في روضة من رياض الجنان ..ارتفعت منائر سامقات منيرات ينادين بنداء خفي على الاسماع ، يحاكي ارواح الموالين وقلوبهم ..قائلا " مرحبا بزوار الحسين ..مرحبا بكم في جنة الله على ارضه .. هلموا عباد الله الى نعمة اسبغها الله على خلقه ، فيها الرحمة والطمأنينة والامان وفي رحابها تعطر الانفاس وتشرق منها الانوار الساطعة " هذا نداء مآذن الحسين " عليه السلام " لزائريه ، وهذا مقام خير الناس اما وابا ، تستفيق على جدران روضته ادعية كانها همس من العالم العلوي ، ومن منائره تعرج ملائكة السماء مستغفرة لزواره عند رب رحيم كريم .
تمثل المئذنة أحد أهم العناصر في عمارة المساجد الاسلامية والاضرحة الدينية المقدسة على الإطلاق ، ويخضع ارتفاعها عادةً إلى التشكيل البنائي الخارجي للمسجد او المرقد مع وجود التناغم في نسب التفاوت بينها والقبة المجاورة لها وأبعاد واجهات وجدران الصرح المعماري ، مما يوحي للناظر التجانس المطلوب في وجوه فن العمارة الاسلامية بشكل عام .
اتخذت المآذن في العصر الإسلامي الأول شكل قطاعات متراكبة ومختلفة الاشكال ، الاول منها قطاع رباعي عادة ، يعلوه اخرعلى شكل ثمانيّ الأضلاع او خماسي ، ويلي ذلك شكل دائري ينتهي بقبة صغيرة ، كما الحال في مآذن مسجد الكوفة المعظم في يومنا هذا .
يذكربعض المؤرخين أن المآذن الاولى اكتسبت شكلها من أبراج المعبد الوثني القديم في دمشق الذي قام فيما بعد على أنقاضه المسجد الأموي ، فيما ذهبت فئة اخرى منهم الى ان المئذنة قد تكون استمدت معالمها الاولى من احدى الظواهر التي جلبت انتباه العرب الاولين ، حيث اضواء و مشاعل الرهبان في الكنائس التي وصفها وصورها الشعراء في قصائدهم ، واحيلت فكرتها الى هندسة معمارية و رمز للدين الاسلامي فيما بعد ، بعدما كانت مشعل ينير الكنائس ، ومنها استمدت تسميتها الاولى بـ " المنارة " اي المئذنة فيما بعد .
الصورة اعلاه لمنائر وقبة ضريح سيدي ابا الاحرار ابي عبد الله الحسين بن علي " عليهما السلام " في كربلاء المقدسة ، المئذنتان الشامختان عبارة عن تكوين معماري اسطواني الشكل تعلوه قبة مذهبة ذات اشرطة مفصصة متجاورة تبدأ من نقطة مركزية في أعلى القبة وتنتهي بنهايتها ، و تبدأ الاشرطة المذهبة رفيعة ثم تمتدعرضا كلما اقتربت من نهاية القبة ، ويعلو هذه القبة جزء معماري معدني مذهب ذي قوام اشبه بالشكل الكروي ، يمثل قاعدة يرتفع فوقها تشكيل معدني ذهبي مميز للفظ الجلالة " الله " عز و جل.
نزولا الى أسفل القبة باتجاه قاعدة المنارة نجد الجزء الاعلى من بدن المنارة الاسطوانية وهو مكسو بصفائح مربعة الشكل من الذهب الخالص مصفوفة بشكل معيني ، تبدو كأنها اشرطة من الذهب ملتفة حول بدن المنارة متجهة الى قمتها بشكل اشبه بالحلزوني .
الى اسفل هذا الجزء من البدن الاسطواني الذهبي ، نجد تكوين معماري آخر يتمثل بحوض المئذنة الذي يشغل مساحة معمارية دائرية أعرض من بدن المئذنة تضيق كلما إمتدت الى الأسفل لتنتهي مع بدن المئذنة بجزئها السفلي ، وهذهِ بدورها مثلت مساحة زخرفية أُخرى تألفت من شريط زخرفي مبسط شغل جزئها العلوي كأنه مظلة تغطي وسط حوض المئذنة الذي يمثل وظيفيا مكان وقوف المؤذن في عهود ماقبل الصوتيات الحديثة . اسفل هذا التكوين الاشبه بالمظلة ، يقبع حوض المئذنة كفضاء يحيط به جدار مكون من مجموعة متراصفة من العقود الغير متكاملة " اشبه بالعقود الموتورة " تفصل بينها اعمدة ذات قوام ذهبي طوليا ، والى الاسفل كجزء مكمل لكل عقد يبرز صف من التشكيلات الزخرفية المتماثلة والمتكررة منقوش عليها بزخرفة نجمية سباعية من الذهب الخالص بقوام خماسي" خمسة نقوش نجمية " على ارضية منبسطة من الذهب الخالص اسفل كل عقد منها .
الى اسفل الحوض نلاحظ ان المساحة الزخرفية اللاحقة تبدأ بالتناقص تدريجيا بقوام ثلاث مصفوفات متناقصة من المقرنصات الذهبية المتشابهة والمتماثلة التراكيب تتناقص تدريجيا وصولا الى بدن المنارة الاسطواني وتكوين زخرفي اخر " مثل فاصلا بين تركيب زخرفي واخروبين وسط المنارة واسفلها " ، انجز على شكل شريط عريض مغلف بطبقة من الكاشي الكربلائي ازرق اللون ذي بريق معدني مميز منقوش عليه آي من الذكر الحكيم لبعض ماتيسر من سورة الجمعة و بالذهب الخالص وبحرفية عالية ، تمثلت بقوله تعالى ((يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) .
ثم يبدأ الجزء الأسفل والاطول من بدن المئذنة الذهبية بشريط مبسط من الالواح الذهبية مستطيلة الشكل مرصوفة افقيا لتكون فاصلا بين وحدة زخرفية واخرى تحتها ، ثم الى الأسفل منها تبدأ مجموعة من الأشرطة الذهبية المتجاورة والمتكررة بالتفافها حول البدن بأتجاه القمة منبثقة من نهاية المئذنة ، ومن الملاحظ والمثير للانتباه وجود احدى الصفائح الذهبية المتكررة على جانبي البدن الذهبي للمنارة تحمل زخرفة كتابية كأحفورة نافذة جاءت كتكوين زخرفي نباتي بشكل عكسي متناظر يحتضن بوسطه نداءا باسم سيد الشهداء عليه السلام " ياحسين " وقد عمد الفنان المسلم في وضع هكذا نقوش متناثرة على البدن رغم صغرها لأضفاء جمالية اعلى على البدن المتسم بسياقية وانبساط الصفائح الذهبية خالية النقوش ، فضلا عن حاجتها الوظيفية التقليدية المعمارية للانارة الداخلية والتهوءة لبدن المنارة في النهار .
اعتمد الفنان في تصمييم نقوش هذه المنائر الحسينية على البساطة والتكرار في الاشكال والاجزاء فضلا عن انتقاءه اللون الذهبي كأرضية لتلك التشكيلات الزخرفية التي تتسم بنفس اللون والهيئة ، سعيا منه لأظهار هيبة المكان وسموه ورفعته ، فالفن الاسلامي بشكل عام يشير و يرمزو يختزل و يرتفع ويسمو بأعماله نحو الجمال الحقيقي المتمثل بالجمال الالهي الحق ، فهو " الفن او الفنان " لا يصرح بجمال الاشكال انما يجعل من المشاهد مكتشفاً لتلك الحقيقة ، فمفهوم الاله الواحد هو الفكرة الاساسية التي يحاول الدين الاسلامي ايصالها للعالم ، لذلك نرى أن الفن الاسلامي يتخذ من هذه الفكرة محوراً أساسياً في أعماله ، يصورها ويدل عليها بطريقة رمزية ، بحيث يتوصل المشاهد بنفسه الى حقيقة الاله الواحد و جمال خلقه ورحمته وقدسيته وهذا ما يجعلها أكثر اقناعاً ورسوخاً ، فاللغة التي يستعين بها الفن الاسلامي لأيصال رسالته ، هي في الأساس صورة حسية بصرية ، قراءتها تستوجب الاندماج في العمل وتسخير كامل الطاقة المعرفية والخبرات السابقة فضلا عن استثارة الذاكرة البصرية الممتزجة بعقيدة نابعة من ايمان حق بالله وانبيائه ورسله وحججه على العباد من خلقه وما الى ذلك من عمليات ذهنية معقدة لادراك المعنى الماورائي للاشكال .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق