حدس الانطباعية والصورة المركبة ..

إن الرسم الحديث يعد أشد الفترات إثارة وتنوعا.. فلم يحدث مسبقا إن تغير الرسم بهذه السرعة أو استكشف الرسامون بحماسة هذا العدد من الاتجاهات المتنوعة والنزعات الذاتية، وقد كان للاكتشافات العلمية والتطور التكنولوجي ومنها التصوير الفوتوغرافي الأثر البالغ من توجيه الفنون البصرية الى رصد متغيرات العصر ومواكبتها . 

تعد الانطباعية منطلقاً لتحولات جوهرية متنامية في الرسم الحديث، وسبباً في احداث تغيرات متسارعة افضت الى خلق فن صوري يمتاز بخصوصية مفرداته من خلال الاحساس بالإيقاع السريع للزمن والتأكيد على اللحظة... فكان لها الحظوة في التحرر من التقاليد التصويرية الكلاسيكية والنهضوية التي كانت سائدة، معتمدة على فلسفة جديدة في الرؤية الى الطبيعة وظواهرها قائمة على الرصد الاني المباشر للصورة المتغيرة بفعل الضوء وظلاله بوصفه وسيطاً فذاً للإلهام الذي يخرج الشيء عن مادته، ويحيله الى اقصى درجات الكمال شكلاً ولوناً.

ثمة نوعان من الاهتمامات الذاتية حملت الانطباعية للابتعاد عن مفاهيم الواقعية .. فالتمثلات الشيئية عند الانطباعية تنحصر بالصورة الذهنية وفق مرجعيات تسلسلها المنطقي - ضمن دائرة قدرة الحواس الانسانية - من لحظة انطباعها على شبكية العين وصولاً إلى خزنها في الذاكرة البصرية.. والتي تتحول من خلالها الصورة من فعلها المادي الملموس إلى متحول بصري بفعل آليات التحليل والتركيب البنائي لها.

 إنها صورة مدركة حسياً لواقع العلاقات الفيزيائية والمناخية التي يتمتع بها المشهد، فالصورة الذهنية المركبة عند الفنان الانطباعي ذات مرجعيات بيئية محيطية وفعل آلي يقع ضمن دائرة المخططات المعرفية الجمالية في حدود وظيفة الدماغ ونظام المعالجات البنائية للصورة الذهنية ،فالتوالدات الشكلية ذات الإيقاع اللوني المنسجم، ما هي إلا تمثلات بصرية مقترحة لافتراضات قائمة على إعادة تشكيل المشهد الطبيعي وفق رؤية ذاتية حدسية ممنهجة يقودها الوعي وينظم قصدها المنهج، فالصورة الذهنية المركبة هي نظام من العلاقات التفاعلية لمجموع خبرات التراكم البصري للمشهد الطبيعي وإعادة تحويل مواقع عناصر البناء بما ينسجم والمخططات الانسيابية المعرفية والجمالية المؤسسة بفعل خبرة الإنجاز وحدسه.. هذا ما يشكل المنهج البنائي للصورة المركبة في الانطباعية . 

ان الصورة المركبة المادية اللاحقة هي فعل الافتراض المادي الناتج عن فعل التأسيس الذهني ..ومن العناصر المهمة التي ساهمت في بناء الصورة الذهنية في الانطباعية بتحولاتها هي الحرية ورفض القيود الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي سادت في الاتجاهات التي سبقتها ، فالذات حرة وبأثرها يكون المشهد المرسوم هو النموذج وليس ما يظهر في الموضوع الخارجي.. هذا الإحساس الذاتي قد لا يسمح للكثير من المعايير الفعلية بالمراجعات، بل قد يشكل الآني طبيعة متغيرة من لحظة إلى أخرى.. وهذا ما يجعل من الوعي الأساس البنائي لتمثيل الصورة وفق تحولاتها الآنية.

 حسب رأي الانطباعية ومن يمثلها فإن الإمساك بلحظات التحول الآني الممثلة بصرياً بلوحة ما.. هي انتصار على الزمن وتأييد للحظة وتجاوز الوقت والتحرر عن القوانين الفيزيائية ، وبما إن الصورة الذهنية متغيرة وفق طبيعتها الآنية المرتبطة بتحولات الضوء في المرجع الطبيعي وتأثيره الآني على الموجود، فاننا نجد إن العمل الفني عندهم يتمثل بعدد من المشاهد البصرية ضمن سلسلة من الأعمال للمشهد الواحد... وعليه يمكن عد الصورة الذهنية في الانطباعية تتكون بفعل سلسلة منظمة من العمليات الفسلجية والذاتية وهذا ما يجعل منها فعل منظم متحفز ومبدع في نفس الوقت .

ان آليات بناء الصورة الذهنية المركبة في الانطباعية تنتظم من خلال آلية التحليل والتركيب لمجموع خبرات المشاهد الناتجة عن تفعيل دائرة قدرة الحواس على التفاعل مع المثير الخارجي واقتناص المشاهد الأكثر تناسباً والمخططات الجمالية المعرفية الذهنية والتي تمثل الأساس الموضوعي في تحديد سياقات البناء الشكلي المركب للصورة الذهنية … وهذا ما يجعل من المستلم من الواقع الفيزيائي أكثر انتقائية وتناسب، لذلك رفضت الانطباعية وأسقطت المفردات الذهنية التي احتضنتها المدارس الفنية السابقة لها، فهي حسب رأي البعض نظرة فنية من شأنها تفكيك العالم المرئي ومن ثم بنائه بإعادة صيغ الإدراك الحسي، فهي تفرض إدراكاً جديداً وتبني رؤية متطورة، إلا إن هذا التفكيك والبناء الذي هو تحليل وتركيب من خلال الوهلة الأولى لعمليات التجزئة وإعادة التركيب كان من خلال وعي وقصد تحليلي يعرف هدف التحليل ويعرف كيف يعيد التركيب.. أي بمعنى اخر إنها تتجاوز العلاقات التي أسست نسباً ذهبية للصورة المركبة واحلت محلها علاقات تنطلق من الذات إلى الذات بفعل خبرة الإنجاز والحدس. 

اعداد  سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة 

المرفقات