الحر الرياحي -ج2- ملاقاته للإمام الحسين وتوبته...

تقدم الكلام في المحور الأول عن سيرة الحر الرياحي رضوان الله عليه وبقي الكلام في محورين :

المحور الثاني: ملاقاة الحرّ للحسين عليه السلام

اختلفت الروايات في تحديد مكان لقاء الحرّ وجيشه بالحسين عليه السلام عند دخوله إلى أرض العراق، حيث ذكر الطبري في تاريخه روايتين، في هذا الصدد:

 الرواية الأُولى: فقد ذكر الطبري: «...أقبل الحسين عليه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا،...ثمّ إنّ رجلاً قال: الله أكبر! فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال: رأيت النّخل. فقال له الأسديّان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلةً قطّ. قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل. فقال: وأنا ـ والله ـ أرى ذلك. فقال الحسين: أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد... قال: فاستبقنا إلى ذي حُسم، فسبقناهم إليه، فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم الف فارسٍ مع الحرّ بن يزيد التّميميّ اليربوعيّ حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظّهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً. فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيةٌ وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس...»([28]).

 أي: إنَّ لقاء الحرّ بالحسين عليه السلام كان في ذي حُسم، وهي منطقة إمّا جبلية، أو وادٍ فيه ماء، لقول الحسين عليه السلام: «...أما لنا ملجأٌ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجهٍ واحدٍ؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد...». فأراد الحسين عليه السلام من هذا المكان أن يسدَّ عليهم جهة ظهورهم فيستقبلون القوم من جهةٍ واحدةٍ، وذو حُسم منطقة تبعد عن عذيب الهجانات ـ التي هي قريبة من القادسية، كما سيأتي ـ ثمانية وثلاثين ميلاً بحسب رواية الطبري، وذكرها البكري بقوله: «... ذو حُسم بضمِّ أوّله وثانيه، وبالميم: وادٍ بنجد... وقال الخليل: حُسم وحاسم: موضع بالبادية... فأعلم أنَّ أعلاه قفر غامر، وأسفله نخل عامر»([29]).

إلّا أنَّ الطبري، وفي روايةٍ ثانيةٍ، يقول: «...حدّثنا عمار الدهني، قال:... فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميالٍ لقيه الحرّ بن يزيد التميمي...»([30]).

وبحسب هذه الرواية؛ فإنّ لقاء الحرّ بالحسين عليه السلام، كان قبل القادسية بثلاثة أميال، وهي منطقة عذيب الهجانات أو الرهيمة.

 وأنَّ الصدوق في أماليه ذكر هذا المكان أيضاً، فقال: «... ثمّ سار حتى نزل العذيب... ثمّ سار حتى نزل الرهيمة... قال: وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر، وأنَّ الحسين عليه السلام قد نزل الرهيمة، فأسرى إليه الحرّ بن يزيد في ألف فارس...»([31]).

 وهذان الموضعان يدعمان الروايات القائلة: إنَّ الحرّ كان في طليعة جيش الحصين بن نمير الذي نزل القادسية وسدَّ الطرق المؤدية إلى الكوفة؛ مكوّناً بذلك طوقاً أمنيَّاً لسدِّ الطريق على الحسين عليه السلام أو أخذه إلى عبيد الله بن زياد؛ الأمر الذي حال دون وقوعه الحر؛ لأنَّ الرهيمة أو منطقة العذيب قريبتان من القادسية، ولا تبعدان عنها سوى بضعة أميال.

محاورة الإمام الحسين عليه السلام مع الحرّ

ومن المناسب في هذا المحلّ أن نفرد رواية الطبري المفصّلة التي بيّنت ما دار بين الحرّ والإمام الحسين عليه السلام من محاورة، لعلّنا نقف على بعض الحقائق التي تفيدنا في المقام، فقد روى الطبري في تاريخه، قائلاً: «...وقدم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسيناً، قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصّلاة ـ صلاة الظهرـ فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن... وقالوا للمؤذن: أقم. فأقام الصّلاة، فقال الحسين عليه السلام للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلي بصلاتك. قال: فصلّى بهم الحسين.

ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الّذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه... فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤوا للرحيل. ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، أيّها النّاس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم، فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا ـ والله ـ ما ندري ما هذه الكتب الّتي تذكر! فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ. فأخرج خرجين مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: فإنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد، [فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك]، ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر:

ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال: أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن ـ والله ـ ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد ـ والله ـ أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. قال له الحسين: إذن ـ والله ـ لا أتبعك.

فقال له الحر: إذن ـ والله ـ لا أدعك. فترادا القول ثلاث مرات، ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر: إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنمّا أمرت ألّا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعلّ الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتلى بشيء من أمرك. قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً. ثمّ إنّ الحسين سار في أصحابه والحر يسايره»([32]).

إلّا أنّنا إذا دققنا في مطلع رواية الطبري، حيث يقول الراوي: «...فلم يزل موافقاً حسيناً حتى حضرت صلاة الظهر»؛ أي: بعد أن سقى أصحاب الحسين عليه السلام الحرّ وجيشه وسقوا دوابهم، نجد أنّه لم تكن هناك أيّ: محاورةٍ بين الحرّ والإمام الحسين عليه السلام إلى وقت الصلاة، وهو أمر غريب، فأين هي مهمّة الحر؟! وأين المبعوث المأمور بأن يأتي بالحسين عليه السلام إلى ابن زياد؟! وبعد حضور صلاة الظهر، صلّى الحرّ وأصحابه خلف الإمام الحسين عليه السلام، وإلى الآن فإن الراوي لم يذكر لنا أيّ شيءٍ لافت للنظر يُبيّن موقف الحرّ تجاه الإمام الحسين عليه السلام.

لقد صلّى الحسين عليه السلام بأصحابه وبالحر ومَن معه، وقام خاطباًَ فيهم، فيعتذر إلى الله وإليهم من قدومه؛ لأنّه كان بحسب طلبهم وتوقيتهم ربما، ومع هذا فبعد الخطبة وإشارة الحسين عليه السلام إلى طلبهم بقدومه، لم يكن هنالك كلام من الحرّ للإمام الحسين عليه السلام.

 وبعدما انصرفوا وحان وقت صلاة العصر أمر الإمام الحسين عليه السلام أن يتهيَّؤوا للرحيل، إلّا أنّه هل أمر أصحابه فقط أو الجميع؟ وهذا ما لم يُبينه الراوي، ثمّ قام خطيباً ثانياً وكرر المضمون نفسه.

وبعدها تكلّم الحر، فأخبرهم بعدم علمه بهذه الكتب، وأنّه لم يكتب أيَّ كتابٍ للحسين عليه السلام، وهو أمر طبيعي؛ لأنَّ هذه الكتب كان لها طابعٌ سرّي لخطورة الموقف، وإذا لم يكن الحرّ ممَّن كتب للحسين عليه السلام، والحسين يعلم بمَن كتب له، فما معنى أن يعرض هذه الكتب ويحتجَّ بها على الحر؟

 فلمّا أراد الحسين عليه السلامالانصراف ـ بحسب تعبير الراوي ولا نعلم أين يُريد الراوي للحسين عليه السلام أن ينصرف ـ حال القوم بينه وبين الانصراف، ودار الكلام بين الحرّ والإمام عليه السلام، والذي يتبيّن منه أنّه كان ذا طابع عدائي بين الطرفين، وهو الأمر الذي انتهى بالحر إلى أن يحول بين جهة انصراف الحسين عليه السلام ـ وهي المدينة بحسب الرواية ـ وبين الكوفة حيث كان الحرّ مأموراً بأن يأتي بالحسين عليه السلام إليها؛ وبسبب ذلك أعطى الحرّ للإمام الحسين خياراً وسطياً ووحيداً، وهو التوجه إلى جهة غير الكوفة والمدينة، ولعل ذلك يتعين بالاتجاه إلى كربلاء، حيث المصرع الذي اختاره الله للحسين عليه السلام وأتباعه، ومنهم الحر.

وهنا تذكر الرواية أنَّ الحرّ كتب لعبيد الله بن زياد، يطلب فيه الحلول؛ لأنَّ الحسين عليه السلام امتنع عن مرافقة الحر، والحر لم يكن مأموراً بقتاله، لكن الرواية تُؤكد على أنَّهم في هذه الحالة وصلوا لعذيب الهجانات، ومنها حصل تغيير مسار الحركة، ولم يكن بين هذه المنطقة وبين القادسية سوى ثلاثة أميال بحسب الرواية، وكان هناك الحصين بن نمير، ولم يكن للحر أيّ قولٍ تجاه الحصين، وكان بإمكانه أن يستوقف الحسين عليه السلام ويبعث للحصين، وهذا ما لم يحصل، وسار الحسين عليه السلام وركبه برفقة الحرّ وجماعته حتى وصلوا إلى كربلاء.

فأتى جواب عبيد الله بن زياد للحر، بكتاب يقول فيه: «...أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام»([33]).

والسؤال الذي يهمنا هنا ـ باعتبار أنَّ كربلاء أرض اختارها الحسين عليه السلام ـ هو: هل اختارها قبل وصول كتاب ابن زياد للحر، أو اختارها الحرّ بعد وصول هذا الكتاب؟

 يقول الطبري في الرواية نفسها: «... فقال له زهير بن القين: يا بن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به، [فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال] فقال له زهير بن القين: سر بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنّها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فقال له الحسين: وأيّة قريةٍ هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللّهمّ، إنّي أعوذ بك من العقر، ثمّ نزل...»([34]).

فللقارئ هنا أن يُجيب عن هذا التساؤل بعد هذه الرواية؛ بأنّ نزول الإمام عليه السلام بكربلاء ليس له علاقة بكتاب ابن زياد أساساً، ولا الحرّ الذي أُمِرَ بأن يُجعجع بالحسين عليه السلام.

وفي رواية أُخرى أيضاً للطبري، ذكرناها ـ فيما سبق ـ قول الحرّ للحسين عليه السلام: «..أين تُريد؟ قال: أُريد هذا المصر. قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...»([35]).

وكذلك روى ابن نما الحلي، ولم يذكر تعرّض الحرّ للإمام الحسين عليه السلام، بل ذكر أن الحرّ سار بين يدي الإمام عليه السلام، فقال: «...فكان الحرّ يُساير الحسين ولا تعرض له، فنزل عليه السلام قصر أبي مقاتل. قال جابر بن عقبه بن سمعان: ارتحلنا من قصر أبي مقاتل وقد أخذ الحسين عليه السلام طريق عذيب الهجانات»([36]).

المحور الثالث: إعلان توبة الحرّ ومقتله ومحلّ دفنه

سيكون كلامنا في هذا المحور الثالث والأخير، في خاتمة الحرّ الحسنة، التي على أساسها أصبح الحرّ حراً في الدنيا والآخرة، وأنّه مع سيّد شباب أهل الجنة، ويُسقى من كأس النبي محمد صلى الله عليه وآله التي لا ظمأ بعدها، وسنعتمد في بيان هذا المحور على ثلاث جهات:

الجهة الأُولى: توبة الحرّ

باعتبار ما جاء في النبوي: «نية المرء خير من عمله»([37])، «ولكلِّ امرئ ما نوى»([38])، فسيكون لنا تساؤل مهم مفاده:

 هل أنَّ الحرّ عقد النية وهمّ بالتوبة في ساحة القتال، أو قبل ساحة القتال؟

وقت إعلان التوبة

وفي مقام الإجابة عن السؤال السابق، نقول: قد روى الطبري في تاريخه خبر توبة الحر، حيث ذكر: «... إنَّ الحرّ بن يزيد لـمّا زحف عمر بن سعد، قال له: أصلحك الله، مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضًى. قال عمر بن سعد: أما والله، لو كان الأمر إليَّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك. قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه، يقال له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة، هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: إنّما تُريد أن تسقيه. قال: فظننت ـ والله ـ أنّه يُريد أن يتنحَّى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه. فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فساقيه. قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. قال: فو الله، لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت معه إلى الحسين. قال: فأخذ يدنو من حسين قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه، يقال له: المهاجر بن أوس: ما تُريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء. فقال له: يا بن يزيد، والله، إنَّ أمرك لمريب، والله، ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك، قال: إنِّي ـ والله ـ أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ـ ووالله ـ لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرقت.

ثمّ ضرب فرسه فلحق بحسين عليه السلام، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنَّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أُطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّى خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ـ ووالله ـ لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممَّا كان منِّي إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحرّ بن يزيد. قال: أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة، انزل. قال: أنا لك فارساً خير منِّي راجلاً؛ أُقاتلهم على فرس ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك...»([39]).

وقد نقل هذا الخبر أيضاً كلّ من الشيخ المفيد في الإرشاد([40])، وابن نما الحلي في مثير الأحزان([41])، وعنه المجلسي في بحار الأنوار([42])، ومشابه له ما رواه الدينوري في الأخبار الطوال([43]).

ولا نستطيع هنا بعد توثيق الأخبار إلّا القطع بأنَّ الحرّ أعلن توبته بعدما رأى القوم عازمين على قتال الإمام الحسين عليه السلام، ولكن السؤال الذي يُطرح بتفريعاته هو:

 هل أنَّ الحرّ لم يكن عالماً بنية القوم على قتال الإمام الحسين عليه السلام، وكذلك لم يكن على معرفة بالمخطط الكبير الذي كان معدّاً لقتال الحسين عليه السلام، أو كان يعلم بذلك؟

وهل أنّه لم يكن يعلم قوام جيش عمر بن سعد، الذي هو أكثر من ثلاثين ألف مقاتل؟

فهل جُمعت هذه الجموع بسرّية تامّة؟ خاصّةً وأنَّ طبيعة العمل في صفوف الجيش لم تكن مستمرة كما هو عليه الحال في عصرنا الحاضر، حيث كانت الجيوش تُندب إلى القتال ويبقى القادة ينتظرون قدوم أفراد الجيش من مناطقهم، وهذه العملية تستغرق أيّاماً طويلة.

فكيف ـ ولو على مستوى الاحتمال ـ يكون الحرّ غير عالم بكلِّ ذلك، وهو قائد عسكري وينتمي إلى هذا الجيش؟

وهل من المعقول أنَّ الجندي يعلم بالخطة والقائد لا يعلم؟!

 كلّ هذه التساؤلات تُنبئ عن شيءٍ واحدٍ، وهو:

إنَّ الحرّ قد التقى بالحسين عليه السلام في مكان بعيد عن الكوفة، وقد استمر مسيره معه لأيّام، وهو نفس الوقت الذي تمَّ به إعداد الجيش وتهيئته، وهذا الاحتمال وارد ـ إن لم يكن الأقوى ـ إذ أوردنا رواية لقائه في منطقة ذي حُسم، وهي الأرض الجبلية التابعة لنجد.

وأمّا إذا لم يكن الحرّ عالماً بالمخطط العسكري الضخم الذي أعدَّه عبيد الله بن زياد، فهو في هذه الحالة لم يكن مأموراً بأن يُجعجع بالحسين عليه السلام، بل غاية الأمر أنّه كان يعلم إجمالاً بالموقف السلبي لحاكم دمشق وواليه على الكوفة من الحسين عليه السلام، ولم يكن الحرّ على مقدّمة الجيش، الذي كان بإمرة الحصين بن نمير؛ لأنَّ ذلك يعني لقاءه بالحسين عليه السلام في عذيب الهجانات، وهذا ما أثبتنا عدم إمكان القطع به؛ لأنّها قريبة عن القادسية حيث يتجحفل معسكر الحصين بن نمير، وهو المأمور فعلاً بقطع الطريق على الحسين عليه السلام، والقبض عليه لو صحَّ التعبير.

أضف إلى ذلك ما أوردناه: من أنَّ وصول كتاب عبيد الله بن زياد للحر في كربلاء، فما معنى جعجعته بالحسين عليه السلام ووصول الكتاب كان في وقت قد وضع كلّ شيء في نصابه، ولم يكن الحرّ ليغير شيئاً؟! فالجيوش بقيادة عمر بن سعد تهيّأت لقتال الحسين عليه السلام، وكربلاء هي ما أراده الحسين عليه السلام.

 نعم، إنَّ هذه الرواية عليها ملامح الوضع، فيستشرف منها أنَّ بني أُميّة كانوا يسعون إلى إشاعة أن موقع شهادة الحسين عليه السلام لم يكن باختياره، بعدما آيسوا من منعه من التوجه إلى كربلاء، وتحقيق نبوءة جدّه صلى الله عليه وآله، فوضعوا هذه الروايات ليقولوا لنا: إنَّ الحرّ هو مَن جعجع بالحسين عليه السلام إلى هذه الأرض، ولم تكن باختياره عليه السلام.

 فإذا صحّ كلّ ذلك، فإعلان توبة الحرّ لم تكن لأجل أنّه جعجع بالحسين عليه السلام، بل لأجل أمر آخر، وهو كما ذكرناه سابقاً، من أنَّ الحرّ كان غارقاً في الجاه والسمعة والسلطان، ورئاسة العشيرة والمركز الوظيفي في جيش الكوفة، ويرى أنّه قضى حياته قائداً عسكرياً يتمتع بامتيازات هذه القيادة مادياً ومعنوياً، وهذا يمكن أن يكون من الأسباب التي جعلت الحرّ يُقبل على التوبة ويقدّمها بين يدي إمام زمانه الحسين عليه السلام، أو أنَّه أدرك بشكل وآخر، بأنَّه لم يكن في الموقع المفترض به أن يكون بحسب الموازين الشرعية التي فرضها الله تعالى، فأهل البيت عليهم السلام أئمة الهدى الذين أمر الله باتباعهم، وهذا ما تبيّن للحر في وقت لاحق، الوقت الذي سبقه فيه حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، ولكنّه التحق بهذا الركب الشريف ليشعل لنا مناراً يهتدي به الناس، وهو أنّ باب التوبة مفتوح وعلى الإنسان الطلب والوغول.

 

الجهة الثانية: مقتله

بعد هذه المسيرة للحر رضي الله عنه برفقة الإمام الحسين عليه السلام والوصول إلى كربلاء، وبعد أن عزم القوم على قتل ابن بنت نبيهم صلى الله عليه وآله وسبطه وريحانته، أبى الحرّ إلّا أن يكون من الأضاحي المقدّسة في كربلاء، وسنُبيّن هذا من خلال ما أورده الطبري كذلك؛ حيث ذكر: «... أنّ الحرّ بن يزيد لـمّا لحق بحسين، قال رجل من بني نُمير من بني شقرة، وهم بنو الحارث بن تميم، يقال: له يزيد بن سفيان: أما والله، لو أنّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان. قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثّل قول عنترة:

       ما زلت أرميهم بثغرة نحره                 ولبانه حتى تسربل بالدم

قال: وإنَّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبه، وإنَّ دماءه لتسيل، فقال الحصين بن نُمير ـ وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد، فولّاه عمر مع الشرطة المجففة ـ ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنى. قال: نعم. فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم، قد شئت. فبرز له، قال: وأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله، لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده فما لبثه الحرّ حين خرج إليه أن قتله... قال أبو مخنف: حدّثني نمير بن وعلة: أنّ أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله، عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشأته سهماً، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث، والسيف في يده وهو يقول:

       إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ                      أشجع من ذي لبد هزبر

 قال: فما رأيت أحداً قطُّ يفرى فريه. قال: فقال له أشياخ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله، ما أنا قتلته ولكن قتله غيري... لـمّا قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسيناً، وقال عند ذلك: احتسب نفسي وحماة أصحابي. قال: وأخذ الحرّ يرتجز ويقول:

 

            آليــت لا أُقتـــل حتى أقتــلا                ولن أُصـاب اليـوم إلّا مـقـبلا

            أضربهم بالسيـف ضـرباً مقصلا                      لا نــاكـلاً عـنـهم ولا مـهـللا

وأخذ يقول أيضاً:

            أضرب في أعراضهم بالسيف              عن خير مَن حلَّ مِنى والخيف

 

فقاتل هو وزهير بن القين قتالاً شديداً، فكان إذا شدَّ أحدهما فإنَّ استلحم شدَّ الآخر حتى يُخلّصه، ففعلا ذلك ساعةً. ثمَّ إنَّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل...»([44]).

وإلى هنا أنهى الحرّ مهمّته الحقيقية بعاقبة الخير، وهي شهادته بين يدي إمامه الحسين عليه السلام، فسلام عليه يوم وُلِدَ ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً.

الجهة الثالثة: محلّ الدفن

أمّا مرقده الطاهر، فهو على بعد بضعة أميال من مرقد الإمام الحسين عليه السلام، في منطقة سُمّيت بعد ذلك باسمه، وهي منطقة الحرّ في كربلاء المقدّسة نسبة إليه.

والدليل على محلِّ دفنه الحالي فيه كلام وأقوال، وقد أسعفنا فيها جناب الشيخ الفاضل عامر الجابري في كتابه دفن شهداء واقعة الطفّ، وهي دراسة تاريخية تحليلية عن دفن شهداء الطفّ ورمزية الدفن؛ حيث ذكر الآراء الخاصّة بمحلّ ضريح الحرّ بن يزيد الرياحي وكيفية دفنه، أمّا في موقع الضريح، فقد اعتمد في ذلك على قول السيّد المقرّم في كتابه العباس عليه السلام، والذي بدوره اعتمد في ذلك على أمرين:

 الأمر الأوّل: شياع ذلك بين الشيعة والعلماء والمتدينين من أهل الملّة والمذهب.

 والثاني: مصادقة الشهيد الأوّل على ذلك، وتوافق الشيخ النوري معه، وكذلك قول المجلسي في البحار، وقصة الكرامة التي ظهرت في زمن الشاه إسماعيل([45])، وكلّ هذه المصادر تابعة للمتأخرين من العلماء الأعلام.

 أمّا ما شذَّ عن هذه الآراء، فهو ما نُقل في البحار: من أنَّ الحرّ نُقل ووضع بين يدي الحسين عليه السلام، واستنتج السيّد المقرّم من هذا القول أنّه مدفون مع الأصحاب ضمن الحائر الحسيني؛ فقال: «... تقدّم في نقل البحار أنّ الحرّ الرياحي حُمل من الميدان ووضع أمام الحسين عليه السلام، وعليه؛ يكون مدفوناً في الحائر الأطهر»([46])، إلّا أنَّ ما توصل إليه السيّد المقرّم مَّما نُقل في البحار، وهو ممَّا لا يمكن القطع به، ولم يقطع به السيّد المقرّم نفسه، حيث يستدرك، فيقول في الصفحة نفسها: «...ولكن في الكبريت الأحمر: ج3، ص124، جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: أنّ السجّاد دفنه في موضعه، منحازاً عن الشهداء، وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء؛ لئلا يوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويقال: إنّ أُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشهداء»([47])، أي: إنَّّ هناك ثلاثة آراء لكيفية دفنه بحسب ما نقل السيّد المقرّم:

الأوّل: هو أنّ الحرّ (رضوان الله عليه) مدفون في الحائر الشريف، ولم يرتضِ السيّد هذا الرأي، وقد قوّى الرأي الثالث.

 الثاني: وهو أنَّ الإمام السجاد عليه السلام هو مَن أمر بدفنه في هذا الموضع بعد أن أراد بنو أسد نقله ودفنه مع الأصحاب، فأمرهم بدفنه في موضعه.

 والثالث: إنّه قُتل في هذا الموضع أصلاً ـ أي: الموضع الحالي ـ ولم يُنقل؛ لتسليمنا برواية السيّد الجزائري التي أشار إليها السيّد المقرّم؛ لأنَّ هذا يعني أن ساحة القتال كانت واسعة جداً، وهذا ما لا يمكن التفصيل به حاليّاً لخروجه عن مراد البحث، إلّا أنَّه من المواضيع المهمّة التي يمكن أن تكون نقطة بداية لدراسة واقعة الطفّ وفق منظور وقواعد إسلاميّة عامّة، وهذا ما يطول الكلام فيه فلنُرجئه إلى فرصةٍ أُخرى.

 

 الكاتب: السيد شهيد طالب الموسوي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السادس

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[28]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص302.

[29]    البكري، عبد الله بن عبد العزيز، معجم ما استُعجم: ج2، ص446.

[30]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص 389.

[31]    الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص 218.

[32]      الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص303ـ 304.

[33] المصدر السابق: ج4، ص308.

[34]    المصدر السابق: ج4، ص309.

[35]    المصدر السابق: ج4، ص 292.

[36]    ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص 34.

[37]      البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص260.

[38]    ابن أبى جمهور، محمد بن علي، عوالي اللآلئ: ج1، ص 81 ـ 82.

[39] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص324 ـ 325.

[40]  اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص99ـ 100.

[41]  اُنظر: ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص44.

[42]    اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص 14.

[43] اُنظر: الدينوري، أبو حنيفة، الأخبار الطوال: ص 251 ـ 256.

[44]    الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص303ـ 336.

[45]    الجابري، عامر، دفن شهداء واقعة الطفّ: ص93ـ 95.

[46]    المقرَّم، عبد الرزاق، العباس عليه السلام: ص261.

[47] المصدر السابق.

 

المرفقات