خطوط تحرك سَواكِنَ الروح ..

أفرد العرب المسلمون في فن الخط العربي وحاولوا رفعه الى اعلى مراتب الإبداع والجمال ، فمذ اصبح القرآن الكريم الركيزة الاساسية في المجتمع الاسلامي والبنية الحضارية للمسلمين أمسى للحرف العربي منزلة ومكانة مقدسة ، فقد شجع رسول الله " صلى الله عليه واله " والأئمة الاطهار " عليهم السلام " من بعده ، على تعلم القراءة والكتابة ونشر تعاليم الدين الاسلامي في ارجاء المعمورة فضلا عن تجويد الكتابة والخطوط ليكون للحرف العربي دلالة وهوية مميزة دون غيره قلما نشاهدها في حروف الامم الأخرى ، ليصبح محورا جماليا تزيينيا مكملا لفنون العمارة وكل ما يمت للانسان من فعاليات تطبيقية ومعرفية وجمالية .

فقد زينت الآيات القرآنية جدران المساجد والاضرحة المقدسة والبيوت والمساكن الضخمة ، لتتوج كلمات الله مداخل الابنية وتكون تلك الكلمات المقدسات اعلاناً ودلالة للدين الاسلامي وايماناً بالله عز وجل ، حيث كان الوازع الديني يتخلل الوعي واللاشعور للانسان المسلم ، حتى أخذ هذا الدور الديني العقائدي يتنافذ في نفسية المبدعين منهم  ليبدعوا في نتاجاتهم الابداعية الفنية في الخط العربي وعملية تجويده متخذين اياها نوعاً من العبادة والخضوع والتقرب من الله جل شانه  .

المخطوطة اعلاه هي احدى نفائس الابداعات الفنية الخطية القديمة في الهند التي اشتهرت بوجود اكثر من ثلاثين نوعا مختلفا من فنون الخط باللغات العربية والأوردية والفارسية ، وقد نفذت هذه اللوحة باليد بطريقة رائعة وتجلت فيها عبقرية الخطاط المسلم ويده المرنة وقابلية ابتكاره وتجويده للحروف ، وتمثل المخطوطة مزيجا فنيا رائعا من الخط العربي والزخرفة الاسلامية المنفذة على سطح من الورق المقهرالقديم عالي الجودة وبأحبار والوان مختلفة .

اتت المخطوطة بابعاد  " 25.5 سم * 18 سم " بإ طار زخرفي متجانس يحيط بلفظ الجلالة " الله " الذي يمثل التكوين الكلي للوحة ، وقد زوقت المخطوطة بالوحدات الزخرفية ذات العناصر الهندسية والنباتية ، المتمثلة بشريط زخرفي يكمن في داخلها ضمنا حركة ديناميكية هادئة لزخارف نباتية اخرى على شكل توريقات وتفرعات غصنية أتت ضمن اشكال هندسية متجاورة تقترب بأشكالها من هيئة العقود الاسلامية الخالية من العناصر الكتابية ، لتحيلنا الى فكرة التسبيح لله وتوحيد الخالق سبحانه وتعالى .

ان الزخارف ذات العناصر التكوينية النباتية ، المحاطة بالاشكال العقدية برعمية الاطراف قد شكلت احد العناصر الاساسية للصورة الاسلامية ، فهي لم تحاكي المرئي الملموس بل نجدها تحاكي اللا مرئي " ماوراء الاشكال وبواطنها " كونها تمثل اشكالا مجردة خالصة تبتعد عن نتاجات الفن التزويقية التي تقترب من اصلها المرئي " اشكال الاوراق والاغصان الطبيعية " ، ومن الملاحظ ايضا في هذه المخطوطة ان العناصر الهندسية الزخرفية المتواشجة في فضاء العمل التصويري تحيط بالتكوين العام للمشهد لتكون إطاراً هندسياً يحوي بداخله تراكيب من توليفات بسيطة جميلة لعناصرنباتية مميزة بألوانها واشكالها نجدها تنساب وهي منزلقة الى بعضها البعض لتكون كلا ً متكاملا مغلقا من الوحدات الزخرفية التي تبرز مركز ثقل اللوحة " لفظ الجلالة الله " من خلال اختلاف الالوان وسماكة الخطوط واختلاف كيانها " خط وزخرفة " ، إذ تتواصل هذه الاشكال المتضافرة مع بعضها البعض لتحيل المشاهد لإستشعار الوجود المطلق المتمثل بالله سبحانه وتعالى .

 يبدوان الفنان المسلم إرتأى ان مثل هكذا تواشجات فنية تكون كافية لتوجيه ذهن المتلقي الى وجهة روحية قدسية ، نحو الفعل التعبدي الذي يحاول " الفنان المسلم " تشكيله في اغلب اعماله خطية كانت ام زخرفية ، فهو يسعى جاهدا الى توظيف الاشكال تقنياً وفنياً وجعلها مؤثره في المشاهد ، من خلال استعانته بعناصر التكوين الفني المختلفة وبالاخص عنصر اللون ، فقد استخدم الفنان في هذه اللوحة الوان الابيض والذهبي بدرجة معينة تعبيراً عن نقاء الروح المسلمة فضلا عن البني المجاور للازرق وبالوان صريحة وغامقة بما يتوافق مع الهيئة العامة للوحة ، وعمد الفنان الى استخدام الوان الاحمر والاخضر وبعض من الدرجات المتباينة للون الزهري ليضفي على الشكل العام جمالية استثنائية ويوهم الناظر بوجود حركة في مركز المخطوطة تمتد بالفكر الى اعلى مستويات كوامن النفس المسلمة المستشعرة للابداع الالهي لادراك خالقها مثلما ادركت عالمها الارضي الملموس  .

 فالالوان والاشكال الهندسية والخطوط المكونة  لهذا العمل الفني وعلاقاتها فيما بينها ، جاءت ممثلة لفكرة التوحيد التي نادى بها الله عزَّ وجل على لسان نبيه " عليه وآله افضل الصلاة والسلام " ، ليصبح الفن الاسلامي محض وسيلة تحيل المتلقي الى فضاءات لا متناهية  تتصل بالخالق ، ففكرة التوحيد في الفن الاسلامي الذي يحاول الفنان المسلم ترسيخها في هذا النموذج تأتي من خلال ربط الكل بالجزء ربطاً فكرياً متكاملاً يعطي لكل جزء من اجزاء النتاج الفني مفاهيمه وتوجهاته ولغته وهويته ، لان الصورة الاسلامية قد انطلقت من مفهوم فكري مستند الى نصوص القرآن الكريم وكلام الله سبحانه التي تؤكد على وحدانية الخالق عزّ وجل و المتجلية بأنوار هدايته لعباده .

 (( جعلنا الله واياكم من العابدين المهتدين ... بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين ))

سامر قحطان القيسي

المرفقات