كربلاء في مدونة السيد عباس المكي الموسوي

قراءة في نزهة الجليس ... كتاب ومعنى

إذا كان هذا الكتاب يبرهن على أنه حقيق بالقراءة والدراسة والاهتمام كونه كتاب شامل يجمع بين دفتيه المعلومة التاريخية, والقصة المعبرة, والحكمة, والعلم, والأدب, والفلسفة, والموعظة, وأدب الرحلات وغيرها, فإن مؤلفه لحقيق بأن تتعدد القراءات والدراسات حول فصول حياته الشيقة المليئة بالعلم والتعلم والأدب والتدوين والسفر.

فالكتاب منبع من منابع الأدب الإسلامي والعربي تدفق على يد علم من أعلام الأمة الإسلامية, ومفخرة من مفاخر مدرسة أهل البيت (ع), عاش حياته جوّاب آفاق لا يفتأ السفر لطلب العلم وتعليمه, فكان مدرسة متنقلة نهل منها الكثير ولا يزال كتابه يروي عنه للأجيال دروس العلم وتعلمه.

الكتاب هو (نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس) (1), أما مؤلفه فهو السيد عباس بن السيد علي بن نور الدين علي بن علي نور الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن محمد بن تاج الدين المعروف بأبي الحسن العاملي الموسوي ــــ جد السادة آل شرف الدين وآل الصدر وآل المرتضى وآل نور الدين في جبل عامل ــــ بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمزة بن سعد الله بن حمزة بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن طاهر بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) كما أثبت نسبه هذا الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل.

ولد في مكة المكرمة سنة (1110هـ) ونشأ بها, وفي سن التاسعة من عمره مات أبوه, فذاق مرارة اليتم منذ نعومة أظفاره فتولى تربيته والعناية به أخواه السيد مصطفى والسيد سلمان, ولم تذكر كتب التاريخ شيئاً عن حياته الأولى ودراسته سوى ما دوّنه هو في مذكراته ورحلاته ولقائه بأستاذه الأول السيد نصر الله الحائري في مكة المكرمة.

وبالرجوع إلى ما كتبه عن حياته وتسليط الضوء على ذلك نجد أنه عاش حياة قاسية ومريرة, فقد شاءت له الأقدار أن لا يستقر في مكان بسبب حياته المادية المتدهورة والتي دعته إلى الهجرة من موطنه وموطن آبائه والنزوح عنها والتغرّب في البلدان البعيدة.

نقطة الإنطلاق

بدأت فكرة رحلته من مكة كما يصرح هو حينما التقى فيها بالسيد نصر الله الحائري الفائزي الذي كان أول أستاذ له وذلك عام (1130هـ) وقد جاء الحائري من كربلاء لإداء فريضة الحج فأشار عليه بالسفر معه إلى العراق وحثه على ذلك وأنشده قول أمير المؤمنين (ع):

تغرّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العلى  ***   وسافرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ

تــفــرُّجُ هـــــمٍ واكــتسـابُ معيشةٍ   ***   وعلــــــمٌ وآدابٌ وصــحبةُ ماجدِ

فإن قيلَ في الأسفـــــارِ ذُلٌ ومحنةٌ   ***   وقطعُ الفيــافي وارتكابُ الشدائدِ

فموتُ الفتى خيــــــرٌ له من مقامِهِ   ***   بدارِ هــــــوانٍ بين واشٍ وحاسدِ

لقد وجد السيد عباس في السيد نصر الله ما تطمح إليه نفسه, وأثار كوامنها في الرغبة في العلم والتعلم كما صرح هو بذلك قائلا في كتابه (نزهة الجليس):

(ظفرت بجهينة الأخبار, ونادرة الفلك الدوار, من هو من غير الفضائل والمكارم بري مولانا أبي الفتح السيد نصر الله بن حسين الحسيني الحائري الفائزي, فأنشدني لسان الحال على سبيل الاستعجال:

ظفرت بالكنز فاحمل من نفائسه   ***   وقد وقفت ببحر الفضل فاغترف

فسقاني بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين وناولني راية الأدب فتناولها عرابة فكر باليمين:

ومن كان الهزارُ له دليلاً   ***   يمرُّ به على وردٍ نضيدِ

فاشتغلت بالطلب لديه ــ أسدل الله ستره الضافي عليه ــ ففتح الفتاح ومنح, وجاد لي الوقت ببغيتي, ونلت الأدب بعون رب الملا, وإن كان قد انقضى زمانه فلا ولا, وكان اجتماعي به بمكة المشرفة عام ألف ومائة وثلاثين من تاريخ هجرة خاتم النبيين).

إلى العراق

كانت سفرته هذه هي نواة أسفاره الكثيرة التي تلتها والتي تمخضت عنها الكثير من التجارب والفوائد التي صقلت شخصيته وغذّت ملكته النفسية والعلمية والأدبية فيقول عن سفره:

لم أغتربْ إلا لأكتــسب العُـــــــلى   ***   فأسقي منه كـــل ذي ظمأ سجلا

ويعلو الغمامُ الأرضَ من أجلِ أنه   ***   يسوق إليها وهي لن تبرح الوبلا

إذا ما قضتْ نفسي من العز حاجة   ***   فلست أبالي الدهر أملى لها أم لا

ورغم أنه يعز عليه أن يفارق بيت الله الحرام ومآثر أجداده العظام:

بلاد نيـــــطت عليّ تمائمي   ***   وأول أرض مسّ جلدي ترابها

لكنه يتأسى برسول الله (ص) حينما تعرّض لأذى المشركين فهاجر منها إلى المدينة المنورة, كما يتألم من غدر الزمان الذي من شأنه محاربة النفوس الأبية أمثاله:

هذا الزمان على ما فيه من كدرٍ   ***   حكى انقـــلاب ليــاليه بأهليه

غدير مــــــاءٍ تراءى في أسافله   ***   خيال قومٍ تمشّــوا في نواحيه

فالرجل تنظـــر موفوعاً أسافلها   ***   والرأس ينظر منكوساً أعاليه

وكان مما ينكأ جراحه ويزيدها إيلاماً انه تعرّض للأذى من أقرب أقربائه حسب قوله:

(وبليت فيه بأقارب هم في الحقيقة كالعقارب, وأصحاب وأخوان أشد أذية من الثعبان):

 

وأخوان اتخـــذتهم دروعـاً   ***   فكانوها ولكن للأعـــــــادي

وخلتهم سهاماً صـــــائبات   ***   فكانوها ولكن فـــــي فـؤادي

وقالوا قد صفت منا قلـوب   ***   لقد صدقوا ولكن عـن ودادي

وقالوا قد سعينا كل سعــيٍ   ***   لقد صدقوا ولكن في فســادي

هذه كانت معاناته في بلاده والتي اضطرته الى مغادرتها وقد وجد في أستاذه الأول نصر الله الحائري من العطف والمودة ما جعله يتشوّق إلى السفر, ويتأهب له وكانت رحلته الأولى بعد انقضاء موسم الحج عام (1131هــ) مع السيد الحائري إلى العراق وبالتحديد إلى النجف الأشرف, وقد لاقى في هذه المدينة من الحفاوة والتكريم ما جعله يسلو عن أهله وموطنه وكان نزوله في دار الشيخ إبراهيم الخميسي فأقام مدة شهر اجتمع خلالها بالعلماء الأعلام في هذه المدينة كما اجتمع بحاكم النجف يومئذ السيد مراد بن السيد أحمد.

ويصف السيد عباس رحلته هذه وإقامته وصفاً مسهباً مسجّعاً لكن لا يخفى إنه قد ألم بدقائق الأمور في رحلته وهو ما يجعلها ذات قيمة تاريخية.

في كربلاء

وفي نفس العام زار كربلاء فأقام فيها لمدة شهرين وعن رحلته هذه قال يصفها (2):

(فلما أسفر الصباح عن وجه الهنا والانشراح رابع ربيع الأول عام (1131هـ) توكلنا على الرب العلي ورحلنا من مشهد علي (ع) قاصدين زيارة الشهيد المدفون بكربلاء الحسين بن علي (ع) ومن معه من الشهداء الصابرين.

ففي خامس الشهر المذكور أتينا على الموضع الذي يسمى بالخان الأخير ومررنا في طريقنا بقبر النبي ذي الكفل (ع) فزرنا وبلغنا المرام وفي سادس الشهر دخلنا أرض الحائر مشهد الحسين الطاهر سلام الله عليه وعلى أخيه وعلى جده وأبيه وأمه وبنيه وسائر مواليه ومحبيه).

ثم قال يصف الضريح الطاهر:

(فتشرفت والحمد لله بالزيارة ولاح لي من جنابه الشريف إشارة فاني قصدته لحال وما كل ما يعلم يقال وقرّت عيني بزيارة الشهيد علي الأصغر بن مولانا الحسين الشهيد الأكبر وزيارة سيدي الشهيد العباس بن علي بن أبي طالب (ع).

وصف الضريح المقدس

وصف السيد عباس الموسوي ضريح الإمام الحسين بالقول: (وأما ضريح سيدي الحسين فبه جملة قناديل من الورق (3) المرصّع, والعين (4) ما يبهت العين, ومن أنواع الجواهر الثمينة ما يساوي خراج مدينة, وأغلب ذلك من ملوك العجم وعلى رأسه الشريف قنديل من الذهب الأحمر, يبلغ وزنه مّنّين (5) بل أكثر, وقد عقدت عليه قبة رفيعة السماك متصلة بالأفلاك, وبناؤها عجيب صنعه حكيم لبيب ...) ثم يسترسل في وصف الضريح ومحتوياته بأسلوب دقيق.

المدينة

وعندما يصل إلى وصف المدينة يقول:

(وقد أقمت شهرين بمشهد مولاي الحسين (ع) بلدة من كل المكاره جُنة كأنها من رياض الجنة, نخيلها باسقات, وماؤها عذب زلال من شط الفرات, وأقمارها مبدرة, وأنوارها مسفرة, ووجوه قاطنيها ضاحكة مستبشرة وقصورها كغرف من الجنان مصنوعة فيها سُرر مرفوعة وأكواب موضوعة وفواكهها مختلفة الألوان, وأطيارها تسبح الرحمن على الأغصان, وبساتينها مشرقة بأنواع الورود والزهور وعرف ترابها كالمسك ولونه كالكافور ..).

وقال يصف أهلها:

(وأهلها كرام أماثل ليس لهم في عصرهم مماثل, لم تلق فيهم غير عزيز جليل, ورئيس صاحب خلق وخلق جميل, وعالم وفاضل وماجد عادل, يحبون الغريب ويصلونه من برهم بأوفر نصيب ..)

ثم يرد الموسوي على ابن أياس الحنفي في كتابه (نشق الأزهار في عجائب الأقطار) عليه قوله في ذم أهل كربلاء بالقول: ولا تلتفت إلى قول ابن إياس في نشق الأزهار بأنهم من البخلاء الأشرار فلله خرق العادة فإنهم فوق ما أصف وزيادة). ثم يقول:

هيّنون ليّنون أيــــــــــسارٌ ذووا كرمٍ   ***   سواس مكــــــــــرمةٍ أبنـــاءُ أيسارِ

ان يُسألوا الحقَّ يعـــطوه وان خبروا   ***   في الجهدِ أدركَ عــنهم طيبُ أخبارِ

لا ينطقـــــون عن الفحشاءِ إن نطقوا   ***   ولا يمـــــــــارونَ إن مـاروا بإكثار

فيهم ومنــــــــــــــهم يعدُّ المجدُ متّلداً   ***   ولا يعــــــــــــــد ثنا خزيٍّ ولا عارِ

من تلقَ منهم تــــــــقلْ لاقيتَ سيَّدَهم   ***   مثل النجومِ التي يسري بها الساري

وعن ابن إياس وكتابه يقول السيد محمد مصطفى الكليدار: يوجد هذا الكتاب ــ أي نشق الأزهار ــ في مكتبة جامع الأزهر بالقاهرة تحت رقم (6639) وقد فرغ من تأليفه سنة (922هـ) يقول في صفحة (109) عند ذكر كربلاء ما يلي: (وهذه بليدة صغيرة بأرض العراق وبها قتل الحسين بن علي (ع) وأهلها أهل شر وفتن وبها دفنت جثة الحسين) (6)

وهذا الكلام من قبل ابن أياس لا يُلتفت إليه بحال ولا يؤبه به فقائله من عُرف بأكاذيبه ومضحكاته وهو صاحب كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) والذي ملئ بالأساطير والخزغبلات والخرافات.

الرحلة شعراً

من مميزات رحلة السيد عباس الموسوي أنها قد أشبِعت بالوصف الدقيق وأن تفاصيلها قد تخللتها الأشعار وكان يختار الأشعار وينتقيها لتدوينها في رحلته وقد ذكر في رحلته إلى كربلاء أرجوزة الحر العاملي ــ محمد بن الحسن بن علي ــ صاحب كتاب وسائل الشيعة وأمل الآمل وهذه الأرجوزة ضمت سيرة حياة الإمام الحسين وذكر أولاده وبناته وزوجاته ومعجزاته وفضائله واستشهاده في كربلاء وقد وضع لها السيد عباس الموسوي مقدمة يقول فيها:

للهِ أيامٌ مضـــــــــــــــــــتْ بكربلا   ***   محروســـةٌ من كـلِّ كربٍ وبـلا

بمشهدِ الطهرِ الحســــينِ ذي العلا   ***   ونسلِ خيرِ الخـلقِ في كلِّ الـملا

فحفّني بجــــــــــــــــــــودِهِ تفضّلا   ***   ونلتُ ما كـنــــــــــتُ له مـُؤمِّلا

مَن زارَه بالصــــــــدقِ فيه والولا   ***   يعودُ محبـوراً بلا شــــــــكٍّ ولا

فاسمعْ لما قدْ قال ذو الفعلِ الحَسِنْ   ***   محمدُ الحـرُّ الأصيلُ ابن الحسنْ

قد أرّخْ المـــــــــــــولدَ في رجيزَه   ***   مفيـــــــــــــــــــدةٍ جليلةٍ وجيزَه

فقالَ في ذكرِ الحسيـــــــنِ بن علي   ***   نظماً بديعَ القولِ كالصبحِ الجلي

وكيفَ لا وهو الإمـــــــــام الرحله   ***   نجلُ ثقـــــــــــــــــاتٍ قادةٍ أجلّه

خادمُ شرعِ المصطفى والمــــذهبِ   ***   الطيّبُ ابن الطيـــبِ ابن الطيبِ

من ذكره في العُرْبِ ســارٍ والعجمْ   ***   والشامِ والــرومِ إلى أقصى إرمْ

بالفضلِ والتقوى مع العفـــــــــافِ   ***   والبرِّ والإحســـــــانِ والألطافِ

عليه من ربِّ العبـــــــــادِ الرحمة   ***   تعمّـــــــــــــــــــه ولجميعِ الأمّة

فاسمع فهذا قوله المفيــــــــــــــــدُ   ***   قد قالَ وهوَ الفــــــــاضلُ المجيدُ

ثم يذكر أجوزة الحر العاملي وهي:

واسمعْ وقيتَ صــــــولةَ الحوادثْ   ***   نظميَ تــــــــــاريخَ الإمامِ الثالثْ

روحي الفداء للحسيـــــن بن علي   ***   ذي المجدِ والسؤددِ والقــدرِ العلي

مولدُه في عـــــــــامِ أربـعٍ مضتْ   ***   في شهرِ شعبـــانٍ لخمسٍ إنقضت

يومُ الخميسِ سيّــــــــــدي قد ولدا   ***   قيلَ بل الســـــــــابعُ كــان المولدا

وقيل في عامِ ثـــــــــــلاثٍ فاعقلِ   ***   آخر يــــــــــــــومٍ من ربيعِ الأوّلِ

يكنى بعبد الله وهــــــــــــوَ السبط   ***   لم يك مثــــــــــــــــــــله كريم قط

نسبه من أشــــــــــــرفِ الأنسابِ   ***   حَسَبُـــــــــــــه من أكرمِ الأحسابِ

نصّ عليه بالإمــــــــــــامة النبي   ***   فياله من فضــــــــــــلِ مجدٍ عجبِ

وبعده أبـــــــــــــــــــــوه وأخـوهُ   ***   ونال ذاكَ بعـــــــــــــــــــــده بنوهُ

خيرُ الورى في العلمِ والــــزهادة   ***   والفضلِ والحــــــــلمِ وفي العبادة

كرمه وجـــــــــــــــــــوده قد بلغا   ***   ما لم يحط به مقــــــــــــــامُ البلغا

ولذّة الكرامِ فــــــــــــــي الإطعامِ   ***   ولذّةِ اللئــــــــــــــــــامِ في الطعامِ

فاقَ الورى في الجـودِ والسـماحة   ***   والمجدِ والكمــــــــــالِ والفصاحة

أولاده ستٌ وقيـــــــــــــــلَ عشرُ   ***   وقيلَ تســــــــــــعٌ فانقـدوه وادروا

منهم علي بـــــن الحسيـن الأكبر   ***   ثم عـــــــــلي بن الحسـين الأصغر

فالأوّلُ ابن بــــنت كسـرى الملكِ   ***   ولم يكن في ديـــــــــــنه بالمشركِ

والثاني من ليــلى الفتــاة فاعرفِ   ***   بنت أبـــــــــــــي مرّة أعني الثقفي

وجعفرٌ والأمُ من قضـــــــــــاعة   ***   كانت على ما نقــــــــــــل الجماعة

سكينة أختٌ لعبــــــــــــــــــدِ الله   ***   فاحفظ وفكّر لا تـــــــــكن كاللاهي

من الربابِ الحُـــــــــــــرَّةِ الأبيّة   ***   بنت امرئ القيس الفـــــتى الكلبية

وفاطمٌ وأمـــــــــــــــها في القوم   ***   بنتٌ لطلــــــــــــحة الشهير التيمي

قيل ومــــــــــــن أخــوتهم محمدْ   ***   علي الأوســـــــــــــط وهو الأسعدْ

وذاك زين العابديـــــــن الأشهر   ***   وزيــــــــــــــنب بنت الحسين تذكر

وقتـــــــــــــــله بكربلاء اشتهرا   ***   مضى شهيــــــــــــــداً وبها قد قُبرا

أمر يزيد وعبيـــــــــــــــــــد الله   ***   ابن زيــــــــــــــــادٍ الخبيث اللاهي

قاتله سنــــــــــــــــان وابن سعدِ   ***   تعوَّضوا بنحسِـــــــــــــهم عن سعدِ

إحدى وستـــــــون بها حلّ البلا   ***   بقتلهِ معْ شـــــــــــــــــــهداءِ كربلا

في عاشرِ المحــــــرَّمِ المنحوسِ   ***   في يومِ سبــــــتٍ ما خلا من بؤسِ

أو يوم الأثنيـــــــن وقيل الجمعة   ***   حلّ البلا به بتلـــــــــــــــــك البقعة

وعمرُه سبـــــــعٌ وخمسونَ سنة   ***   وبعدها مضى وحـــــــــــــلّ مدفنه

عشرُ سنينِ اختـــــص بالإمامة   ***   بعد أخيــــــــــــــــه إذ مضى أمامه

صلى عليه الله ثم ســــــــــــلّما   ***   وزاده من فضـــــــــــــــــله وكرّما

والنصُّ فيه جــــــــاءَ بالإمامة   ***   كما أتى لمن مضــــــــــــــى أمامه

من ربِّـــــــــــه وجـــدِّه والوالدِ   ***   ومن أخيــــــــــــــــه ويلُ كلّ جاحدِ

ومعجزاتــــــه نــصوص منها   ***   سبــــــــــــح الحصاة قد رووه عنها

ذلّت له الأســــدُ وكم قد أخبرا   ***   بما يكون فجـــــــــــرى ما قد جرى

وفي إجـــــــــــابةِ الـدعاءِ منه   ***   غرائــــــــــــــــــــبٌ قد نقلوها عنه

وما جري في قتلهِ مــن عجبِ   ***   من البراهينِ ففكّـــــــــــــر واعجبِ

وعند نبشِ قبـــــــرِه كم ظهرا   ***   من معجـــــــــــــــزٍ له عجيبٍ بَهَرا

أحيا له الإلــــــــهُ مـيتاً إذ دعا   ***   في خبــــــــــرٍ صحّ وعاه مَن وعى

ورأسه إذ سَــــــار يتلو الكهفا   ***   من فــــــــــــــــوقِ رمحٍ أسفاً ولهفا

حدث شخصاً ذا شبـاب وصبا   ***   فابيضَّ شعـــــــــــــرُه وصـارَ أشيبا

أرى الورى أبــــــاه بعد موته   ***   مخــــــــــــــــــاطباً لـهم عقيب فوته

وابيضّ شعر امــــرأة وشابتْ   ***   فذهبت محــــــــــــــــــــاسنٌ وغابتْ

ثم دعا فرجع الشبـــــــاب من   ***   بعد إليها فتعــــــــــــــــــجّب واستبنْ

دعا لنخلٍ يابسٍ فاخضـــــــرَّا   ***   وأكلَ الأصحابُ مـنه تمـــــــــــــــرا

وكم وكم من معجـــــزٍ رووه   ***   والحــــــــــــــــــــاضرونَ كلهم رأوه

إلى أصفهان

التقى صاحب الرحلة في كربلاء المقدسة بالسيد حسين الكليدار سادن الحضرة الشريفة الذي جمعه بالأمير حسين أوغلي بيك الذي كان متشرفاً بزيارة الحرم المطهر وهو من أكابر أمراء أصفهان وقد استأذن السلطان بزيارة العتبات المقدسة في العراق فأذن له فأشار عليه الأمير أن يذهب معه إلى أصفهان لكي يجمعه بالشاه حسين الصفوي فوجد عنده الرغبة في ذلك فسافر معه بعد ان تشرّف بزيارة المراقد المقدسة في الكاظمية وسامراء ووصفها بالتفصيل ودوّن ما شاهده فيها بدقة متناهية واجتمع بعلمائها.

وكان لصاحب الرحلة زيارة أخرى لكربلاء بعد زيارته أصفهان ومكة المكرمة فعند وصوله إلى أصفهان نزل في دار الأمير الذي اصطحبه معه إليها وهو حسين أوغلي بيك ولكن لم يطل به المقام في أصفهان فعاد أيام الموسم مع الحجاج إلى مكة المكرمة وخرج لاستقباله أخوه السيد سلمان.

البصرة والهند

ولكن هذه الرحلة قد حببت إليه السفر فأعاد الكرّة في السنة التالية إلى العراق وزيارة المشاهد المشرفة ثم إلى أصفهان ثم إلى شيراز فنزل بدار أمير شيراز وزار عدداً من المدن الإيرانية ثم خرج منها إلى الإحساء ومنها إلى البصرة, وكان في كل سفراته يسجل مشاهداته الشخصية وملاحظاته الخاصة كما كان يدوّن لقاءاته مع العلماء والأعلام وكل ما رآه من نوادر وآثار كما يفعل الرحالة.

وقد وجد في مدة إقامته في البصرة من الحفاوة والتكريم ما لم يجد مثله في بقية البلدان كما وصف هو ذلك, ومن البصرة صمم على السفر إلى الهند فغادرها سنة (1133هـ) في مركب استأجره له الأمير فارس خان أمير (سورت) فدخل من بلاد الهند بلدة (عالي مهان) ثم بلدة (برهانبور) ثم بلاد (كوند واند) وفي كل هذه البلاد كان في استقباله أمراؤها وأعيانها ووجهاؤها.

ثم وصل إلى (شاه جهان آباد) بصحبة شريف مكة الشيخ أحمد علان وكان في طريقه إلى (أحمد آباد) فصادف إقامته فيها وقوع حرب بين الراجات فغادرها مع ركب عمة الأمير قمر الدين خان وزير السلطان وكانت قاصدة للحج فصحب الركب حتى دخل (سورت) عام (1138هـ).

وفي السنة التالية خرج منها إلى (عدن) ووصل إلى (بندر المخا) وهناك أكرمه حاكمها واحتفى به وأجلّه أيما إجلال وكان حاكمها يومئذ الأمير (أحمد بن يحيى خزندار) فأقام بها حتى عام (1140هـ).

نهاية المطاف

ثم توجه إلى جدّة قاصداً الحج ومنها توجه إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة, وبعد إداء مناسك الحج غادرها إلى الطائف ثم رجع إلى مكة ولكن بقاؤه لم يدم طويلاً حتى غادرها إلى (بندر اللحية) ثم إلى (بيت الفقيه) ومنها إلى صنعاء ثم إلى (بندر المخا) عام (1142هـ).

وتكررت سفراته بين هذا البلد وموطنه الأصلي حتى استقر في الأول وتزوج فيه عام (1145هـ) وولد فيه ابنه عبد الله ومحمد وكان هذا البلد هو نهاية رحلاته وطوافه حول البلدان, لكنه رجع في أخر أيامه إلى مسقط رأسه مكة المكرمة فلبث فيها إلى موسم الحج وتوفي هو وولده زين العابدين في سنة واحدة وله من العمر سبعون عاماً أما ولده فلم يتجاوز العشرين من عمره وكان ذلك عام (1180هـ).

أسرته

هذا ما اشتهر عن مكان وفاته لكن السيد محسن الأمين يقول في ترجمته:

(إنه توفي في (جبشيت) من جبل عامل في حدود سنة (1179هـ) وقد قارب السبعين وكان جده نور الدين هاجر إلى مكة فولد أبوه فيها وولد هو فيها أيضاً). (7)

وتعد أسرة السيد عباس الموسوي أسرة علمية مرموقة في جبل عامل برز منها الكثير من العلماء الأعلام وقد فاتنا الحديث عنها في بداية المقال لسردنا رحلته إلى البلاد.

فمن آبائه وأجداده العلماء الأعلام:

1 ــ السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي صاحب كتاب مدارك الأحكام وهو شقيق جده.

2 ــ السيد حسين بن محمد بن الحسين العاملي والذي كان معاصراً للشهيد الثاني وقد زوّجه ابنته وكان من أجلة سادات جبل عامل وله مؤلفات عديدة.

3 ــ السيد علي نور الدين بن الحسين وصفه المحقق الداماد: بالسيد الثقة الثبت.

4 ــ السيد نور الدين علي بن علي نور الدين الذي وصفه السيد يوسف البحراني بقوله:

كان فاضلاً محققاً مشاراً إليه في وقته وقد حضر درسه الشيخ الحر العاملي في جبل عامل, (8).

وهؤلاء العلماء الأعلام توجد تراجمهم ومؤلفاتهم في كتب تراجم أعلام الشيعة كـ (أمل الآمل) للحر العاملي, وأعيان الشيعة للسيد الأمين, ولؤلؤة البحرين للبحراني, وخاتمة المستدرك للمحدث النوري وغيرها من الكتب.

شعره

كانت حياته المثيرة والمليئة بالترحال قد أضافت له الكثير من التجارب خاصة انه دوّن كل ما رآه في رحلاته الكثيرة في كتابه (نزهة الجليس) كما أضافت إلى علميته وشاعريته الكثير.

فقد كان شاعراً متفنناً في أنماط الشعر ولم يقتصر نظمه للشعر على اللغة العربية فقد كان يتّقن العربية والفارسية والهندية والتركية بحكم أسفاره الكثيرة إلى هذه البلاد وإقامته فيها فاستفاد من أدبها وقرأ لشعرائها واطلع على أساليبهم وأفكارهم واستحسن الكثير منها مما حداه بأن يترجم إلى العربية قصائد الشاعر الهندي (سورداس) وكتب قصائد جمعت اللغات العربية والفارسية والتركية التي كان يتقنها لتقارب حروفها ومن شعره قوله من البديع في قبة الإمام أمير المؤمنين عند زيارته للمرقد الشريف:

شبَّهت قبةَ حيـــــدرٍ   ***   إذ ذُهِّبــــتْ بمنارتينِ

بالنجمِ بل بالبدرِ بل   ***   بالشمسِ بل بالفرقدينِ

قالوا عنه

كان السيد عباس المكي يحظى بمكانة كبيرة وحفاوة بالغة عند كل بلد يزوره لما اجتمعت فيه من الخصال الكريمة, والمآثر الحميدة, والأدب الرفيع, والعلم الجم, وقد أثنى عليه كل من رآه والتقاه وسمع حديثه وكذلك كل من قرأ له بعد وفاته, فقد ذكره الشرواني اليماني فقال:

(السيد عباس بن علي الموسوي المكي صاحب (نزهة الجليس) المحتوي على كل معنى نفيس فصيح, ألبسه حلّه الكمال, وبليغ نسج القريض, على أحسن منوال)، ثم ذكر نماذج من شعره (9).

كما ذكره الشيخ علي بن محمد السبيتي العاملي الكفراوي في كتابه فقال:

(كعبة أهل الأدب, وجهبذ الجهابذة في لغة العرب العباس بن علي...). (10)

ثم ذكر بعض رحلاته وترجمته كما ترجمه السيد الأمين في (أعيان الشيعة), والسيد عبد الحسين شرف الدين في (بغية الراغبين), والحجة الشيخ أغا بزرك الطهراني في (الكواكب المنتشرة في أحوال أعيان الشجرة) فقال:

(العالم الفاضل, الكامل الناظم الناثر, الجامع لكل الفضائل, المؤرخ النسّابة المفسّر المحدث... الخ).

كما وردت ترجمته في الكثير من كتب السير والأعلام منها الذريعة, ومعجم المؤلفين, والأعلام للزركلي, وفهارس المكتبة الأزهرية, والبلدية, ودار الكتب المصرية, وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان.

آثاره ومؤلفاته

أما مؤلفاته فالأثر الوحيد الذي بقي له هو كتاب (نزهة الجليس ومنية الاديب الانيس) وهو كتابه القيّم, وأثره النفيس الذي أثنى عليه الكثير, وله كتاب آخر ذكره المؤرخون هو:

(أزهار الناظرين في أخبار الأولين والآخرين) وقد أحال كثيراً على هذا الكتاب في كتابه نزهة الجليس, ويتبين من خلال هذه الإحالات الكثيرة إلى أنه مؤلف ضخم جامع لشتى العلوم, كما ذكر له الحجة الخبير الرازي مؤلف الذريعة مؤلف آخر له هو:

(أزهار بستان الناظرين في سيرة رسول رب العالمين وأخباره وآثاره) ووصفه بأنه مجلد ضخم وقال إن نسخته موجودة في خزانة الحاج الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد رحيم البروجردي المشهدي.

ذريته

واصل أبناء وأحفاد السيد عباس الموسوي مسيرته العلمية وبرز منهم العلماء والفقهاء والأدباء يقول السيد محسن الأمين: وعقبهما ــ أي السيد عباس وابنه زين العابدين ــ في بلادنا من السيد عبد السلام بن زين العابدين بن عباس المذكور، ولد عبد السلام هذا قبل وفاة أبيه بأيام قلائل وكان من الفقهاء والمحدثين شافهني بذلك كله حفيده المؤرخ الثقة السيد عباس بن عيسى بن عبد السلام عن أبيه السيد عيسى وأوقفني عليه بخط عمه الأديب الفاضل الثقة السيد موسى عباس الشاعر المشهور وذريتهم ميمونة صالحة تعرف ببيت عباس وفيهم الفقهاء والأدباء وهم بطن من بيت أبي الحسن وهو من بيوتات العلم واشتهر منهم في هذا القرن صدر الدين بن صالح كان في أصفهان علم أعلامها ومرجع خواصها وعوامها أدركنا أيامه ولم نلقه وله في أصفهان ذرية نابغة.

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

.....................................................................................

1 ــ طبع في مصر في مجلدين عام (1293هـ),  كما طبع في المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف سنة (1387هـ/1967م).

2 ــ  نزهة الجليس ص 134 وما بعدها

3 ــ  أي الفضة

4 ــ أي الذهب

5 ــ المن هو قياس وزن يساوي (25) كيلو غرام

6 ــ مدينة الحسين ج 3 ص 83

7 ــ أعيان الشيعة ج 8 ص 428

8 ــ اللؤلؤة ص 40

9 ــ حديقة الأفراح ص 93

10 ــ العقد المنضّد ص 122

المرفقات

: محمد طاهر الصفار