ثنائية التطرّف الأُموي والاعتدال الحسيني (ج 2: الاعتدال والوسطيّة)

المحور الثاني: الاعتدال والوسطيّة

 

بعد أن اتّضح معنى التطرّف في اللّغة والاصطلاح، ومظاهره وأسبابه، سنتناول في هذا المحور الاعتدال والوسطيّة، اللذين يقابلان التطرّف باعتبارهما المنهج الإسلامي الذي رسمه القرآن الكريم والسنّة المطهّرة قولاً وفعلاً. وعليه؛ نتطرّق في هذا المحور إلى عدّة موضوعات:

 

أوّلاً: معنى الاعتدال والوسطيّة

 

الاعتدال والوسطية لغةً: جاء في المعجم الوسيط: (اعتدل): توسّط بين حالتين في كم، أو كيف، أو تناسب. يقال: ماء معتدل: بين الحار والبارد. وجو معتدل: بين الحرارة والبرودة. وجسم معتدل: بين الطول والقصـر، أو بين البدانة والنحافة[22].

 

وجاء في المصدر نفسه: (الوسط):

 

1ـ وسط الشيء: ما بين طرفيه وهو منه.

 

2ـ المعتدل من كلّ شيء. يقال: شيء وسط: بين الجيّد والرديء.

 

3ـ ما يكتنفه أطرافه ولو من غير تساوٍ.

 

4ـ العدل[23].

 

إذاً؛ الاعتدال: التوسّط بين حالتين. والوسط: المعتدل، فهما كلمتان مترادفتان.

 

وفي الاصطلاح: لم نعثر على تعريف اصطلاحي خاصّ بالاعتدال والوسطيّة يُغاير المعنى اللُّغوي المتقدّم، وعليه يمكن أن نقول: إنَّ الاعتدال والوسطيّة ما يقابل التطرّف، أي: لا إفراط ولا تفريط، فالوسطيّة والاعتدال في التفكير والسلوك هو المعنى المقصود هنا.

 

ثانياً: الإسلام دين الاعتدال والوسطيّة

 

إنَّ الدين الإسلامي يدعو إلى الوسطيّة والاعتدال في جميع تشريعاته، كما يظهر ذلك جليّاً من خلال مراجعة القرآن الكريم، وملاحظة سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، فكلّ تشريع في الكتاب العزيز، أو على لسان أهل بيت العصمة عليهم السلام ، هو آية الاعتدال والوسطيّة.

 

والحقيقة أنَّ هذا الموضوع ـ وسطيّة الإسلام ـ من المواضيع المهمّة التي تحتاج إلى بحث مفصّل، تُستقصى فيه الآيات الكريمة، وتُصنّف بشكل تتّضح معه معالم الاعتدال والوسطيّة، وهكذا أحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام .

 

ولكن من المناسب الإشارة فيما يلي إلى بعض الشواهد القرآنيّة الدالّة على ذلك، وقد سبق أن أشرنا إلى بعضٍ منها في طيّات المحور الأوّل:

 

الشاهد الأوّل: القصاص في الإسلام

 

من الواضح أنَّ الإسلام قد جعل للمجني عليه أولولية حقّ القصاص من الجاني، ولكن بشرط أن لا يخرج بذلك عن حدود الحقّ، وإليك بعض الآيات:

 

1ـ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا  ﴾[24]؛ والمقصود من قوله: ﴿ لَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ﴾ أن لا يتجاوز حقّه، فلا يقتل غير الجاني.

 

2ـ قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ َ﴾[25].

 

3ـ قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾[26].

 

4ـ قال تعالى: ﴿ لشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ...﴾[27]

 

5ـ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[28].

 

ولعلّ هناك آيات أُخرى يجدها الباحث، وهي تُشير جميعاً إلى وسطيّة القصاص وعدالة تشـريعه، بحيث لا يُسمح لصاحب الحقّ أن يأخذ أكثر من حقّه، بعد ملاحظة توفّر الدواعي لذلك؛ لتملّك المجني عليه أو الولي حالة من الغضب يخرج بها ـ أحياناً ـ عن دائرة الحقّ إلى دائرة التطرّف والباطل، فيخرج بذلك عن دائرة الإيمان التي تفرض على المؤمن الاتّزان والاعتدال، وعدم التعدّي، وإلى ذلك يُشير الحديث الوارد في وصف المؤمن: «إنَّما المؤمن الذي إذا غضب لم يُخرجْه غضبه من حقّ، وإذا رضي لم يُدخلْه رضاه في باطل، وإذا قدر لم يأخذ أكثر ممّا له»[29].

 

الشاهد الثاني: العدل في الإسلام

 

1ـ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾[30].

 

ففي هذه الآية يأمر القرآن الكريم بالعدل في موارد الحكم بين الناس؛ لمنع الظلم والحيف، وهما من التطرّف.

 

2ـ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ...﴾[31].

 

والآية تُفيد وجوب العدل مطلقاً، وفي جميع الأشياء، وهذا دليل واضح على أنَّ العدل من الأُسس التي بُني عليها الإسلام.

 

3ـ قال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّـهِ ۚفَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[32]. وهي تُفيد أنَّ الإصلاح إنَّما يكون وفق العدل ليأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه.

 

إلى غيرها من الآيات التي تجعل العدل أساساً يُرجَع إليه في جميع الأشياء.

 

الشاهد الثالث: الاستقامة في الإسلام

 

ومن تلك المفردات الدالّة على الاعتدال والوسطيّة هي مفردة الاستقامة، التي دعا إليها القرآن الكريم في الكثير من الآيات؛ إذ من الواضح أنَّ المقصود منها: الاعتدال وعدم الميل.

 

1ـ قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...﴾[33].

 

2ـ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ...﴾[34]. إلى غيرها من الآيات الدالّة على لزوم الاستقامة ومراعاتها.

 

الشاهد الرابع: أُسلوب الحوار في القرآن

 

1 ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[35]، فالقرآن يأمر النبي صلى الله عليه وآله أن يعتمد في مناقشته ومناظرته مع أصحاب الأديان الأُخرى على القواسم المشتركة؛ لتكون هي المنطلق للحوار والحديث.

 

2 ـ قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ  وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾[36].

 

فقد استعمل القرآن ثلاث مفردات مهمّة في كيفية الدعوة إلى الإسلام، وهي: (الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن)، وهذه المفردات من أهمّ الوسائل التبليغيّة التي يعتمدها القرآن في نشر العقيدة، فإنَّها تخاطب العقول عبر الحكمة، والنفوس عبر الموعظة الحسنة، بعيداً عن التشنّجات والتعصّبات المقيتة.

 

والشواهد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام  كثيرةً جداً، فهذه حياة النبي صلى الله عليه وآله مليئة بصور الانفتاح واللّين، والهدوء في الحوار والدعوة إلى الإسلام، حتّى صارت هذه السمة السبب الأبرز في دخول النّاس إلى الإسلام أفواجاً، وقد وصفه القرآن الكريم بما يرجع إلى هذه الصفة في جملة من آياته من قَبيل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾[37]. وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ  ﴾[38].

 

ويوم فتح مكّة أعطى لواءه لأمير المؤمنين عليه السلام  وأمره أن ينادي: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحمى الحرمة...»[39]، بعد أن كان اللواء بيد سعد بن عبادة، وكان ينادي: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة...»[40].

 

وهذا أمير المؤمنين عليه السلام  يبرز بين الصفّين في يوم الجمل ـ بعد أن تقطَّعت به أسباب الصلح والتهدئة ـ فنادى على أحد قادة الناكثين (الزبير بن العوام)؛ ليحاوره ويحادثه ويُذكّره بالعهد والميثاق والأُخوة؛ حتّى يتجنّب المسلمون الحرب والقتال. وهكذا صنع مع معاوية عندما أرسل له الرسل والكتب؛ لإقناعه وهدايته من ضلاله، وهكذا صنع مع الخوارج، والأمثلة والشواهد كثيرة.

 

وهكذا صنع الإمام الحسين عليه السلام  مع أعدائه الذين اجتمعوا على قتله؛ إذ قام فيهم خطيباً، ليُذكّرهم بحدود الله تعالى وحقوقه عليهم، ويُثنيهم عن قتله، وانتهاك حرمته. ولكنّهم أبوا إلّا قتله.

 

هذه بعض عناوين الشواهد القرآنيّة التي تدلّ بوضوح على وسطيّة الإسلام واعتداله، وهناك شواهد كثيرة جداً، لم نذكرها خوف الإطالة، ولا بأس بالإشارة إليها:

 

1ـ نهي القرآن عن مظاهر التطرّف، كالنهي عن الظلم، والبغي، والإسراف، وغيرها من مظاهر التطرّف؛ فإنَّ نهيه عنها يدلّ على اعتداله.

 

2ـ الدعوة إلى التفكير العلمي السليم، والنهي عن التقليد الأعمى.

 

3ـ الدعوة إلى التعايش السلمي بين النّاس، والنهي عن إثارة الفتنة.

 

4ـ مدح القرآن لأهل الاعتدال والاستقامة، وذمّه لأهل التطرّف والانحراف.

 

إلى غيرها من العناوين الدالّة على اعتدال الإسلام ودعوته للوسطيّة.

 

ثالثاً: ميزان الاعتدال

 

هناك سؤال مهمٌّ تلزمنا الإجابة عليه، وإلّا فلا فائدة من هذا البحث وأمثاله.

 

وحاصله: إنَّ وسطيّة الإسلام واعتداله أمر واضح يعتقد به حتّى المتطرّفون، ولكن المشكلة تكمن في تحديد الوسطيّة والاعتدال المطلوبين، فالمتطرّف لا يعتقد أنَّه متطرّف ومجانب للاستقامة، بل يعتقد أنَّه في قمة الاعتدال والوسطيّة، وأنَّ غيره هم المتطرّفون والمنحرفون.

 

وعليه؛ نحن بحاجة إلى الضابطة التي نرجع إليها جميعاً؛ لتشخيص حالات الاعتدال والتطرّف، وتمييز الموارد بعضها عن بعض، وإذا كانت بعض الموارد والحالات معلومة ومعروفة، فإنَّ هناك الكثير الكثير مما يختلط أمره على النّاس، فلا يعرفون مصداق التطرّف عن مصداق الاعتدال.

 

إذاً، هل هناك ضابطة يمكن أن نرجع إليها في تشخيص موارد الاختلاف؟

 

وقبل أن نذكر الجواب لا بأس بنقل كلام للعلّامة الطباطبائي قدس سره الذي يصلح أن يكون تمهيداً للجواب، إذ قال ما نصه: «إنَّ الكون على ما بين أجزائه من التضاد والتزاحم، مؤلَّف تأليفاً خاصّاً يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في

النتائج والآثار... فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة، وهو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخطّ لكلّ من أجزائه سبيلاً خاصّاً، يسير فيها بأعمال خاصّة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار، أو

ينحرف بإفراط أو تفريط، فإنَّ في الميل والانحراف إفساداً للنظام المرسوم، ويتبعه إفساد غايته وغاية الكلّ، ومن الضروري أنَّ خروج بعض الأجزاء عن خطّه المخطوط له، وإفساد النظم المفروض له ولغيره؛ يستعقب منازعة بقيّة الأجزاء له، فإن استطاعت أن تقيمه وتردّه إلى وسط الاعتدال فهو، وإلّا أفنته وعفت آثاره حفظاً لصلاح الكون واستيفاءً لقوامه.

 

والإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلّية، فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدّرة له، وإن تعدّى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله سُبحانه بالسنين والمثلات، وأنواع النكال والنقمة؛ لعلّه يرجع

إلى الصلاح والسداد، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾»[41].

 

إذاً، الكون بأجمعه يقوم في نظامه على الاعتدال وعدم الإفراط والتفريط؛ وحيث إنَّ الإنسان من أجزاء الكون، فلابدّ أن يخضع لنفس النظام، وعليه فغاية بعث الرسل، وإنزال الكتب السماوية، وتشريع القوانين الإلهيّة، هو إخضاع الإنسان لقانون الاعتدال؛ ليبقى محافظاً على قوانين الكون، ولا يشذّ أو ينحرف، فإنّ شذوذه وانحرافه (تطرّفه) له تأثير على الكون، ولابدّ حينئذٍ أن ترسم الشريعة للإنسان خطّ الاعتدال الذي ينبغي له اتباعه، وفي حال انحرافه عن المسار الصحيح لابدّ أن تردعه الشريعة، بحيث تضمن رجوعه إلى خط الاعتدال المرسوم له.

 

ومن هنا نعود إلى السؤال من جديد ـ بعد أن اتّضح لنا ضرورة الوسطيّة والاعتدال، وأنَّهما من الضرورات التكوينيّة والتشريعيّة ـ ما هو الضابط في خط الاعتدال الذي رسمته الشريعة للإنسان؟

 

والجواب: لا إشكال أنَّها قد جعلت ضابطة لذلك، ولكن ما هي هذه الضابطة؟

 

حاول بعضٌ أن يُجيب على ذلك بما نصه أنَّ: «وسطيّة الإسلام تقتضـي إيجاد شخصيّة إسلاميّة مُتّزنة، تقتدي بالسلف الصالح في شمول فهمهم واعتدال منهجهم، وسلامة سلوكهم من الإفراط والتفريط...»[42].

 

وهذا الجواب يفترض جعل (السلف الصالح) ميزاناً للاعتدال والوسطيّة، يرجع إليه المسلم لتشخيص ذلك، ولكن هذا الفرض لا يُطابق الواقع إطلاقاً؛ وذلك لأنَّ اعتدال (السلف الصالح) مجرّد دعوى، والدليل اختلافهم الشديد لاسيّما بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، بل اقتتالهم واحترابهم، ومع ذلك كيف يتسنّى للمسلم الذي يقرأ في التاريخ أنَّ آلاف المسلمين قد قُتلوا في حروب طاحنة قادها السّلف الصالح ـ بل قتل السلف الصالح بعضهم بعضاً ـ أن يجعلهم ميزاناً للاعتدال والوسطيّة؟! فهذا طلحة والزبير وأُم المؤمنين عائشة، الذين هم من السلف الصالح عند صاحب القول السابق، وعند الكثير من المسلمين، قد خاضوا حرباً ضروساً مع جيش الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  الذي هو من السلف الصالح أيضاً، بل عند جميع المسلمين، وهكذا الأمر في معركة صفّين، فكيف يتسنّى للمسلم اليوم أن يعيش اعتدال العقيدة والسلوك بالرجوع إلى السلف مع هذا الاختلاف الشديد، ألا يفترض في الرجوع المذكور أن يكون (السلف الصالح) معصوماً؛ ليصلح قياس الاعتدال عليهم؟!

 

ومن هنا؛ فلابدّ أن يُفترض وجود (أُمّة وسط) معصومة لا يعتريها التطرّف والزيغ، تكون هي المرجع في تشخيص الاعتدال والوسطيّة، وهذه (الأُمّة الوسط) قد تحدّث عنها القرآن الكريم وذكر لها أوصافاً، وذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأكّد عليها في أحاديث كثيرة، سنذكر فيما يلي بعضها:

 

قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾[43]. وقد جاء في تفسيرها عدّة روايات منها:

 

1 ـ عن بريد بن معاوية العجيلي، عن الباقر عليه السلام : «نحن الأُمّة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجّته في أرضه»[44].

 

2 ـ في رواية أُخرى قال عليه السلام : «إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصّر الذي يقصّر بحقِّنا...»[45].

 

3 ـ روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب (شواهد التنزيل) بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، عن علي عليه السلام : «إنَّ الله تعالى إيّانا عنى بقوله: ﴿ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ  ﴾، فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه،

وحجّته في أرضه، ونحن الذين قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾»[46].

 

وسواء كان المراد من (الأُمّة الوسط) خصوص (العترة الطاهرة) أو الأعمّ، وهم المصداق الواضح والأبرز، فالنتيجة واحدة، إذ جعلت الآية (العترة الطاهرة) مرجعاً للوسطيّة والاعتدال التي ستشهد على النّاس.

 

إذاً، بعد ملاحظة هذه الروايات يتّضح أنَّ (الأُمّة الوسط) هم العترة، أو هي القدر المتيقّن منها، وعليه فالاعتدال والوسطيّة ينبغي أن يُقاس عليهم، فكلّ مَن يخالفهم فهو متطرّف؛ لأنَّه خالف الأُمّة الوسط؛ ومن هنا يمكننا أن نفهم المعنى الحقيقي لبعض الأحاديث، التي تجعل من أهل البيت عليهم السلام  مقياساً لتمييز الحقّ من الباطل، والإيمان من النّفاق، كقول النبي صلى الله عليه وآله في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام : «علي مع الحقّ والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار»[47]، وقوله صلى الله عليه وآله أيضاً: «يا علي، لا يحبّك إلّا مؤمن، ولا يبغضك إلّا منافق»[48]، وغيرها كثير.

هذا كلّه بلحاظ هذه الآية المباركة، وهناك آيات أُخرى لا يسع المقام لذكرها. وأمّا الأحاديث والروايات، فهي كثيرة نذكر بعضاً منها:

1 ــ حديث الثقلين

فقد تواترت الأحاديث على أنَّ النبي صلى الله عليه وآله قد قال في أكثر من مناسبة: «إنِّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله (عزّ وجلّ) وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنَّ اللطيف الخبير أخبرني أنَّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فاُنظروا بمَ تخلِّفوني فيهما». وفي رواية «إنِّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي...»[49].

 

والذي ينبغي الالتفات إليه أنَّ الحديث قد جعل (العترة) عِدل القرآن وقرينه، بحيث لا يفترقان، ومعنى ذلك أنَّ اجتماعهما علّة تامّة لحصول الهداية، وبافتراق أحدهما عن الآخر لا تُشكِّل العلّة التامّة، وعليه؛ فالتمسّك بالكتاب لوحده لا يعصم الإنسان من الضلال، فالتعبير بـ(حسبنا كتاب الله) ليس صحيحاً، ما لم ينضم إليه الثقل الآخر وهو العترة، كما أنَّ العترة لوحدها لا تكفي في حصول الاعتصام والاستقامة ما لم ينضم القرآن إليها، فالعلاقة بينهما علاقة تكاملية، والحقيقة أنَّ الحديث عن هذه النقطة يحتاج إلى توسعة تخرجنا عن الهدف من كتابة هذا المقال.

 

 

والمهم أنَّ الحديث الشريف قد جعل ميزان الاعتدال والاستقامة في الإسلام (القرآن والعترة) لا غير.

 

2 ــ حديث السفينة

 

فقد روى المحدّثون عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: «إنَّما مثل أهل بيتي في أُمّتي كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق»[50].

وقد علّق على هذا الحديث ابن حجر في صواعقه، قائلاً: «ووجه تشبيههم بالسفينة أنَّ مَن أحبّهم وعظّمهم؛ شكراً لنعمة مُشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم، نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك، غرق في بحر كفر النّعم، وهلك في مفاوز الطغيان»[51].

 

يُضاف إليه أنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في هذا التشبيه يُشير إلى قضية يقرأها في مستقبل أُمّته، وهي انقسام الأُمّة إلى قسمين: مهتدين، وضالّين، تماماً كما هو الحال في أُمّة نوح عليه السلام ، ثمَّ جعل المقياس والمرجع في تمييز

إحدى الطائفتين عن الأُخرى أهل البيت عليهم السلام ، فمَن تمسّك بهم وأخذ عنهم نجا، كما نجا مَن ركب في سفينة نوح، ومَن تخلّف عنهم ولم يأخذ منهم، فقد ضلّ، وجانب الصواب، ووقع في التطرّف والانحراف.

 

3 ــ حديث الأمان من الاختلاف

 

فقد روى المحدّثون عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله أنَّه قال: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف»[52].

 

وواضح أنَّ الاختلاف ناشئٌ من عدم الاقتداء بأهل البيت عليهم السلام ، وعدم الأخذ عنهم.

 

إذاً، ميزان الاعتدال في الإسلام القرآن الكريم والعترة الطاهرة، والخروج عن هذين الأصلين أو أحدهما يقتضي التطرّف والانحراف.

 

 

الشيخ إسكندر الجعفري

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

___________________________________________

[22] اُنظر: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط: ص588.

[23] اُنظر: المصدر السابق: ص1031.

[24] الإسراء: آية33.

[25] المائدة: آية45.

[26] الشورى: آية40.

[27] البقرة: آية194.

[28]البقرة: آية178.

[29] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص233.

[30] النساء: آية58.

[31] النحل: آية90.

[32] الحجرات: آية9.

[33] هود: آية112.

[34] فصلت: آية30.

[35] آل عمران: آية64.

[36] النحل: آية125.

[37] آل عمران: آية159.

[38] القلم: آية4.

[39] السند، محمد، الحداثة، العولمة.. في ميزان النهضة الحسينيّة: ص274.

[40] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج21، ص105.

[41] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج15، ص306.

[42] حبيب الله، صالح، (تشي شيوهى الصيني)، وسطيّة الإسلام: ص7.

[43] البقرة: آية143.

[44] الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص84.

[45] الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص627.

[46] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج1، ص417.

[47] المفيد، محمد بن محمد، الفصول المختارة: ص97.

[48] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج39، ص252.

[49] اُنظر: النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج7، ص122. الترمذي، عيسى بن محمد، سنن الترمذي: ج2، ص307. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص17، و26ص، وص59، وغيرهم كثير.

[50] الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك: ج2، ص151. والسيوطي، جلال الدين، خصائص أمير المؤمنين: ج2، ص266، وغيرها.

[51] ابن حجر الهيتمي، أحمد، الصواعق المحرقة: ص153.

[52] أخرجه عدد من المحدّثين، منهم: الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك: ج3 ص149، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه. المتقي الهندي، علي، كنز العمال: ج6، ص217، وغيرهما.

 

gate.attachment