بين تراث حي وتغيير اجتماعي ..

أن خصوصية الأسلوب في الفنون الإسلامية جاء نتيجة لرسوخ العقيدة الدينية والأيمان المطلق بها، ولأن الفن بصورة عامة والتشكيلي خاصة هو الوعاء الذي تنصب فيه جميع الأفكار والتخيلات والمعطيات الإبداعية فقد تحول وسيلة يطرح من خلالها صوراً تعبيرية عن ماهية هذه الأفكار وسجلا يؤرخ للكثير من الأحداث والمواقف في الإسلام.

ان انتشار الرسالة الإسلامية الواسع في كل بقاع العالم ، والامتزاج الحضاري لمختلف البلدان ، أوجد أعمالاً فنية فذة امتزجت ما بين الرمزية والتشخيصية والتعبيرية ، لتعبر من خلالها عن مفاهيمها ومعتقداتها حول هذه الأحداث، وأغلب هذه الأعمال العقائدية، كانت تخلو من أية أشارة لمبدعيها، لتأكيدها على ذوبان ألذات في رحم الجماعة وعقيدتها، هذه العقيدة التي بدت مهددة بانحراف خطها ومسارها الذي أعد لها، منذ أن ابتعد المخالفون عن مسيرة ووصايا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبدا الانحراف وانجراف البعض نحو العبودية من جديد ، فتحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك انتقالي سريع تتلقفه الايادي السوداء سعياً للثأر من رسولنا الكريم ، في ظل حكم بني امية الذي توج ذلك الكره بقتل ريحانة رسول الله ابي عبد الله الحسين عليه السلام  في واقعة ألطف ، تلك الواقعة التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها تحت ظل حكم يزيد لعنة الله عليه .

لعبت الفنون دوراً بارزاً في التعبير عن هذه الفاجعة بادق تفاصيلها واكبرها ، وكانت هناك الكثير من الافكار والأعمال الشعبية المحاكية لها ، منها قولية وتمثيلية ومنها رسوم وتخطيطات مختلفة تؤرخ لهذه الواقعة وتستلهم مروياتها التاريخية من الروايات المحققة والرؤى والاحلام التي يراها البعض من اصحاب الكرامات ، مشكلة بنية جمالية خاصة بها وخاضعة لمضمونها ، فازداد تعلق الناس بها، واستمرت تداو ليتها حتى تحولت إلى علامات ايقونية تفسر وترسخ العقيدة لأتباع أهل بيت النبوة الاطهار فهم  الأمل وسفن النجاة ، فاستمدت هذه الاعمال بقاءها وتدا وليتها من خلود الواقعة ومأساة أصحابها بما مر عليهم من ظليمة لم يكن لها مثيل لا قبل ولا بعد .

 لقد حركت فاجعة الطف ومقتل الامام الحسين وسبي عياله عليهم السلام ضمير الإنسانية اجمع دون تحديد، وتناولتها مختلف الألسن ودياناتها ولغاتها إسلامية كانت ام غيرها، فقد أعطت دروسا وعبرا لمن تأثر بها وتبنى أفكارها لتكون منهجا قويما تسير به المجتمعات نحو الحرية والرقاء ،

فلولا تضحية الحسين عليه السلام  لما كان الإسلام على ما هو عليه قطعا ولم تكن الحريات في بلدان العالم موجودة الان ، فاختلفت وسائل التعبير بين المسلمين وشعوب العالم المختلفة عن هذه الثورة الخالدة لتشكل أبوابا تأتي من خلالها استمرارية تداولها وخلودها لتثبيت العقيدة الدينية في نفوس المجتمع الاسلامي ، وقد سجلت الفنون حضورا مميزا في هذا المجال شأنها شأن ادوات نقل التأريخ الاخرى مثل الشعر والنثر والرواية وغيرها .

لا شك ان الفنون بشكل عام والتشكيلية الشعبية منها بشكل خاص تعد وسيلة لتفريغ الشحنات النفسية ومشاعر الحزن والفرح المتأتية من التجارب الانسانية المختلفة ، وهي تؤثر في الفنان كما تؤثر في المجتمع على حد سواء ، والفنان بطبيعة الحال يمتلك القدرة على أحداث تغير في شكل الخامة الطبيعي بما يمتلكه من موهبة وخبرة فنية لتتحول تلك الخامة الى صورة مبتكرة ذات صفات جمالية محملة بالمعاني والمضامين الفكرية – تبعا للفكرة التي تطرح فيها - ، وتستمد التجربة الجمالية للفنون التشكيلية الشعبية مقوماتها من خلفيات مرجعية فكرية وتاريخية ، يسعى الرسام الشعبي من خلالها الى ابداع أشكالاً تحمل مضامين هذه المرجعيات وتولد بالتالي متعة جمالية بصيغة تشكيلية كما في الصور التشبيهية لأحداث الطف وما دار فيه من مآس مرت على ال البيت سلام الله عليهم .

فالتشبيه بمعناه الدقيق هو التفنن بأبراز الصورة الفنية للشكل وايضا أستقراء دلالتها الحسية ، عن طريق تسخير المحاكاة في تكوين الشكل بصورة مقتبسة من الصفات  الواردة في الروايات المتواترة عن الحدث المبتغى تشبيهه ، فهو محاولة جادة لصقل الشكل وتقريب المعنى الى الذهن بتجسيده حسياً بأنتقال اللفظ من صورة الى أخرى بناء على سعة مخيلة الرسام وقدرته على اسقاطها لونيا على اللوحة ، والتشبيه ايضا هو وصف ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه ( الرسم ) وبه تتحول الصورة الأبداعية لأي شخصية علامة دالة ومفهومة لدى المتلقي ويزداد الفهم لأدراكها بشكل أوسع أذا ما أرتبطت بعلامات مجاورة مرتبطة بها. فالموضوع في الرسوم الشعبية حدثاً واقعياً مستمداً واقعيته من أبطالها تروى بواقعية تحتمل الرموز والتأويل ، وهو يجمع أحداث حياة كاملة في حدود سطح اللوحة ليزداد تفاعل المتلقين معها وتذوقها بازدياد معرفة موضوعها .

فقد تحول الرأس المقطوع والكف والفرس والراية والسيف والخنجر والرماح والنبال ايضا الى رموز بارزة في الكثير من الأعمال التشكيلية والتي أستلهمت من واقعة الطف والتي تم ربطها على الدوام بقضايا الأنسان المعاصر مما شكلت منطلقات جمالية مهمة في مسيرة الفن ، فكل ما يحمله الموروث من عادات وتقاليد تخص واقعة الطف ويوم عاشوراء لا يمكن تغيرها أو تبديلها ، حتى وأن تبدلت الأجيال وتغيرت طباعها ومستوى تقدمها العلمي أو الثقافي لأن هذا الموروث ينتقل عبر الأجيال محفوظاً في الشعور واللاشعور، وكل محاولات التطوير التي قد تطرأ عليها تبقى ضمن النكهة الشعبية الخالصة، لأن أسس قيامها ترسيخ العقيدة ورقي قيمها ، وهي بالتالي تؤدي وظائف تعليمية ونفعية تعمل على تثبيت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية السامية التي تتمسك بها الجماعة .. واي جماعة تلك ؟  اولئك هم اتباع ومحبي وانصار الحسين عليه السلام  .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات