أبو الأسود الدؤلي.. ريادة النحو وأصالة الشعر

شاعر عربي أصيل, ولغوي كبير, مثّل فصاحة اللغة ونصاعتها أبلغ تمثيل, عبّر شعره عن عمق الإيمان بالإسلام, وقوة معتقده بالنبي (ص), وولائه العميق لأهل بيته (ع), واضح الرؤيا, صريح التعبير, يُعدّ رائداً من رواد الفكر العظماء فهو أول من وضع النقاط على الحروف, وأول من وضع قواعد النحو, وأول من صنّف في علم الكلام واللغة بإشارة وتلقين من سيد البلغاء والمتكلمين علي بن أبي طالب (ع).    إنه أبو الأسود الدؤلي الذي حَظي شعره باهتمام كبير من قبل دارسي الأدب ونقّاده كونه يمثل العصر الإسلامي الأول خير تمثيل، لغة سليمة لم تشبها شائبة, وتراكيب فصيحة لم تشوّهها ترجمات دخيلة, وأفكار اصيلة لم تسيّرها الأغراض والدوافع, فكان شعره أميناً على سلامة اللغة, صالحاً للاستشهاد والاستدلال به في كتب اللغة والنحو والقراءات، أما شاعريته فقد كانت بمكانة بارزة في عالم الشعر العربي وحظي ديوانه باهتمام علماء الأدب ودراستهم ومراجعتهم وتداولهم إياه على مرّ العصور.   ورغم أن العشرات من أُمّات كتب السير والتاريخ واللغة قد تحدثت عن أبي الأسود وروت عنه الشيء الكثير من شعره وأخباره وأولاه المؤلفون عناية خاصة إلا أنه وقع في اسمه ونسبه خلاف كثير لا يتسع المجال لسرد تفاصيله غير أننا اعتمدنا في ذكر ذلك على ما اتفقت عليه أكثر هذه المراجع الأدبية واللغوية والتاريخية, فقد ذُكر أن اسمه هو (ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حِلس بن نُفاثة بن عَدي بن الدُّئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار), وأمه (الطويلة) من بني عبد الدار بن قصي، أما ولادته فقد قيل إنها كانت قبل البعثة النبوية الشريفة بثلاث سنوات, وأدرك حياة رسول الله (ص) وروى عنه, وكان ممن أسلم على عهد النبي كما نصت على ذلك كثير من الكتب المعتبرة، هاجر إلى البصرة على عهد الخليفة عمر وسكن فيها.    وتذكر الروايات التاريخية إن أبا الأسود وليَ قضاء البصرة, كما تذكر الروايات إن عبد الله بن عامر والي عثمان على البصرة كان قد استخلف أبا الأسود لما توجّه إلى خراسان, وكان أبو الأسود يعد من المقدمين الفقهاء والمحدثين من التابعين, كما أرسله عثمان بن حنيف عامل علي (ع) على البصرة على رأس الوفد الذي أوفده لمفاوضة أهل الجمل, وإن انتقاء أبي الأسود لهذه المهمة إنما كان لأنه (رجل خاصة) على حد تعبير الطبري, (ورجل أهل البصرة) على حد تعبير ابن سلام, كما ذكر المؤرخون أنه كان على رأس الجيش الذي أرسله عبد الله بن عباس لقتال خوارج البصرة, وإنه كان ممن قاتل يوم الجمل مع الإمام علي (ع), وكان أبو الأسود من المتحققين بولاية أمير المؤمنين (ع), ومحبته وصحبته ومحبة ولده, وقد روى ابن الاثير إن نقش خاتم أبي الأسود كان هذا البيت:   يا غالبي حسبكَ من غالبِ   ***   ارحم علي بن أبي طالبِ (1)   وكان أبو الأسود مجاوراً لبني قُشير الذين كانوا يناصبون العداوة لآل محمد, وكانوا أصهاره فكانوا يؤذونه لحبه لعلي بن أبي طالب (ع) فقال: يقول الأرذلــــــون بنو قشير:   ***   طــوال الدهر لا تنسى عَليا   فقلت لهم: وكيف يكون تركي   ***   من الأعمال ما يُقضى عَلَيا أحب محمــــــــــداً حباً شديداً   ***   وعبــاساً وحـمزة والوصيا بنو عمِ النبـــــــــــيِّ وأقربوه   ***   أحب النــــــــــاسِ كلّهم إليا فما وصل الى قوله: فإن يكُ حبّهم رشــــداً أصــبه    ***   وفيهم أُسوةٌ إن كــــان غيّا   قالوا له: شككت يا أبا الأسود بقولك هذا فقال: أما سمعتم قول الله تعالى: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ", وكان أبو الأسود من كتّاب علي (ع), وعندما اضطر (ع) إلى التحكيم همَّ أن يقدم أبا الأسود فأبى الناس عليه, ويؤيّد هذه الرواية ما رواه الشريف المرتضى في الأمالي من أن أبا الأسود دخل يوماً على معاوية في النخيلة فقال له معاوية: أكنت ذُكرت للحكومة ؟ قال: نعم، قال: فماذا كنت صانعاً ؟ قال: كنت أجمع ألفاً من المهاجرين وأبنائهم وألفاً من الأنصار وأبنائهم ثم أقول: يا معشر من حضر، أرجلٌ من المهاجرين أحق أم رجلٌ من الطلقاء ؟ فضحك معاوية ثم قال: إذن والله ما اختلف عليك اثنان.  وعندما خرج عبد الله بن عباس عامل علي (ع) من البصرة استخلف أبا الأسود عليها فأقر أمير المؤمنين (ع) هذا الإستخلاف وبقي أبو الأسود والياً على البصرة حتى استشهاد أمير المؤمنين (ع) ولما بلغه خبر استشهاده (ع) قال:   ألا أبلغ معـــــــاويةَ بن حربٍ   ***   فلا قـــــرّت عيونُ الشامتينا أفي شهرِ الصيــــامِ فجعتمونا   ***   بخيرِ الخــــلقِ طرّاً أجـمعينا قتلتمْ خيرَ من ركـــبِ المطايا   ***   وخيَّسها ومــن ركبِ الـسفينا ومن لبسَ النعالَ ومـن حذاها   ***   ومن قرأ المثـــــانيَ والـمئينا إذا استقبلتَ وجهَ أبــي حسينٍ   ***   رأيتَ البدرَ راقَ النـــاظرينا لقد علمتْ قريشٌ حيـث كانت   ***   بأنّكَ خيـــــــرهم حسباً ودينا   وله من قصيدة بليغة في رثاء أمير المؤمنين (ع):   ماضرَّ قبراً أنتَ ســـــــــاكنه   ***   أن لا يمرَّ بأرضــــــه القطرُ فليعدلــــــن سماحَ كفكَ قطره   ***   وليورقــــــنَّ بقربك الصخرُ وإذا رقــــــــــدتَ فأنت منتبه   ***   وإذا انتبهــــتَ فوجهكَ البدرُ وإذا غضبــتَ تصّدعتْ فَرقَاً   ***   منكَ الجبـــــالُ وخافكَ الذعرُ يا ســـاكنَ القبرَ السلامُ على   ***   من حــــــــالَ دون لقائهِ القبرُ   وكان لأبي الأسود كثير من المحاججات مع إعداء أمير المؤمنين (ع), فكان في كل محاججة يزداد إيماناً بحبه وولائه وكان أشد هؤلاء الناصبين هو زياد بن أبيه الذي قال له مرة: كيف حبك لعلي ؟ قال: حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة وتزداد لمعاوية حباً وايم الله إني لأُريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفتها وذلك بزائل بعد قليل, وكان يصرخ في وجه زياد وأمثاله: أمفنّـــدي في حبِّ آلِ محمدٍ   ***   حجرٌ بفيكَ فدع ملامكَ أو زدِ من لمْ يـكن بحبالِهم متمسّكاً   ***   فليعــترفْ بولاءِ من لم يرشدِ   تحدثت المراجع اللغوية والأدبية والتاريخية كثيراً عن أبي الأسود وروت من أخباره المأثورة عنه الشيء الكثير, وقد أفصحت هذه الأخبار المتناثرة في بطون الكتب عن المزايا والسجايا التي امتاز بها أبو الأسود وما تمتع من صفات وملكات, أبرزت أهم الجوانب الذاتية في شخصيته, ولإبراز هذه الجوانب ننقل نتفة من أقوال المؤلفين بحقه.    قال عنه الجاحظ في عدد من مؤلفاته: (كان حكيماً، أديباً، وداهياً أريباً), (جمع شدة العقل وصواب الرأي وجودة اللسان وقول الشعر والظرف) (كان من المقدمين في العلم) (معدود في طبقات من الناس وهو في كلها مقدّم مأثور عنه الفضل في جميعها كان معدوداً في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والاشراف والفرسان والامراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة).    وعدّه ابن الاعرابي (من فصحاء العرب الأربعة)، كما عدّه محمد بن حبيب (من فصحاء الإسلام)، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (كان ثقة في حديثه)، أما أبو الفرج فقد قال عنه في الأغاني (شيخ العلم وفقيه الناس وصاحب علي وخليفة عبد الله بن عباس على البصرة), وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف (كان حليماً وحازماً وشاعراً متقناً للمعاني), وقال ابن خلكان (من سادات التابعين واعيانهم وكان من اكمل الرجال رأياً واسدهم عقلاً).   ومن اشهر ما أُثر عن أبي الأسود إنه أول من نقط المصحف ويروي المؤرخون أنه أُحضر إليه ثلاثون رجلاً لمعاونته على هذه المهمة فاختار منهم عشرة ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلاً من عبد القيس فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله فإن اتبعت شيئاً من هذه الحركات غُنّة فانقط نقطتين فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك.   كما أُثر عنه أنه اول من أسس العربية ونهج سبلها ووضع قياسها وأول من عمل كتاباً في النحو وقد فعل ذلك كله بإشارة من سيده علي ابن أبي طالب (ع) لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي (ع) وقد روي عنه أنه قيل له: من أين لك هذا العلم ؟ فقال: لقّنت حدوده من علي بن أبي طالب وفي حديث آخر قال: ألقى إليّ عليٌّ أصولاً احتذيتُ بها.    وقد نقلت كثير من المصادر المهمة تفاصيل تلك الأصول التي أملاها أمير المؤمنين علي أبي الأسود، منها معجم الأدباء, وطبقات فحول الشعراء, وطبقات النحويين, وإنباه الرواة, وأمالي الزجاجي, ونزهة الألبّاء وغيرها من المصادر المعتبرة، والروايات التي نسبت النحو إلى أبي الأسود قاربت الاجماع إلا من شذّ عن عصبية أو تعنّت وبعض هذه الروايات لمؤرخين كانوا قريبي العهد بعصر وضع النحو فنقلت طبقة عن أخرى، أما الناقلون فكانوا من أوثق الثقات كالخليل بن أحمد, وأبي عمرو بن العلاء اللذَين درسا على رجال الطبقة النحوية الثانية وعلى رأسهم عيسى بن عمرو بن أبي إسحاق وقد أخذ هؤلاء الثلاثة من تلامذة أبي الأسود يحيى بن يعمر, ونصر بن عاصم, والأخفش الأكبر, وعنبسة, وميمون الأقرن وغيرهم من الذين نقلوا رواياتهم عن أبي الأسود مشافهة, ودونوا ذلك في رسائلهم وكتبهم.    ويدلنا كتاب سيبويه الذي هو بين أيدينا ولا يزال يُتداول فإنه عندما يروي عن بعضهم فإنه يصل بالسند إلى أبي الأسود وينتهي عنده, وهذا يدل على أنه كان الواضع الأول لعلم النحو وقد تعلمه من علي بن أبي طالب (ع) كما يصرح هو، وإن البحث المفصّل في ذلك يحتاج إلى تفاصيل كثيرة لا يمكن سردها في مجال محدود كهذا المقال، ومن أراد أن يسبر غور هذا البحث فليراجع المصادر اللغوية والتاريخية والأدبية التي تشير إلى أن علي بن أبي طالب (ع) هو أول من وضع النحو وسنّ العربية وعلّم ذلك تلميذه أبا الأسود الدؤلي.   لنعد إلى أبي الاسود وشعره الذي يعدّ في الطبقة الأولى من الشعر العربي وبالأحرى فهو كنز ثمين من كنوز العربية الأصيلة وقد حَظي باهتمام فحول اللغة على مر العصور فقد جمعه الأصمعي, وابو عمرو, والسكري كما أولاه أبو الفتح ابن جنيّ عناية خاصة فجمعه ونسخ منه نسخة لنفسه وعلق عليها تعليقات نافعة وعنها نسخ عفيف بن أسعد نسخته التي أصبحت الأصل لعدد من النسخ الباقية اليوم. وقد أشرنا في بداية المقال إلى أهمية شعر أبي الأسود كونه يمثل العصر الإسلامي الأول خير تمثيل, أما السمة البارزة في شعر أبي الأسود فهي مواقفه المبدئية في التزامه الحق وتمسكه بالإسلام والنبي وأهل بيته (ع), أما المواضيع الأخرى التي طرقها في شعره فهي: الحكمة والفخر والحماسة والشجاعة والاعتزاز بلسانه وفي تكريم العلم وتحمل الأذى والصبر عليه والصداقة والمؤاخاة وغيرها من المواضيع الإنسانية والاجتماعية الأخرى، كما تطرّق أبو الأسود إلى حادثة الطف وبكاها بكاء المفجوع فقال من قصيدة يرثي بها الإمام الحسين (ع) ومن قتل معه من أهل بيته وصحبه:   يا ناعي الدين الذي ينعى التقى   ***   قمْ فانعهِ والبيتَ ذا الأستارِ أ بني عــــــــليٍّ آل بيتِ محمدٍ   ***   بالــــطفِ تقتلهم جفاةُ نزارِ وقال من قصيدة أخرى في رثاء الحسين (ع) أيضاً: أ لستِ تريـــــــــــن بني هاشم   ***   قد افْنَتـــــــهُمُ الفئة الظالمة وأنتِ ترينَـــــــــــــنْهم بالهدى   ***   وبالطفِّ هــــامُ بني فاطمة سأجعل نفســـــــــــي لهم جُنَّةً   ***   فلا تكــثري بيْ من اللائمة   توفي أبو الأسود ــ رحمه الله ــ بالطاعون الجارف سنة (69 هـ / 688 م) بالبصرة وله من العمر خمس وثمانون سنة وكان آخر حادث أشار إليه في شعره هو مقتل الحسين (ع) لتأثره العظيم بهذا الحادث وكان له من الأولاد اثنان: عطاء وأبو حرب وابنتان, وقد ألف عنه عدد كبير من علماء اللغة والسير كالأصمعي وأبي عمرو والسكري وجمع أخباره المدائني في كتاب أسماه (كتاب أبي الأسود الدؤلي) كما ألف عنه ــ أيضاً ــ عبد العزيز بن يحيى الجلودي, وأبو عبيدة, والهيثم بن عدي, ومحمد بن سلام, وجمع ديوانه وأولاه عناية خاصة ابو الفتح ابن جنيّ.   محمد طاهر الصفار ........................................................................... 1 ــ الكامل ج 3 ص 205  

المرفقات