 ، وينظر : الدر المصون : 3/392.

[24]  ينظر : البحر المحيط : 4/577-578 .

[25]  المحرر الوجيز : 2/496.

[26]  الكشاف : 2/188 .

[27]  مريم : 5 .

[28]  ينظر : إعراب القرآن (النحاس) : 521.

[29]  المحتسب :2/37.

[30]  ينظر : الكشاف : 3/4.

[31]  البحر المحيط : 6/216.

[32]  ينظر : الدر المصون : 4/491.

[33]  روح المعاني : 8/382.

[34]  الجامع لاحكام القرآن : 16/401 ، وقول الزجاج ينظر : معاني القرآن وإعرابه : 3/261.

[35]  الرعد : 31.

[36]  المحتسب : 1/357 ، والبيت في : عمدة الحفاظ : 4/402.

 ، [37]  عمدة الحفاظ : 4/401 .

[38]  ينظر : الكشاف : 2/510.

[39]  ينظر : مجمع البيان : 6/41-42.

[40]  نفسه : 6/45.

[41]  الجامع لاحكام القرآن : 13/584.

[42]  معاني القرآن (الفراء) :2/63.

[43]  ينظر : الصحاح :3/993(يئس).

[44]  الصواب : تضافر بالضاد .

[45]  البحر المحيط : 5/505.

[46]  ينظر : بصائر ذوي التمييز : 5/375 بصيرة (يئس) .

[47]  نفسه : 5/375.

[48]  ينظر : كتاب الافعال (ابن القوطية) :128.

المصادر

القرآن الكريم . اعراب القرآن (النحاس) ، أحمد بن محمد النحاس (ت338ه) ، تحقيق : د. زهير غازي زاهد ، ط3 ، عالم الكتب ، بيروت ، 1409-1988م. أوزان الفعل ومعانيها ، هاشم طه شلاش ، مطبعة الآداب ، النجف الاشرف ، 1971م. البحر المحيط ، محمد بن يوسف الاندلسي (أبو حيان) (ت745ه) ، تحقيق د. عبد الرزاق المهدي ، دار احياء التراث العربي ، لبنان – بيروت . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت817ه) ، تحقيق : محمد علي النجار ، المكتبة العلمية ، لبنان – بيروت . تاج اللغة وصحاح العربية ، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت398ه) ، تحقيق: : أحمد عبد الغفور عطار ، ط3 ، دار العلم للملايين ، لبنان – بيروت ، 1404ه – 1984م. الجامع لاحكام القرآن ، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت671ه) ، تحقيق : محمد بيومي ، وعبد الله المنشاوي ، مكتبة الإيمان ، مصر . الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ، أحمد بن يوسف (السمين الحلبي) (ت756ه) ، تحقيق : علي محمد معوض ، وعادل أحمد عبد الموجود ، ود. جاد مخلوف جاد ، ود. زكريا عبد المجيد النوتي ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان – بيروت ، 1414ه-1994م. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، محمود الالوسي البغدادي (ت1270ه) ، تحقيق : علي عبد الباري عطية ، ط2 ، دار الكتب العلمية ، لبنان – بيروت ، 1426ه-2005م. عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ ، أحمد بن يوسف (السمين الحلبي) (ت756ه) ، تحقيق : د. محمد التونجي ، ط1 ، عالم الكتب ، لبنان – بيروت ، 1414ه-1993م. غاية النهاية في طبقات القراء ، محمد بن محمد الجزري (ت833ه)، تحقيق : برجستراسر ، ط3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان – بيروت ، 1402ه-1982م. كتاب الأفعال ،محمد بن عمر (ابن القوطية) (ت367ه) ، تحقيق : علي فودة ، ط3 ، الشركة الدولية للطباعة ، القاهرة ، 1421 ه – 2001م. كتاب سيبويه ، عمرو بن عثمان بن قنبر (ت180ه) ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، ط2 ، الهيأة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 1979م. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه) ، ضبط : محمد عبد السلام شاهين ، ط3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان – بيروت ، 1424ه-2002م. مجمع البيان لعلوم القرآن ، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه) ، مؤسسة الهدى ، إيران – طهران 1417ه-1997م. المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ، عثمان بن جني ، تحقيق : ج1 : علي النجدي ناصف ، ود. عبد الحليم النجار ، وعبد الفتاح إسماعيل شلبي ، ج2 : علي النجدي ناصف ، ود, عبد الفتاح اسماعيل ، المطابع التجارية ، مصر ، 1424ه-2004م. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، عبد الحق بن غالب الاندلسي (ت546ه)، تحقيق : عبد السلام عبد الشافعي محمد ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان – بيروت ، 1422ه-2001م. معاني القرآن (الأخفش) سعيد بن مسعدة (ت210ه) ، تحقيق : د. هدى محمود قراعة ، ط1 ، مطبعة المدني ، مصر ، 1411ه-1990م. معاني القرآن (الفراء) ، يحيى بن زياد (ت207ه) ، تحقيق : ج1 : أحمد يوسف نجاتي ، ومحمد علي النجار ، ج2 : محمد علي النجار . ج3: د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي ، ط3 ، دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1422ه-2001م.

معاني القرآن وإعرابه ، إبراهيم بن السري الزجاج (ت311ه) ، تحقيق : عبد الجليل عبده شلبي ، دار الحديث ، القاهرة ، 1424ه-2004م.

المرفقات