الجهاد ... في نهج البلاغة

  يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في [نهج البلاغة]:

  « أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصِّغَارِ وَالْقَمَائَةِ ـ أي ذُلِّل بالصّغار والإهانة ـ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ ـ الثّرثرة ـ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْييعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ ـ أي كلف المشقّة ـ وَمُنِعَ النَّصَفَ »(1).

  أهمية الجهاد:

  إنَّ من يطّلع على مصادر التشريع الإسلامي من الـكتاب والسّنة يجد فيهما تركيزاً كبيراً واهتماماً ضخماً بموضوع الجهاد..

  ففي القرآن الـكـريم ما يُقارب (40 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ الجهاد ومشتقاته، كقوله تعالى:

  { يَا أَيُّهَا النَّبيُ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيهِم }(2) .

  { إنْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبيلِ الله }(3) .

  { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }(4) .

  وهناك أكثر من (100 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ القتال ومشتقّاته كقوله عزّ وجلّ:

  { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ إِيمانَ لَهُم }(5) .

  { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتنةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله}(6) .

  { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }(7) .

  بالإضافة إلى مجموعة من الآيات تتحدّث عن الجهاد بلفظ الغزو والحرب والشّهادة ومشتقّاتها.

  بينما لا نجد في القرآن الحكيم عن الحجّ إلاّ (8 آيات) فقط، وعن الخُمس آية واحدة لا غير، وعن الصّوم (10 آيات) تقريباً.

  وحينما نرجع إلى السّنة المطهّرة نجد مئات الأحاديث والنُّصوص تركّز على موضوع الجهاد وتقرّر بصراحة: أنّ الجهاد أهمّ وأفضل من جميع الأعمال والعبادات الأخرى.

  فعن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): « فَوقَ كُلِّ ذِي بِرٍ برْ حَتَّى يُقْتَل فِي سَبيلِ اللهِ فَإذَا قُتِلَ فِي سَبيلِ اللهِ فَلَيْسَ فَوْقَه بر »(8) .

  ويقول الإمام محمد الباقر (عليه السّلام): « الْجِهَادُ الَّذِي فَضَّلَهُ الله عَزَّ وَجَلّ عَلَى الأَعْمَالِ وَفَضَّل عَامِلَه عَلَى العُمّالِ تَفْضِيلاً فِي الدَّرَجَاتِ وَالْمَغْفِرَة »(9) .

  وفي مصدر واحد فقط من مصادر الحديث هو كتاب [وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشَّريعة] نجد (1223حديثاً) عن الجهاد وفضله وأحكامه وما يتعلَّق به.

  وإذا ما قُمنا بجولة عابرة في ربوع[نهج البلاغة]، فسنرى أنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يعطي للجهاد مكانة خاصّة، ويرفعه إلى أعلى مستوى من الأهمية والتّقدير، ويمنحه أعظم الصّفات، حيث يقول (عليه السّلام): « الْجِهَادُ عِزُّ الإسْلام »(10) .

  « الله. الله، فِي الْجِهَادِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُم وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ الله »(11) .

  « وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلاَ تَأْخُذَكَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ »(12) .

  « إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، فَإنَّهُ ذُرْوَةُ الإِسْلامِ »(13) .

  وكان المسلمون الأوائل والجهاد يشكّل جزءاً لا ينفصل من حياتهم العملية. فكانوا يرون فيه طريقاً سريعاً ومختصراً إلى الجنّة فينتظر كلّ واحد منهم فرصته الغالية في الجهاد فـي سبيل الله ويتاسبقون إليه ويستبشرون به.

  فهذا حنظلة بن أبي عامر، وقد أنفق شبابه في العمل والكدح، حتى جمع له مبلغاً من المال ليتزوّج به، وفي أوّل ليلة من زواجه، وقد بدأ يقطف ثمرة أتعابه، ويعيش في ربيع أحلامه وأمانيه، سمع منادي الجهاد عند الفجر وأطلّ من نافذة داره، فرأى المسلمين يحثّون السّير، ويركضون ملبّين داعي الجهاد، فما كان منه إلاّ أن أسرع للخروج قبل أن يغتسل غُسل الجنابة، وحاولت زوجته مقاومته ومنعه واستثارة عواطفه، ودغدغة مشاعره، ولكنّه رفض البقاء، وأصرّ على الخروج، فاستشهد في صبيحة يوم عرسه.

  فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « إِنَّ صَاحِبَكُم -يعني حنظلة- لَتَغْسِلُهُ الْمَلائِكَة ». فسألوا أهله: ما شأنه؟! فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب سمع الهاتفة »(14) .

  وهذا عمرو بن الجموح، وقد قطعت السّنين شوطاً كبيراً من عُمره وأصيب في إحدى الغزوات في رجله فصار أعرجاً، ولكنّه رغم ذلك حينما سمع منادي الجهاد، ورأى أولاده الأربعة يتجهّزون للخروج لم تسمح له نفسه بالتخلُّف رغم معارضة أولاده وزوجته، فخرج مهرولاً يقول: أريد أن أطأ بعرجتي الجنّة.

  فأراد أهله وبنوه حبسه، وقالوا له: إنّ الله عزّ وجلّ قد عذرك. ولم يقتنع بمقالتهم، وأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

  فقال (صلى الله عليه وآله): أمّا أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك. ثمّ قال لبنيه وقومه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعلّ الله يرزقه الشّهادة. فخلّوا عنه، وخرج وهو يقول: اللهمّ أرزقني الشّهادة ولا تردّني إلى أهلي. وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة « أحد » العظيمة ومن قصصها الرائعة، فقد كان يحمل على الأعداء وهو يقول: أنــا والله مُشتاق إلى الجنّة. وابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً(15) .

  والقاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولم يَكُ عمره يتجاوز الرّابعة عشرة يتقدّم إلى عمّه الحسين ليلة عاشوراء، وبعد أن أخبر الإمام أصحابه بالمصير الّذي ينتظرهم صباح عاشوراء، وهو الشّهادة في سبيل الله حيث قال لهم: يا قوم إنّي غداً أُقتل وتقتلون كلّكم معي ولا يبقى منكم واحد. فقالوا: الحمد لله الّذي أكرمنا بنصرك وشرَّفنا بالقتل معك.. وهنا تقدّم القاسم لعمّه الحسين(عليه السلام) قائلاً: وأنا فيمن يُقتل؟ وقبل أن يجيبه الإمام سأله: يا بني كيف الموت عندك؟ فأجاب القاسم فوراً: يا عمّ أحلى من العسل » .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  (1) [نهج البلاغة]: (الخطبة رقم: 27).  (2) سورة التّوبة: (الآية: 73).  (3) سورة التّوبة: (الآية: 41).  (4) سورة النّساء: (الآية: 95).  (5) سورة التّوبة: (الآية: 12).  (6) سورة الأنفال: (الآية: 39).  (7) سورة آل عمران: (الآية: 169).  (8) [الكافي]: الكليني الرازي: (ج5/ص53).  (9) [الكافي]: الكليني الرازي: (ج5/ص3).  (10) [نهج البلاغة]: (قصار الحكم رقم: 252).  (11) [نهج البلاغة]: (الكتاب رقم: 47).  (12) [نهج البلاغة]: (الكتاب رقم: 31).  (13) [نهج البلاغة]: (الخطبة رقم: 110).  (14) [السيرة النبوية]: ابن هشام (ج3/ص25)، دار الجيل ـ بيروت.  (15) [سيد المرسلين]: الشيخ جعفر السبحاني (ج2/ص174)، الطبعة الأولى، مؤسسة النّشر الإسلامي ـ قم.