تجليات الحق ..

أوجب الحدس في العقيدة الإسلامية على الفنان المسلم إقامة وعيه الجمالي وفق أسس نظرته الحدسية للحقيقة الإلهية ، والتي دفعته للإبداع في تشكيل ما لانهاية له من الوحدات الزخرفية ذات الطابع التجريدي البحت ، وهو ذو وعي كامل رسخ لديه مفهوم الوحدة في التنوع ومفهوم اللامتناهي واللامحدود .

عمد المبدع المسلم الى التواصل في عملية الابتكار والتجديد في تكويناته الفنية الزخرفية ، بحيث وضع نظامه الزماني في بضعة ألوان وأشكال أو منحنيات وخطوط وهي لا تفلح أبداً أن تظهر للناظر لوحدها ، بل هي كيان واحد بمجموعها أما حركتها السطحية فتذوب في تداخل عناصرها ببعضها البعض وفي صلب نظامها الذي يستوعبها ،  وان مثل هذا النظام بالذات يظهر التكامل المتضامن لمجموعة في كل جزء منها على حدة.

 والفن الزخرفي عندما تبناه الفنان المسلم وجد فيه ما يتناسب مع عقيدته في التعبير عن ثقافته وعقيدته الدينية ، والتي تدعو إلى التسامح والمحبة والسلام في ظل مبادئ تسمو على الواقع الحسي وأطره المقوضة ، كما انه يقوم على مهارة فكرية وعقلية محضة وهو كأثر ابداعي يبدأ في البحث عن طُرق ذات مكون روحي عالي كنوع من الفرار بعيداً عن أشكال العالم المادي وتصوير الأرواح ، فالزخرفة قابلة للتطور شأنها شأن الفنون الاخرى  .

لقد تبنى الفنان المزخرف عملية افراغ الموجودات من خصائصها الجزئية المتعلقة بكل عنصر وجودي لبلوغ حالة التوحيد المبتغاة لديه ، فقد عمد الى صياغة الشكل الذي تتداخل فيه الزخارف وتتشابك فيه العناصر مع بعضها البعض ، فضلاً عن تقسيمها إلى ثنائيات متقابلة ومتماثلة سعى من خلال ذلك نسج وحدة الوجود ، وإلغاء الإشارات المتعلقة بالأشياء والتي تصف اختلافاتها ،وايضاُ الغاء فكرة كونها جواهر منفردة بل هي في حقيقتها جوهر واحد في أصلها تعود إلى الحقيقة الواحدة التي لا تتجزأ وهي أساس كل وجود ومبعث كل حي .

وجد الفنان المسلم من خلال المنظومات الزخرفية طريقاً يخترق حدود المكان والزمان والظاهر متجهاً إلى الباطن محاولا الوصول إلى الجمال الإلهي ، هذا الجمال الذي يصدر عن الذات الإلهية ويتلاشى كل جمال ارضي امامه ، فالصورة الجميلة المحسوسة المشاهدة على الأرض ، إنما تفيض عن جمال الذات الإلهية ، والمتأمل للزخرفة انما يستغرق في تأملها ليس كصورة جزئية او اعجاباً بها فحسب ، بل لأنها تدل على جمال الحقيقة الإلهية وتشير إليه .

وبهذا فالزخرفة لم تكن مجرد تزيين بل هي تمثيلٌ لجمال الخالق ، فهي آية فنية وآية دينية في الوقت نفسه ، ولطالما وجد المتأمل للزخارف انها تعبير عن العبادة فضلاً عن تعبيرها عن الإبداع ، من خلال ذلك التنوع الهائل في هيئات الأشكال الخارجية لكل نمط زخرفي أو هندسي أو في ميدان الخط العربي ، وسبب تنوعها هو انها جوهر متغير ومتبدل وعلى الضد من الطبيعة للمادة التشكيلية .

كما إن التجريدات الزخرفية جاءت منسجمة مع توجه الفنان المسلم في ابتكار إشكال لا تضاهي مخلوقات الباري " من خلال سعيه إلى تحويل العناصر الطبيعية إلى جواهر متوحدة لها حقيقة واحدة وهي الحقيقة الأبدية وان هذه العناصر تسعى إلى الكمال من خلال تساميها على الواقع الحسي وانجذابها نحو المطلق الذي هو نور وجودها ، وبما ان المطلق لا يمكن تحديده مكانياً ، تتكرر العناصر وتتسلسل وتدور دورتها التي تبدو إنها لا تتوقف ابداً في حالة اقرار بلا محدوديته المطلق وعموم نوره لكل الوجود " ، وهذا ما تؤكده الآية الكريم ((اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  )).

وعلى هذا الأساس فالأشكال الزخرفية هي حقائق جوهرية في الوجود ، وبطبيعة تكوينها الفني تشكل جمل إبداعية ذات مدلول روحي غير مشخص ولا يقبل التشخيص ، لأنها تقوم على مفاهيم عقائدية روحية اتخذها الفنان المسلم ليصور فيها وجهاً من وجوه الله الجمال ( فالله جميل يحب الجمال ) ، ولما كان ذلك الجمال لا ينتهي ولا ينضب ، فالزخرفة ما هي ال  رحلة كشف دائمة عن ذلك الجمال .

ويتبين من هذا أن هدف الفنان في عمله الزخرفي هو الغوص في كوامن الأشياء ويكشف عن بواطنها ، والنفاذ من خلال جزئياته إلى كلياتها و إلى ما هو كائن وكامن ، فالفنان يستجمع موضوعه الزخرفي عن طريق الحدس وليس عن طريق الفهم ، ذلك لان ادراك الله لا يقوم على الحس ، وإنما يقوم على الحدس الذي يعبر عنه بالوحي في مجال الفن في بعض الاحيان  .

وبهذا يدرك الفنان أسرار التناغم والتناسق الكامنين في العالم المرئي وغير المرئي ، اي بمعنى آخر إن الفنان المسلم في الزخرفة لم يرَ بعينه ما في الطبيعة بل بفكره وهو ينسج الموضوع كما في الواقع بل يؤوله نحو الجوهر ، ذلك إن تشبيهية الصورة لم تعد تمثل نظام الشكل في الزخرفة ، بل عمد عوضاً عنها إلى تأويل نظام رياضي يكتسب جماليته من تناسب مفردات المنظومات الزخرفية الهندسية والحسابية الرياضية التي تهيئ لمجمل الشكل العام ، فلو جردت الزخرفة من هذا النظام الرياضي والحسابي لدخلتها فوضى تسهم في تشويه شكلها الجمالي ، وهذا بدوره ينعكس بشكل سلبي على المضمون والمحتوى .

 

جمع وتحرير

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة