تقديم
كان الفضيل بن الزبير على صلة وثيقة بزيد الشهيد رحمه الله ، وقد حاول أن يتعرّف من خلاله على (تسمية مَن قُتل مع الحسين بن عليّ عليهما السلام من وُلْده وإخوته وأهله وشيعته)، ثمَّ أضاف إلى ذلك ما توصّل إليه من مصادر أُخرى أهمّها:
1ـ يحيى بن أُمّ طويل، أخو الإمام زين العابدين عليه السلام من الرضاعة.
2ـ عبد الله بن شريك العامري، من حواريي الإمامين السجاد والباقر عليهما السلام .
ثمَّ ألّف من كلّ ذلك نصّاً يُعدّ من أهمّ النصوص التاريخيّة وأقدمها التي ذكرت أسماء مَن قُتل مع الحسين عليه السلام من الهاشميين وغيرهم.
وقد كان هذا النصّ ولقرون متطاولة غائباً عن أوساطنا العلميّة، إلى أن وفّق الله سبحانه وتعالى العلّامة والمحقق الكبير السيد محمد رضا الحسيني الجلالي لاستخراج هذا النصّ من بعض مصادر التراث الزيديّ، وتحقيقه ونشره ووضعه بين يدي الباحثين والمؤرِّخين.
وقد وضعتُ في هذه السطور غاية ما توصّلت إليه من بحث وتنقيب وتحقيق حول شخصية الفضيل وكتابه في المقتل، وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلتُ وإليه أُنيب.
المبحث الأوّل: ترجمة الفضيل بن الزبير
1ـ اسمه ونسبه وأُسرته
هو الفضيل[1] ـ بالألف واللام. أو فضيل[2]، بدونهما ـ بن الزبير، بضمّ الزاي وفتح الباء على زنة (رُجَيل) مصغراً على ما هو المألوف والظاهر من علماء الأنساب[3]، بن عمر بن درهم[4] الأسدي الرسّان.
والأَسَدي ـ بفتح الألف والسين ـ نسبة إلى أسد، وهو اسم عدّة من القبائل العربيّة، منهم:
1ـ أسد بن عبد العزّى من قبائل قريش.
2ـ أسد بن خزيمة.
3ـ أسد بن ربيعة بن نزار.
4ـ أسد بن دودان.
5ـ أسد بن شريك، بطن من الأزد[5].
ويظهر من بعض النسّابين أنّ الفضيل بن الزبير ينتسب إلى أسد بن خزيمة[6]، وهي قبيلة عظيمة من العدنانيّة، تنتسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. وهي ذات بطون كثيرة يطول ذكرها.
كانت بلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد، وفي مجاورة طيء، ويُقال: إنّ بلاد طيء كانت لبني أسد، فلمّا خرجوا من اليمن غلبوهم على أجأ وسلمى، وجاءوا واصطلحوا، وتجاوروا لبني أسد، ثمّ تفرّقوا من بلاد الحجاز على الأقطار وذلك بعد الإسلام، فنزلوا العراق، وسكنوا الكوفة منذ سنة 19هـ وملكوا الحلّة وجهاتها حتى سنة 588هـ[7].
وعلى أيّة حال، فإنّ الفضيل بن الزبيرـ على ما يبدوـ لم يكن من صميم بني أسد، بل كان ينتسب إليهم بالولاء، كما صرّح بذلك الشيخ الطوسي، قائلاً: «الفضيل بن الزبير الأسدي مولاهم»[8].
والرَّسّان: بفتح الراء وتشديد السين هو صانع الرسن أو بائعه، والرسن: هو زمام البعير ونحوه[9].
ويبدو لي أنّ هذا الوصف كان في الأصل للزبير، والد الفضيل، فهو صاحب هذه المهنة على ما يبدو، ثمّ عُمِّم الوصف على أفراد أُسرته، والدليل على ذلك: أنّ هذا الوصف لم يكن خاصّاً بالفضيل، بل يُطلق على أخيه عبد الله أيضاً[10].
من أعلام أُسرة آل الزبير
تعدّ أُسرة آل الزبير من الأُسَر الشيعيّة الكوفيّة التي أنجبت عدّة من الأعلام، منهم الفضيل بن الزبير صاحب الترجمة، ومنهم:
أ ـ عبد الله بن الزبير الأسدي الرَّسّان
ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، قائلاً: «عبد الله بن الزبير والد أبي أحمد الزبيري»[11].
أقول: أبو أحمد الزبيري هو محمّد بن عبد الله بن الزبير الآتي، وكلام الشيخ يدلّ بظاهره على كونه أشهر من والده.
روى الكشي ـ كما مرّ ـ عن عبد الرحمن بن سيابة، قال: «دفع إليّ أبو عبد الله عليه السلام دنانير، وأمرني أن أُقسمها في عيالات مَن أُصيب مع عمّه زيد، فقسمتها، قال: فأصاب عيال عبد الله بن الزبير الرسّان أربعة دنانير»[12]. وقد علّق العلّامة الحلّي على هذه الرواية بقوله: «وهذه الرواية تُعطي أنّه كان زيديّاً»[13].
أقول: الدليل أعمّ من المدّعى، فليس كلّ مَن خرج مع زيد رحمه الله كان ـ بالضرورة ـ زيديّاً، نعم، لا شكّ في أنّ الخروج يعدّ قرينة مهمّة على ذلك، وعلينا أن نبحث عن قرائن أُخرى نضمّها إليها.
وعلى أيّة حال، فظاهر رواية الكشي أنّ عبد الله من المُستَشهدِين مع زيد عليه السلام سنة 122هـ، ولكن بعض النقولات قد دلّت على بقائه حيّاً إلى أيام محمّد بن عبد الله ذي النفس الزكيّة المُستشهَد سنة 145هـ، فقد قال أبو الفرج الأصفهاني: حدَّثنا عليّ بن العباس، قال: حدَّثنا بكار بن أحمد، قال: حدَّثنا الحسن بن الحسين، قال: حدَّثنا عبد الله بن الزبير الأسدي، وكان في صحابة محمّد بن عبد الله، قال: «رأيت محمّد بن عبد الله عليه سيف محلّى يوم خرج، فقلت له: أتلبس سيفاً محلّى؟! فقال: أيّ بأس بذلك؟! قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يلبسون السيوف المحلّاة»[14].
ورواية المقاتل صريحة الدلالة على بقائه حيّاً إلى أيام محمّد بن عبد الله، فلابدّ من حَمْل رواية الكشي على الجرح دون القتل، وهذا ما تحتمله رواية الكشي من غير تكلّف، حيث قالت: «من أُصيب مع عمّه زيد». ومن المعلوم أنّ الإصابة أعمّ مفهوماً من القتل.
هذا من جهة، ومن جهة أُخرى ربما تصلح هذه الرواية قرينة أُخرى على زيديّة عبد الله بن الزبير، أو على ابتعاده عن خطِّ الاثني عشريّة على الأقل.
وقد كان عبد الله بن الزبير شاعراً، وله في رثاء مسلم وهانئ قصيدة مشهورة بين خطباء المنبر الحسينيّ، يقول في مطلعها[15]:
إلى هانئ في السوق وابن عقيل إذا كنتِ لا تدرين ما الموت فاُنظري
ب ـ محمد بن عبد الله بن الزبير (أبو أحمد الزبيري)
وهو أبو أحمد، محمّد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي الزبيري، من أهل الكوفة، محدِّث كبير مكثر، كان يبيع القت بزبالة[16].
قال عنه الذهبي: «الحافظ الكبير، المجود، أبو أحمد الزبيري، الكوفي، مولى بني أسد، حدَّث عن مالك بن مغول، وفطر بن خليفة، وعيسى بن طهمان ـ صاحب أنس ـ وعمر بن سعيد بن أبي حسين، ومسعر، وسعد بن أوس العبسي، وأيمن بن نابل، ورباح بن أبي معروف، وحمزة بن حبيب، والوليد بن عبد الله بن جميع، وسفيان، وشيبان النحوي، وسعيد بن حسان المخزومي، ويونس بن أبي إسحاق، وخلق كثير. حدّث عنه ابنه طاهر، وأحمد، والقواريري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وابن نمير، وابن مثنى، ومحمود بن غيلان، ونصر بن عليّ، وأحمد بن سنان القطان، وبندار، ومحمّد بن رافع، ويحيى بن أبي طالب، والكديمي، وخلق سواهم»[17].
وذكره العجلي في تاريخ الثقات بقوله: «محمّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي، يكنّى أبا أحمد، كوفي، ثقة، يتشيَّع»[18].
وعدّه ابن حبّان في كتاب الثقات قائلاً: «أبو أحمد الزبيري اسمه محمّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي، من أهل الكوفة، يروى عن الثوري وإسرائيل، روى عنه أحمد بن حنبل وأهل العراق، مات سنة ثلاث ومائتين بالأهواز»[19].
2ـ ولادته ونشأته
لم نقف على ما يحدِّد لنا مولد الفضيل تحديداً دقيقاً، إلّا كونه من دعاة زيد (ت سنة 122هـ) كما سنشير، وكونه ـ كما سيأتي أيضاً ـ ممَّن روى عن الإمام الباقر عليه السلام
(ت سنة 114هـ)، وعدم روايته عن الإمام السجاد عليه السلام (ت سنة 95هـ)، كلّها مؤشرات على ولادته قبل مطلع القرن الثاني الهجري.
ونحن لا نمتلك ما يساعدنا على معرفة نشأة الفضيل ومسيرة حياته بشكل دقيق ومفصّل؛ فالنصوص في هذا المجال شحيحة، بل تكاد أن تكون منعدمة.
وغاية ما نستطيع استشفافه من النصوص، هو أنّه قد نشأ وترعرع في الكوفة، وقد نُسب إليها في بعض المصادر[20]، وأخذ العلم عن أهلها، وأخذه عنه أهلها، كما يستفاد هذا الأمر من خلال النظر في تراجم شيوخه وتلامذته والراوين عنه.
وحينما نزل زيد رحمه الله في الكوفة سنة 121هـ، وقام بنشر دعوته بين أهلها، كان الفضيل بن الزبير من أوائل المبادرين إلى نصرته، بل كان من قياديي هذه الدعوة، كما يستفاد من بعض الروايات التي سنشير إليها لاحقاً.
كما يُستشفّ من خلال مرويات الفضيل أنّه قد سافر إلى المدينة المنوّرة، في حياة الإمام الباقر عليه السلام ، فكان يلتقي به، وقد روى عنه معجزة لأمير المؤمنين عليه السلام [21]، وروى عنه حديث: «يا فضيل، أما علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنّا أهل بيت...»[22]، وسيأتي ما يشير إلى سفره بعد مقتل زيد رحمه الله إلى المدينة للقاء الإمام الصادق عليه السلام .
3ـ مكانته العلمية وطبقته من مصنفاته
قال ابن النديم: «ومَن متكلميّ الزيديّة: فضيل الرساف، وهو ابن الزبير»[23].
أقول: (الرساف) تصحيف (الرسّان)، كما هو واضح.
وقد اعتبره سعد بن عبد الله الأشعري أحد رؤساء فرق الزيديّة القويّة، إذ قال: «وأمّا الأقوياء منهم، فهم: أصحاب أبي الجارود، وأصحاب أبي خالد الواسطي، وأصحاب فضيل الرسان»[24].
ويمكن أن نتلمّس المكانة العلميّة التي كان يتمتّع بها الفضيل بن الزبير، من خلال التأمّل برواياته المنقولة في أبواب: التفسير والعقيدة والأخلاق والعرفان والتاريخ، وغيرها.
وقد لاحظنا: أنّ أكثر رواياته ترتبط بأحقيّة أهل البيت عليهم السلام في الخلافة، وتفضيلهم على غيرهم، وهو ما يؤكِّد كون الرجل من المهتمّين بالجانب الكلامي والعقائدي، كما دلّ على ذلك كلام ابن النديم والأشعري، ولم أجده يتعرّض إلى نقل الروايات الفقهيّة إلّا نادراً.
أمّا طبقته: فقد عدّه الشيخ الطوسي من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام ، قائلاً: «فضيل بن الزبير الرسّان»[25]، ثمَّ عدّه في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، قائلاً: «الفضيل بن الزبير الأسدي، مولاهم، كوفي، الرسّان»[26].
وقد روى أيضاً ـ كما يأتي في سند مقتله ـ عن زيد الشهيد رحمه الله ، ويحيى بن أُمّ طويل، وعبد الله بن شريك العامري، وروى أيضاً عن أبي سعيد عقيصا[27]، وأبي عبد الله مولى بني هاشم[28]، وأبي داود السبيعي[29]، وأبي عمر مولى ابن الحنفية[30]، وفروة بن مجاشع[31]، ويحيى بن عقيل[32]، وغيرهم.
وروى عنه أبو حفص الأعشى الكاهلي[33]، وإسماعيل بن أبان[34]، ومخول بن إبراهيم[35]، وعاصم بن حميد الحناط[36]، وغيرهم.
وهو عادة ما يقع في نصوص كتب الحديث والتاريخ بعنوان: (الفضيل بن الزبير) أو (فضيل بن الزبير) أو (فضيل الرسّان)، وقد يقع في بعض النصوص بعنوان: (الفضل بن الزبير) وهو تصحيف.
ولم أجد من ذكر الفضيل بن الزبير في عداد المصنِّفين، ولم يُنسب إليه أيُّ كتاب في أيِّ علم من العلوم أو فنٍّ من الفنون، وأمّا كتابه في المقتل فهو في ظاهره ليس كتاباً مدوّناً في قرطاس، ولم تذكره كتب الفهارس، وإن كنت أرى أنّ عمله في هذا المقتل ـ في واقعه ـ لا يختلف عن عمل المؤلّفين، بل إنّ انطباق مفهوم التأليف عليه أشدّ بكثير من انطباقه على العديد من الآثار المنقولة عن تلك الفترة الزمنيّة، فمن سمات التأليف فيه:
1ـ ذكره في البدء لمصادره ومنابعه الأساسية التي استقى منها مادّة هذا المقتل.
2ـ تبوبيه للمادّة، حيث قسّم الشهداء على قسمين: شهداء أهل البيت عليهم السلام ، وشهداء الأصحاب، وقدّم شهداء أهل البيت عليهم السلام على غيرهم، وقسّم شهداء الأصحاب بحسب القبائل التي ينتمون إليها، وهو المنهج الذي سار عليه جلُّ مَن كتب في هذا الموضوع، كعبد المجيد الحسيني الحائري في ذخيرة الدارين، والسماوي في إبصار العين، وشمس الدين في أنصار الحسين عليه السلام ، وغيرهم.
والخلاصة: إنّني أظنّ: أنّ هذا العمل كان في واقعه كتاباً من حيث المحتوى والمضمون، وإن لم ينتشر بين الناس بهذه الصفة إلّا في وقتنا الحاضر على يد السيِّد الجلالي.
4ـ مذهبه ومعتقده
نقلنا ـ فيما مرّ ـ أنّ ابن النديم عدّ الفضيل بن الزبير من متكلمي الزيديّة، بل عدّه عبد الله بن سعد الأشعري ـ كما مرّ أيضاً ـ من رؤساء الفرق القويّة المنبثقة عن المذهب الزيديّ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك قرينتين تؤكِّدان هذا المعنى:
1ـ كونه من دعاة زيد وكبار مساعديه في ثورته، كما يدلّ على ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني، عن الفضيل بن الزبير، قال: قال أبو حنيفة: «مَن يأتي زيداً في هذا الشأن من فقهاء الناس؟ قال: قلت سليمة بن كهيل، ويزيد بن أبي زياد، وهارون بن سعد، وهاشم بن البريد، وأبو هاشم الرماني، والحجاج بن دينار، وغيرهم. فقال لي: قل لزيدٍ: لك عندي معونة وقوّة على جهاد عدوك، فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح. ثمَّ بعث ذلك معي إلى زيد، فأخذه زيد»[37].
ويمكن أن يستدلّ على ارتباطه بزيد عليه السلام وثورته أيضاً ما رواه الكشي عن فضيل الرسّان، قال: «دخلت على أبي عبد الله عليه السلام بعد ما قُتل زيد بن عليّ رحمه الله ، فأُدخلت بيتاً جوف بيت، فقال لي: يا فضيل، قُتل عمّي زيد؟ قلت: نعم جُعلت فداك. قال: رحمه الله إنّه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صادقاً، أما إنّه لو ظفر لوفى، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها...»[38].
2ـ اختصاصه بزيد رحمه الله وأخذه عنه، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه بعدّة أُمور:
منها: كونه أحد المصادر الأساسية التي اغترف منها الفضيل في هذا المقتل، كما سيأتي.
ومنها: ما روي عن الفضيل بن الزبير، قال: قلت لزيد بن علي رحمه الله : «ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قل فيهما ما قال عليّ: كفّ كما كفّ لا تجاوز قوله. قلت: أخبرني عن قلبي أنا خلقته؟ قال: لا. قلت: فإنّي أشهد على الذي خلقه أنّه وضع في قلبي بغضهما، فكيف لي بإخراج ذلك من قلبي؟ فجلس جالساً، وقال: أنا والله الذي لا إله إلّا هو، إنّي لأبغض بنيهما من بغضهما؛ وذلك لأنهم إذا سمعوا سبَّ عليٍّ عليه السلام فرحوا»[39]، وما روي عنه أيضاً أنّه قال: «سمعت زيد بن عليّ رحمه الله يقول: المنتظَر من وُلد الحسين بن عليّ، في ذرّية الحسين وفي عقب الحسين عليه السلام ...»[40]، فإنّ هاتين الروايتين تكشفان عن مدى اختصاصه بزيد رحمه الله ، وكونه المرجعيّة التي كان يرجع إليها في مسائله الفكريّة والعقديّة.
5ـ وثاقته وعدالته
يمكننا أن نحاول إثبات اعتبار الفضيل بن الزبير بأكثر من أُسلوب:
الأُسلوب الأوّل: أن نستدلّ على وثاقته أو مدحه على أقل تقدير من خلال نصِّ المعصوم عليه السلام ، كالرواية التي نقلناها سابقاً عن الكشي، عن الفضيل بن الزبير، قال: «دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام بعد ما قُتل زيد بن عليّ رحمه الله ، فأُدخلت بيتاً جوف بيت...»، فإنّ هذه الرواية تكشف عن وجود نوع من أنواع العلاقة الخاصّة بين الإمام عليه السلام والفضيل، وأقلّ ما يستفاد من جوّ هذه الرواية: هو أنّ الرجل من الممدوحين، ولعلّ هذه الرواية هي التي دعت ابن داود إلى ذكره في القسم المخصص للرواة الممدوحين، وهي التي دعته إلى نسبة مدحه إلى الكشي[41].
ولكن أقلّ ما يُعترض به على هذه الرواية: هو أنّ الراوي لهذه الرواية هو الفضيل نفسه، فيكون الاستدلال بها ـ حينئذٍ ـ على مدح الفضيل أشبه بالدور.
الأُسلوب الثاني: أن نستدلّ على وثاقته من خلال التوثيقات العامّة، فقد وقع اسمه في بعض أسانيد كتاب كامل الزيارات[42]، وكتاب تفسير القمّي[43]، فيكون بذلك موثقاً على المبنى القائل بوثاقة جميع مَن ورد اسمه في أسانيد هذين الكتابين.
نعم، بناءً على القول بانحصار التوثيق بشيوخ ابن قولويه والقمّي المباشرين، لا يكون الفضيل مشمولاً بهذين التوثيقين.
الأُسلوب الثالث: أن نستدلّ على وثاقته بعدم ورود ما يقدح به.
وتوضيح ذلك: أنّ الفضيل قد عنونه الرجاليون ولم يضعفوه، وهذا ما يجعله في عداد المهملين، والمهمل ـ عند القدماء ـ يختلف عن المجهول الذي صرَّح علماء الرجال بضعفه، فالأخير تُردّ روايته دون الأوّل، وقد كان ابن داود يعمل بخبر المهمل كما يعمل بخبر الممدوح؛ ولذا خصّص الجزء الأوّل من كتابه للممدوحين ومَن لم يضعفهم الأصحاب، وبهذا يكون الفضيل معتبر الرواية عند أصحاب هذا المبنى.
الأُسلوب الرابع: أُسلوب جمع القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان، وهو ما سلكه السيِّد محمّد رضا الجلالي لتوثيق الفضيل، قال: «والذي أراه أنّ الرجل معتبر الحديث، لما يبدو من مجموع أخباره وأحواله من انقطاعه إلى أهل البيت عليهم السلام ، واختصاصه بهم ونصرته لهم وتعاطفه معهم، وكونه مأموناً على أسرارهم، وكذلك وقوعه في طريق كثير من الروايات ـ وكلّها خالية ممّا يوجب القدح فيه ـ فهذا كلّه مدعاة إلى الاطمئنان به...»[44].
6ـ وفاته
من المؤكَّد أنّ الفضيل قد كان حيّاً بعد عام 122هـ، وهو العام الذي استُشهد فيه زيد عليه السلام ، حيث أشرنا إلى لقائه بالإمام الصادق عليه السلام بعد هذا التاريخ، كما أنّ عدم روايته عن الإمام الكاظم عليه السلام قد تدلّ على وفاته في أيام الإمام الصادق عليه السلام المتوفّى عام 148هـ، وبالتالي نستطيع أن نحصر وفاته بين عامي (122ـ 148هـ).
تبقى البحث في نص المقتل في الجزء القادم إن شاء الله
الكاتب: الشيخ عامر الجابري
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
_____________________________________
[1] اُنظر ـ مثلاً ـ: الطوسي، محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص628. الطوسي، محمّد بن الحسن، رجال الطوسي: ص269.
[2] اُنظر ـ مثلاً ـ: الطوسي، محمّد بن الحسن، رجال الطوسي: ص143، البرقي، أحمد بن محمد،
الرجال: ص35.
[3] اُنظر: الجلالي، محمد رضا الحسيني، تسمية مَن قُتل مع الحسين عليه السلام ، مجلة تراثنا، العدد الثاني: ص129.
[4] اُنظر: السمعاني، عبد الكريم بن محمّد، الأنساب: ص268 ـ 269، عند ترجمة: (أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري) .
[5] اُنظر: المصدر السابق: ص214.
[6] اُنظر: البري، محمد بن أبي بكر، الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: ج1، ص180. قال هناك: «ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي؛ أسد خزيمة...»، وعبد الله هذا هو أخو الفضيل، كما سيأتي.
[7] اُنظر: عمر كحالة، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة: ج1، ص24.
[8] الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص269.
[9] اُنظر: المامقاني، عبد الله، تنقيح المقال: ج2، ص182. البروجردي، علي، طرائف المقال: ج2، ص211.
[10] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص629.
[11] الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي: ص234.
[12] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص629.
[13] العلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: ص372.
[14] الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص255.
[15] المصدر السابق: ص109.
[16] اُنظر: السمعاني، عبد الكريم بن محمّد، الأنساب: ص269.
[17] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج18، ص63.
[18] العجلي، أحمد بن عبد الله، تاريخ الثقات: ص406.
[19] ابن حبان، محمّد بن حبّان، الثقات: ج9، ص58.
[20] اُنظر: الطوسي، محمّد بن الحسن، رجال الطوسي: ص269.
[21] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص377.
[22] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج5، ص249.
[23] الطوسي، محمّد بن الحسن، الفهرست: ص221.
[24] القمي، سعد بن عبد الله، المقالات والفرق: ص74.
[25] الطوسي، محمّد بن الحسن، رجال الطوسي: ص132.
[26] المصدر السابق: ص269.
[27] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص151.
[28] اُنظر: الطوسي، محمّد بن الحسن، الأمالي: ص148.
[29] اُنظر: المصدر السابق: ص289.
[30] اُنظر: المصدر السابق: ص459.
[31] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص125.
[32] اُنظر: المصدر السابق: ص207.
[33] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص32.
[34] اُنظر: المصدر السابق: ص148.
[35] اُنظر: المصدر السابق: ص289.
[36] اُنظر: المصدر السابق: ص493.
[37] الأصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين: ص141.
[38] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج3، ص570.
[39] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج30، ص385.
[40] المصدر السابق: ج51، ص35.
[41] اُنظر: الحلّي، ابن داود، رجال ابن داود: ص151.
[42] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص151، الباب(23) قول أمير المؤمنين عليه السلام في قتل الحسين عليه السلام وقول الحسين عليه السلام له في ذلك، الحديث رقم(7).
[43] اُنظر: القمي، علي بن إبراهم، تفسير القمي: ج2، ص388، سورة نوح، في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا }، وفيه (فضيل الرسام)، والتصحيف فيه واضح.
[44] الجلالي، محمّد رضا، تسمية مَن قُتل مع الحسين عليه السلام ، مجلة تراثنا، العدد الثاني: ص145.
اترك تعليق