حُلة بهية قشيبة ذائبة في جدار روضة من الجنان تحتضنها أواوين أخاذة للعين دافئة تسمو بجمالها، تدعو قلوب المتشوقين للرحمة في كل وقت للصلاة للتوجه صوب رب غفوررحيم ، ذلك هو محراب قبلة الصحن الشريف لمرقد ابي الاحرار وسيد الشهداء ابي عبد الله الحسين سلام الله عليه.
اهتم المسلمون بالمحراب مذ الوهلة الاولى لبناءهم المساجد كونه احد اهم العناصر والاركان المعمارية الاساسية المكونة لدور العبادة الاسلامية ، غاية منهم لدلالة المصلين بأتجاه القبلة ليقفوا خاشعين بين يدي الله عز وجل للصلاة .
تنوعت اشكال المحاريب وهيآتها باختلاف الظروف الزمكانية التي شيدت فيها ، حتى ازدانت اشكالها اليوم بجمالية خلاقة فريدة من نوعها ذات لكنة اسلامية بحتة تبهج المشاهد داعية اياه للتامل بعظمة الخالق المصورسبحانه و تعالى .
من مزايا الفن الإسلامي بكل انواعه هو المقدرة على صناعة الجمال الخلاق ، والزخرفة كاحد انواع الفنون الاسلامية باشراكها ومزجها مع فن العمارة الاسلامية تعتبر احدى الوسائل المهمة والمناسبة لصنع هكذا جمال ، فبهما معا "الزخرفة والعمارة الاسلاميتين" نستطيع الوصول الى الجمال المعني الموسوم بألتقاء شكل العمل الفني بمضمونه ليكونا وحدة متماسكة و يشكلا تحفة فنية تطغى عليها صفة الجمال والروحانية وهذا ما لا نجده في كل أنواع الفنون الاخرى .
هذه الصورة الفوتوغرافية لأحد الأواوين المتجاورة المكونة لأروقة الروضة الحسينية المقدسة في كربلاء ، يحتضن بحنيته المزخرفة محراب للصلاة ، مجوف مكسي بحلية من الكاشي الكربلائي منقوش بالفسيفساء الخزفية مغطى بزخارف اسلامية ذات عناصر هندسية ونباتية وبعض من الكتابية ، ملونة بألوان معدنية موشحة بدهان أزرق كوبلتي منسجم مع الازرق الفيروزي بجانب البريق المعدني الذهبي .
الايوان مؤطر بشريط حلزوني مذهب يحتضن كيان فني معماري من تكوينات زخرفية متنوعة تحيط وتتداخل مع المحراب في الوسط .
التكوينات الزخرفية تشكلت بقوام من زخرفة نباتية متداخلة مورقة الاغصان غاية في الروعة والاتقان ، يتوسط هذا التكوين الفني شكل ثماني يحمل لفظ الجلالة " الله " ، وقد نقش مرتفعا اعلى المحراب الداخلي ، يتوسط شقي الايوان الملتقيان بنقطة ليشكلا قبة تحمل في داخلها وحدات زخرفية ذات تفريعات شجيرية نباتية هائمة داخل اطارالايوان .
عمد الفنان الى تكرار هذا الشكل بصورة اقل تفصيلا في المساحة الواقعة داخل الشكل الاول الكبير "الايوان" فظهرت قبة صغيرة تتواشج مع محيطها زخرفياً مكونة المحراب الداخلي في الوسط ، يعلوه في اعلى وسط الايوان مجموعة من الحنايا المقببة المتدلية يستقر بعضُها فوق بعض بصفوف هندسية متواشجة كأنها خلية نحل تتدلى من السقف .
لو تأملنا الشكل للاحظنا ان الفنان قد وضع المحراب داخل مساحة مستطيلة قائمة ، تجاورها مستطيلات عمودية اخرى تملأ باطن الايوان ومحيط المحراب ، يحوي كل مستطيل منها وحدات زخرفية ممتلئة بالاشكال النباتية المجردة لتحيل ذهن المتلقي الى الامتداد خارج حدود الرؤية البصرية المحددة ، فعمليات التكرار والتراكب والتماثل والتداخل فضلا عن التناظر في الوحدات الزخرفية المتواجدة في نصفي الشكل العام للايوان والمحراب في الوسط ، قد اكسبت الوحدات الزخرفية المكونة للعمل الفني وحدة شمولية ضمن حركة ديناميكية ترمز الى الجمال والوحدانية ،مما اضفى عليها قدسية تعبيرية كانها ترمز الى صلاة الجماعة بتراكيبها المزدحمة .
لا يخفى دورالفنان ومقدرته في اكساب العمل الفني الحركة من خلال توظيف عنصر اللون واعطاءه دلالات رمزية كادت ان تكون سماوية للرائي المتأمل كاللون الازرق الفيروزي والذهبي والنيلي وغيرها من الالوان ، والتي عبرت عن موقف الفنان الروحي والرمزي تجاه القوى اللا مرئية مقابل اقصائه التام لملامح العالم الخارجي الملموس والحيلوة دون اشراكها في الشكل.
ان الاسلوب المجرد الذي نفذ به هذا التكوين الفني ومايناظره من هكذا اعمال قد تجلى من النقطة الجوهرية المتجسدة في ايمان الفنان المسلم بعقيدته " إن الله سبحانه وتعالى متواجد في كل زمان ومكان وهو اقرب للانسان من حبل الوريد" ، مما دفع به الى الابداع عبرعمليات حدسية متداخلة تخلق احساساً بالامتداد الحركي من خلال تجريده للاشكال من واقعيتها ، للوصول لحقيقة ان اللا مرئي المطلق هو النافذة الوحيدة التي تطل على الوجود الروحي الموصل الى الجمال الالهي على اعتبار ان الروح من وجهة نظرالمسلمين تبحث عن حقيقة صورية مثالية تقتدي بالمثال الالهي، متجاوزة كل حدود القياس التقليدي الشكلي .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق