تعددت أساليب وطرق إنجازالأعمال الفنية التشكيلية مع حلول النصف الثاني من القرن العشرين و ظهرت بوادر التحولات في حركة الفن التشكيلي العراقي والعالمي ، فقد بدأت مرحلة القضاء على الجماليات الموروثة المرتبطة بفكرة الاشكال ليحل محلها واقع جديد للعمل الفني يستمد جمالياته وقيمته الفنية من مقومات المجتمع الحضارية ، فالأعمال الفنية في هذه المرحلة لم تعد كمنتج مبتكر قادر بحد ذاته على التعبيربل إستُحدثت بصيغة جمالية فنية جديدة ترفض القوانين والقيم الثابتة والأساليب التقليدية هدفها التواصل مع المجتمع بكل متغيراته المواكبة لروح العصر ، فظهرت على إثر ذلك اتجاهات فنية تسعى لتحقيق التفرد وخلق لغة بصرية جديدة تدعو لصيغ جمالية فنية ذات تميز وتطلع لجديد الابتكارات الفنية ، سواء في الشكل أو الفكرة اوالمحتوى المطروح على سطح اللوحة .
سارَ التشكيليون العراقيون والاحلام تسبقهم في تفجير ممكِنات الوعي الجمالي وقراءة الظواهرعلى أساس من تكريس الأساليب ذات النسق الفردي وان انخرطت في ركاب جماعة اواخرى ، فقد كانوا ببساطة ثوارا في مجال الفن ، فقد بدأ كل منهم يغامرعلى مسؤوليته بالبحث الحر عن أنظمته التشكيلية المعبرة عنه ، فلم يعد الفنان يكتفي بتحليل الواقع أو نقده بل أبدى ميلا واضحا لخلق رموزه التي شكلت دلالات لامتناهية قابلة لإمتصاص معطيات جديدة يكشف عنها الواقع بعد انجاز العمل الفني ، فالجيل الستيني كما ذكرنا آنفا في الحلقة السابقة تميز بتنوع الأساليب والاتجاهات ليكمله الجيل السبعيني ويصبح امتداداً له ، ليكونا معاً خاصية مميزة للفن العراقي في هذه المرحلة ، فقد ولدت جماعات فنية جديدة حتى ارتفع عددها عام ( 1970 ) إلى ثمانية جماعات - (جماعة نينوى للفن الحديث) و(جماعة السبعين) و(جماعة المثلث) و(جماعة الدائرة) و(جماعي الظل) و(جماعة فناني السليمانية) و(جماعة باء) و(جماعة النجف) .
لقد شهد العقد السبعيني حراكاً فنياً دؤوباً من الفنانين تطلعاً منهم لإيجاد آليات اشتغال جديدة للارتقاء بمستوى الفن التشكيلي المعاصر في العراق فقد برزت فيه العديد من القدرات الفنية الفردية والجماعية التي أسهمت بشكل فاعل في تشكيل العديد من الجماعات الفنية الحديثة ، ففي عام(1971) تأسس تجمع البعد الواحد لمجموعة من الفنانين المستلهمين للحرف في أعمالهم الفنية ، وقد ضم هذا التجمع عددا من الفنانين ومنهم شاكر حسن آل سعيد ومديحة عمر وجميل حمودي وكل من أُولِعَ بأدخال الحرف العربي في إبداعاته ، وكان الهدف من استلهام الحرف العربي في فن هذه النخبة من الفنانين الكشف عن معالم حضارتنا العربية وحث الفنان والجمهور للتعمق في صميم الكيان الداخلي للعمل الفني .... فالحرف العربي بمعطياته الفكرية يُعد حلقة وصل بين البلاد العربية والإسلامية ، وفي نفس العام ظهرت (جماعة الأكاديميين) بفكرها الداعي الى التجديد للمفاهيم الأكاديمية كونها صفة مشتركة لكل الفنون لعلميتها فهي الرابط الوثيق بين الفنون والعلوم الأخرى ، أما في عام 1972 فقد أتى محمود صبري ببيان (واقعية الكم) ، كرؤية وأسلوب جديدين كاتجاه علمي من الفن ، وفي نفس العام أقيم (مهرجان الواسطي) الفني الذي شكل مرفأً إبداعياً للتشكيليين العراقيين بمختلف تجاربهم وأساليبهم وإعلان حرية الفنان العراقي لاختيار أي اتجاه فني أو أسلوب يعبر عنه بصدق وبدون وصاية أي مؤسسة رسمية أو غير رسمية باختياراته الفنية.
أما العقد الثمانيني فلم يكن أقل عطاء من سابقيه بالرغم من ظروف الحرب التي زُجَ بها العراق ، فمع أطلالة العقد الثمانييني انطلقت جماعات فنية أخرى جذبت الإنتباه بتنوع اعمال مبدعيها وتباين مستويات التلقي لخطابهم البصري ، فقد كان كل منهم يسعى الى إقتراح وسائل تطويرية تطبع العلاقة مع الذائقة على نحو مفارق .
، وأقيمت الكثير من المعارض الفنية المهمة في هذه الفترة ومنها كان معرض الشباب الأول من عام 1985 ... ومعرض الشهيد السنوي ومعرض يوم الفن وغيرها من المعارض التي رفدت هذه المرحلة بعطاء زاخر بالتجارب الفنية المهمة بتعابيرها وتقنياتها المتقدمة ، فالعقد الثمانيني بما يزخر به من معارض ومهرجانات فنية كبيرة كان له أثر كبير في امتزاج تجارب الفن التشكيلي العراقي المعاصر مع التجارب الفنية العالمية والعربية ، وهذا مانلمسه حتى يومنا الحاضر في تجارب الفنانين التشكيليين العراقيين التي طالت معارضهم الكثير من قاعات العرض عالمياً وبحضور مشرف ، فقد أدت الثورة الاتصالاتية الجديدة بما فيها من تطورمتواصل وقدرة المجتمعات الحديثة على تذوق الفنون إلى إبتكار اساليب وأفكار جديدة أغنت التجربة التشكيلية في العراق ، وقد كانت تجارب الجيل الثمانيني والتسعيني وحتى اليوم تجارب استثنائية تحاول إخراج الفنان العراقي من تأثيرات الحروب وظلمة تسييس الفن التي كادت أن تطيح بحياة الفنان وخطابه الإنساني والروحي ، فقد بدأ التسعينيون يقطفون ثمار تجاربهم ويلقون صدى طيبا رغم تشتت جهودهم حيث لا يلتقون إلاّ بين أوقات متباعدة بمعارضهم ، فمتابعة هذا الجيل صعبة بسبب طبيعة المتغيرات المفاجئة الحدوث في الساحة التشكيلية لما يلاقيه هؤلاء من صعوبات التأسيس في ظل ظروف استثنائية ، ولاننسى هجرة الكثير من الفنانين العراقيين إلى خارج العراق هروبا من الظروف القاسية التي تعرضوا لها في تلك الفترة .
إمتازت هذه المرحلة بإنتشار قاعات العرض الأهلية التي قد تكون قرّبت الفن أكثر من الجمهور مما يسّرَ للكثير من الهواة الشباب تقديم تجاربهم الفنية التي لم تعد معزولة عن اتجاهات التشكيل العالمي والعربي ، فقد ظهر جيل فني أشدُّ حماساً للتغيير وتقديم الرؤى الفنية الجديدة في محاولة لخلق تحرك في الخطاب البصري، فقد شهد الفن التشكيلي المعاصر في العراق وفي هذه المرحلة بالتحديد تركيز الفنانين والنقاد والمتلقين على الخروج من الرسم بالمعنى الحرفي إلى مرحلة ما بعد الرسم .... بما تحمله من تصور لمفهوم فني مغاير يهجر التقنية الحرفية والمهارة السطحية ليؤسس لمرجعية جمالية جديدة بعيدة عن حضيض الإنتاج الاستهلاكي أي كونه مجرد واسطة للاستهلاك الإعلاني أو التزييني .
لقد تميز فنانوهذا الجيل بالابتعاد عن الأساليب التقليدية فهي لم تعد ممكنة إزاء حداثة اليوم ، فالأسماء التي ظهرت اليوم توفر لديها المناخ الثقافي بدرجة لاتقارن مع سابقيها من خلال الانفتاح على العالم ، بتطور تقنية المعلومات والتكنلوجيا الرقمية وما لها من الأثرالبالغ على إنسانية الكائن البشري ومنه الفنان فهي قد أثرت في قوى الإبداع لدى الفنان وأصبح متحكما بحريته في الاختيار... تلك الحرية التي هي رأس مال أي فنان مبدع .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق