منذ عقود من الزمن مضت واهالي كربلاء المقدسة يبنون (التكيات) استقبالاً لشهر محرم الحرام لتعطي للمدينة شكلا يختلف عما كان عليه قبل شهر محرم الحرام ، لتنتشر هذه (التكيات) في جميع انحاء المدينة المقدسة ويتم تزينها بالخزفيات والتحفيات ذات الالوان المخلتفة.
والقارئ لتاريخ كربلاء الثقافي والحراك الاجتماعي فيها قد يعرف الاصل التأريخي لهذه المظاهر المعبرة عن ثقافة متجذرة وموغلة في القدم ، ولكن يبقى التساؤل قائما لدى الكثيرين ممن لم يسعفهم الوقت لتصفح ما ضمته صفحات تاريخ كربلاء عن (التكيات)، وللوقوف على البعد الدلالي والتاريخي والثقافي لهذه التشكيلات كان لـ(الموقع الالكتروني للعتبة الحسينية المقدسة) هذه الجولة في رحاب التاريخ الكربلائي لاستكشاف خفايا وابعاد تلك الموروثات القائمة حتى يومنا هذا .
تاريخ (التكية)
المؤرخ الحاج سعيد رشيد زميزم مسؤول شعبة التوثيق في العتبة الحسينة المقدسة حدثنا عن تاريخ تلك (التكيات) قائلاً ":يعود تأريخ التكيات الى القرن الثامن او التاسع عشر الميلادي اي بحدود سنة 1800 فما فوق لان في هذا القرن مُنع اهالي كربلاء من اقامة التكيات فأخد ابناء المدينة اقامتها في البساتين والسراديب وفي هذه الفترة استبدل الوالي العثماني الذي امر بمنع اقامة المراسيم الحسينة وحل مكانة الوالي العثماني علي رضا وكان من اتباع البكتاشية وهي احد فرق الشيعة التي تقطن في البانيا ومقدونيا وكوسوفو ويوغسلافيه والبوسنة والهرسك وتركيا, وتوجه هذه الوالي الى بغداد ليتسلم الحكم فيها وقد شكل الشيعة في النجف والكاظمية وكربلاء وفداً لاستقبال هذا الوالي لانهم يعلمون بأنه من اتباع اهل البيت عليهم السلام وابلغوه بمطالبهم المتمثلة بإقامة الشعائر الحسينة فأمر الوالي منذ ذلك الحين بإقامة مراسيم العزاء بالاماكن العامة كما قام الوالي نفسة بإهدائهم بعض الثريات، مشيرا الى ان هذا الامر ارخته المصادر التي تحدثت عن تاريخ كربلاء.
اقدم التكيات في كربلاء
وعن اقدم التكيات التي كانت تبنى في كربلاء المقدسة فقد قال زميزم اول تكية هي التكية الحيدرية وتكية محلة العباسية وتكية محلة باب الخان وتكية محلة المخيم ثم تطورت شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن حتى اصبحت محل تجمع المواكب للتوجه الى العتبتين المقدستين لاحياء ايام محرم الحرام.
وقد اختلف السيد يوسف الغريفي صاحب تكية ابي الحسن والحسين بتحديد تاريخ اول تكية بنيت في كربلاء فيذكر ان تكية الترك التي تأسست سنة 1931هي الاولى الا ان التكية تلك وبعد زمن انقسمت الى الهيئة الزينبية والحيدرية وغيرها من الهيئات اما الثانية فهي هيئة الرياحي ثم ازداد عدد التكيات الحسينة ليصبح على عدد اطراف المدينة القديمة وهي طرف باب الخان والمخيم وباب السلالمة وباب بغداد والعباسية اما في ذلك الوقت فقد اصبح العدد اكثر من 450 بين هيئة وتكية .
البعدُ الدلالي (للتكية)
وعن استخدام الثريات في تزيين التكية اجاب الغريفي ان الغرض الذي من اجله تستخدم هذه الثريات لتعطي اعتبارات عدة منها الانارة ودليل على ان الموكب بدأ بالتجمع للخروج بالمواكب المعزية بالاضافة الى انها تعطي انطباعا لدى المشاهد عن الجمالية والذوق الرفيع الذي تتمتع به هذه التكية ومع مرور الزمن ونتيجة التطورات التي حدثت تحولت هذه المشاعل الى ثريات للتزين.
وفي سياق متصل قال الحاج حسن سلمان محمد مسؤول تكية قمر بني هاشم ان ببناء تكيتهم تم منذ اكثر من 45 عاما بالاضافة الى تهيئة الطعام من اول شهر محرم الى نهايته فضلا عن توفير اماكن لراحة الزائرين الذين يفدون الى مدينة كربلاء المقدسة في الزيارات المليونية معرباً عن اعتزازه بتقديم هذه الخدمات لزائري سيد الشهداء عليه السلام.
خلاصة لابد منها
تشير بعض المصادر الى ان كلمة التكية الكلمة التركية المسايرة للخانقاه(الخانات) وللزاوية ، ويرجعها البعض إلى الفعل العربي "اتكأ" بمعنى استند أو اعتمد، خاصة أن معاني كلمة "تكية" بالتركية تعني الاتكاء أوالاستناد إلى شيء للراحة والاسترخاء. ومن هنا تكون التكية بمعنى مكان الراحة والاعتكاف وقد اشار القران الكريم الى هذا المعنى في سورة يوسف الاية 31 :" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ" يوسف 31. وعن المتكأ الوارد في الاية فقد قال ابن عباس: هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام.
ونخلص من هذا المعنى اللفظي لتلك الكلمة ان التكية هي مكان لاستقبال الزائر الوافد الى الامام الحسين واخيه ابي الفضل العباس عليهما السلام زيادة على ان معنى الاعتكاف الوارد في المعنى اللغوي يحوي دلالة على ان القائم على اقامتها قد اعتكف حزنا على مصيبة ابي الاحرار واهل بيته عليهم السلام وقد اعد لاعتكافه متكأً طيلة شهري محرم الحرام وصفر،الذين يعدان شهري حزن وألم على المسلمين لاسيما شيعة اهل البيت عليهم السلام اذ ان في هذين الشهرين وقعت اشد حادثة في حق الرسالات السماوية والمتمثلة باستشهاد الامام الحسين عليه السلام على ايدي الطغاة والجبابرة ممن عاثوا في الارض فسادا وتقتيلا وتحريفا للديانة السماوية الخاتمة. ومن هنا فان اهل كربلاء يعدون تلك التكيات ايذانا بمقدم شهر محرم الحرام وذكرى تلك الفاجعة الاليمة فهم معتكفين حزنا تاره وخدمة للزائر ونصرة للمذهب الحق مذهب محمد وال محمد صلى الله عليه وعليهم اجمعين ولعن اعداءهم الى يوم الدين من الاولين والاخرين.
مصطفى ملا هذال
اترك تعليق