جنة زينت بالذهب .. فاصبحت ملاذا للقاصدين

قال تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة " 24 "... هذا هوسرالحب الذى يملئ قلوب المحبين تجاه الأمام الحسين " عليه السلام " .. ذلك الحب الذي ارتقى الى مقام العشق لله ولأوليائه وعباده الصالحين ليكون تقربا وطاعة له جل شأنه ، ينير افئدة المحبين بنوره وهداه ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) الانعام " 90 "  .

المشهد اعلاه يمثل الجزء العلوي المقرنص من باب قبلة الامام الحسين " عليه السلام "  الذهبية الكائنة داخل الحرم المقدس للمولى ابي عبد الله الحسين ، والمؤدية الى الضريح الشريف بشكل مباشر، والتي اتى بتصميمها وتنفيذها المعمار والفنان المسلم بما يتوافق وقدسية وهيبة المكان الذي يتلألئ  بانوار الرسالة المحمدية والولاية العلوية .

رتب المعمار مقرنصاته الفنية على بعض مساحات الابنية ، منتشرة على شكل صفوف بطريقة هندسية مميزة وغيرمنتظمة ، حيث يتألف كل منها من تكرار مقرنص واحد ولعدة مرات ليكون شكله مختلفاً عن أشكال المقرنصات الأخرى في الصفوف الاخرى التالية له ، الأمر الذي خلق تواصلاً تدريجياً نتج عنه تتابعاً ترتيبياً جعلها " المقرنصات "  تتجلى دائماً أمام الناظر في مجموعات مكثفة متزاحمة تشبه خلايا النحل في هيئتها البنائية ، وهذه المجموعات تقوم بوظيفة دينية ترتبط في غالب الظن بظاهر وباطن الاشكال وتأويلها فضلا عن وظيفتها العمرانية الإنشائية والجمالية الزخرفية .

فقد دخل المقرنص في هذا الجزء من الحرم المطهر جنباً الى جنب مع الزخرفة  ببعض انواعها " كتابية ، هندسية ، نباتية  " بإعتباره جزأ من جسد تكويناتها الابداعية المطلية بالذهب فضلاً عن ، وظيفته بتأسيس قاعدة يرتكز عليها سقف المدخل المقوس ، وهو بهذا يكون قد ساهم مع الجدران في امتصاص ثقل القوس وجزءا من السقف ، وبالنتيجة يكون الفنان المسلم قد حقق معادلة يجتمع فيها الجميل بالمفيد ، أو ما يسمى عند البعض بالزينة الوظيفية ، وكانه يعمل محاكيا متأملا قول الخالق المبدع جل وعلا  بما تيسر من بعض سورة الملك ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ)) ، حيث الوصف الالهي الذي يجمع بين الزينة والوظيفة في إنه الله جلّ ثناؤه خلق النجوم لخصال عدة بان جعلها زينة للسماء الدنيا ، ورجومًا للشياطين وأُخر، ليحال فكر المتلقي المتعرض لهذه التحفة الفنية ومكانه الى الخطابين الإلهي والدنيوي في نفس الوقت .

ففي هذا المكان المقدس ومن خلال هذه المصفوفة من مقرنصاته استطاع الفنان ان يحقق هدفين وجدا مكانا في ذات المتذوق هما الهدف الجمالي والجلالي لأن المتذوق مأخوذ من نفسه بدهشة الجمال وجلال الجمال الذي اشاعته الحضرة الحسينية المقدسة وكينونتها الفريدة ، فالمقرنصات هنا تشير إلى دلالة معروفة مجهولة منزهة مشبهة في الوقت ذاته ، لأن الحق تعالى منزه عن المثلية إذ لا يوجد وجود مماثل لوجوده ولا تجلي مثل تجليه  ولا يوجد ظاهرمثل ظاهره ولا باطن مثل باطنه جل وعلا ، فهو الأول والآخر وهو كما هو عليه الآن وفي كل وقت دائم الوجود والتجلي .

فالمقرنصات هنا ومايحيط بها من اشكال مكملة للخطاب الزخرفي الذي تمثله صنعها الفنان لتعبرعن اقتراحاته للمشاهد كإشارات يحيل بها فكر الزائر المتأمل لحقائق مكتشفة ، اي بمعنى اخر " إن المشاهد ليس بمقدوره قراءة هذا النص بشكل مجرد منظور ، بل يستطيع ذلك من خلال التفكيروالتأمل بمزج الإشارة " العمل الفني " وخزينه المعرفي " ثقافة المشاهد وتأثره الروحي والعقائدي " ومن خلالهما يستطيع فك شفرات بعض الرموز والإشارات التي تدل عليها فضلا عن دورها الوظيفي ، فالفنان المعماري المسلم لطالما تبني عقيدة الإسلام مكرسا شعوره بكل ما يمتلكه من تمكينات لينتج ابداعا فنيا مميزا له مواصفاته الخاصة التي تأخذ بالحسبان طبيعة المكان ووظيفته وما يؤول اليه المكان في النهاية  ، كونه مكان مقدس للعبادة والتقرب الى الله تعالى فضلا عن ، كونه مقرا للوعي والدراسات الدينية ، لذا اصبح لزاما عليه ان يجمع هذه الأمور مضافا اليها رهافة الحس التي يتمتع بها كفنان وعقيدته الدينية الزاخرة بروحية الاسلام .

فالمقرنصات إذن هي محاولة ذكية للفنان المسلم المزخرف إستدرجنا من خلالها عقلياً وحسياً بإتجاه التفكر في اشكاله ، وإن هذا الاستدراج لا يخلو من جلال الجمال لوهلته الأولى عند المتأمل ، لكنه سرعان ما ينقلب إلى جمال بعد أن تهدأ النفس وتستحضر ما لديها من تمكينات معرفية تسعفها في فك هيبة تلك الطلاسم المعمارية الروحية كوجود روحي حسي غير مدرك .

نسأل الله أن يجعلنا مع الحسين " عليه السلام " والسائرين على دربه والمقتفين أثره وأن يرزقنا زيارته في الدنيا عاجلاً، وفي الآخرة شفاعته إنه سميع مجيب .

  

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة