في غياهب الدجى ولجج البحار، يلوح دليل الهدى والمُنجي من الردى ، ممتزجا مع كل ضربة قلب ودفقة عرق .. وكل نـفس و طرفة عين ، كأنه النورالزاهر والبدرالمنير..انه نفس النبي الامين وحبل الله المتين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " عليه السلام" .
أفعجيب ان ننادي ياحجج الله ؟ ام عجيب ان ننادي لا فتى إلا علي ؟ ...انه ليس بالعجب ، فقد زرع الله تعالى في نفوس المؤمنين الموالين حبا لرسول الله وعترته الطاهرة وذَرارِيهم " صلوات الله عليهم اجمعين "، حتى جعل مراقدهم ومقاماتهم أمانا وملاذا لأهل السموات والأَرض ، وملاجئ ومعاقل للمضطرين الخائفين ، يلوذون بهم الى الله ليفرج عنهم وتطيب نفوسهم ، فما زارها مغموم إِلاّ وفرّج الله عنه ، وما التمسها سقيم إِلاّ ورفع الله سقمه ، وما التجأ اليها خائف إِلاّ أمِن من خوفه .
عمد المسلمون وعلى مر الازمان ومختلف الأصقاع ، الى إسباغ نوع من التقديس للأرواح الحاضرة لرموزهم الدينية ومُثلهم العليا لإدامة تخليد ذكراهم والتقرب بهم الى الله زلفة ، وتجديد حركة حياة مجتمعاتهم الروحانية والاجتماعية ، والتطلع لتقويمها والارتقاء بها الى الايمان بالله ورسوله وترسيخ قواعد الدين الاسلامي القويم ، فنجد في ارض العراق مراقد الائمة الاطهار " سلام الله عليهم " وقد امست قبلة للزائرين ، وفي دول اخرى مقامات وقبور للانبياء والاولياء الصالحين وقد شيدت بابهى صور العمران المزينة بالنقوش الاسلامية عربية كانت اوغيرها ، وقد كانت مدينة مزار شريف في افغانستان احد تلك المدن الاسلامية التي تأثرت بوجود معلم ومقام ديني مقدس ، لعب دورا مهما في تقويم وتثقيف مجتمعهم الاسلامي حتى سميت المدينة تيمنا به .
مزار شريف او "المسجد الأزرق " يقع في قلب مدينة مزار شريف عاصمة اقليم بلخ في أفغانستان ، وهومسجد أثري قديم العهد في عمارته وبناءه ، يعتبر احد ابرز الصروح المعمارية الفنية الاسلامية في اواسط اسيا ، تتحدث احد الاساطير الافغانية بانه مرقد الامام علي " عليه السلام " ، وفي رواية تاريخية أن صاحب المقام فى المسجد الأزرق هوعمرالأطرف بن على أمير المؤمنين " عليهما السلام " ، وفي روايات اخرى مسنودة انه قبر ولده عمر بن علي بن أبي طالب " عليهما السلام ".
تشير الدراسات التأريخية ان المسجد بني عام 1512م ، واعيد بناءه مرات عديدة على يد سلالة السلاجقة المعرفة بأهتماماتها الفنية ، وقد ميز من شهد بناء هذا المقام وجود صخرة فوق قبر يتوسط البناء القديم مكتوب عليها (( هذا قبر امير المؤمنين ابي الحسن علي بن ابي طالب بن عبيد الله بن علي ابن الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين الاصغر بن علي السجاد بن الحسين السبط "عليه السلام" )) ، مما اكد ان صاحب هذا القبر الشريف يعود نسبه لامير المؤمنين " عليه السلام " مما ساعدعلى تنشيط اسطورتهم في انه قبر امير المؤمنين ، بسبب الاشتراك بين لقب صاحب المقام المذكور والامام علي " عليه السلام " والكنية والاسم واسم الاب ، مما اوجب وجود الشبهة لدى طائفة من الناس في افغانستان تحديدا .
تميز هذا الصرح الفني الاسلامي عن غيره ، بانه شكل مزيجا معماريا زخرفيا عمل كمرآة عاكسة لثلاث مراحل فنية مر بها التأريخ الافغاني تمثلت بمرحلة ماقبل التأريخ ، تلتها مرحلة الحضارات القديمة وماقبل الاسلام ثم اعقبتها الحقبة الاسلامية التي جمعت بين الماضي والحاضر لتخرج بتحف فنية ذات نكهة روحانية تحاكي الافئدة ، فقد نمت افغانستان بحكم جغرافية موقعها وهي حلقة للوصل بين الشرق الأدنى ووسط آسيا من جهة و أوربا وحوض المتوسط من جهة اخرى ، فأنشأت مدن وحواضر ثقافية ارتبطت بقيام دويلات وسلالات متعددة لعبت دورًا متقدمًا وأساسيًا في صناعة وتطور الطرز الفنية الإسلامية المستحدثة انذاك ، كمدن قندهار، وكابول ومزار شريف وجلال أباد وبيشاوروغيرها حتى اصبحت ملتقىً مشتركا للثقافات والفنون الشرقية والغربية على حد سواء .
كان تأثير الفنون الصينية والهندية البوذية واضحا على معالم المدن الافغانية ، وما ان حل عصر الاسلام حتى اختلفت تلك الفنون جذريا ، وحصلت فيها شبه قطيعة مع التراث البوذي في الفنون ، فازدهرت معالم الحضارة الفنية الإسلامية ذات النكهة الهندية الإيرانية حتى اشتركت مراكز الثقافة الأفغانية إبان حكم الدول الإسلامية مع نيسابور وسمرقند وبخارى وشيراز وأصفهان ، بصناعة الثقافة الإسلامية ذات الصبغة المحلية الانفرادية المميزة لآسيا الوسطى .
فلو لاحظنا مزار شريف " المسجد الازرق " لوجدنا اغلب التقنيات الفنية الاسلامية امام انظارنا ، لكن بلغات ونكهات فنية مختلفة ، فمثلا المخطوطات التي زينت بها الجدران من الداخل وبعض من أُطر البوابات الخارجية والاواوين ، نجد انها كتبت بخط عربي صريح واحيطت بزخارف نباتية وهندسية تحمل روحية عربية خالصة ، ولو لحظنا شكل القباب لوجدنا انها تحمل هيئة قباب سمرقند ومآذنها ، ولو تداخلنا في اشكال الزخارف الهندسية المزينة للشكل الخارجي لوجدنا انها خليط من الفسيفساء الهندية الملونة بدقة الالوان الصينية والمنفذة على جدران وأواوين شيدت بلمسة عربية خالصة ، فالزائرللمسجد الازرق ومنذ ان تطأ قدمه مشارف هذا المقام يلاحظ ، انه لا وجود لطراز فني إسلامي أفغاني خالص بمعزل عن الاتجاهات الفنية الاخرى التي سادت في العصور الإسلامية ، بل يجد مجموعة من الطرز الفنية المتناغمة المنسجمة فيما بينها يرتفع فوق قبابها المميزة اسم علي "عليه السلام " ليزيدها بهاءاً ويجعلها بهجة للناظرين محفزا اياه " الزائر " برفع اليد بالدعاء ومناجاة الله بالقول ..
(( إلهي بحب علي وولايته و بصدق علي وصداقته ، ورفق علي ورفاقته ، وسلم علي وسلامته ، وعلم علي وإمامته ، صل على محمد واله وثبتنا على الولاية يا ارحم الراحمين )) .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق