" الدين والفن شعاعان نابعان من مشكاة واحدة ، غايتهما السمو بالروح الإنسانية في محاولة لتحقيق كمالها ، ليصير الجسد تابعا لها في الاستقامة و الالتزام ، فالفن دعوة صريحة للقاء ميتافيزيقي ماورائي بين الجسد والروح وعوالم غير ملموسة سعيا لأحداث توازن فيما بينها " ، هذا ما تختلج به خواطر الفنان المسلم الذي لطالما ظل موقفه ثابتاً إزاء الفن و الجمال وطبيعة الاشكال ، كونه موقف منهجي يعتبر الفن غذاء للروح وليس نزعة عارضة محركة للنزوات تأتي بها مدرسة وتذهب بها أخرى ، فـ " اللاطبيعة وتجريد الاشكال " خاصية أكيدة من خواص الفن الإسلامي ومن شأنها احداث توازن بين الروحي و الجسدي سواء لدى الفنان او المتلقي عند تعرضهما لأي منجز فني اسلامي الهوية .
هذه اللوحة أتت ضمن سلسلة اعمال ابداعية للفنان التشكيلي العراقي الراحل " فرج عبو " ، وهي من ضمن مواضيعه المتنوعة والمميزة بالتجريد الهندسي المستمد من جذور الفن الاسلامي ، وقد نفذت اللوحة عام 1967م بتقنية الزيت على قماش الكانفاس بأبعاد 50 * 70 سم بعنوان " تجريد اسلامي " ، .
ولد عبو في مدينة الموصل العراقية عام 1921 م ، عرف الفن منذ صباه ماراً بعدة مراحل وتجارب مختلفة ، درس الرسم في كلية الفنون الجميلة في القاهرة وحصل على الدبلوم العالي في الاختصاص من اكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1954 وكان من اوائل المنتمين الى جماعة بغداد للفن الحديث ، عين مدرسا في معهد الفنون الجميلة 1954- 1967ثم زاول تدريس مادة الفن في اكاديمية الفنون الجميلة – بغداد ، حتى وافته المنية عام 1984م .
تميزت اعمال الفنان بالاختزال والبساطة في الشكل واللون وحتى التكوين ، خصوصا بعد انتمائه الى جماعة بغداد و دراسته المتواصلة للآثارالفنية الأسلامية ، فأخذت اشكاله سمه التبسيط والتسطيح وسرعان ماتحول اسلوبه نحو التكرار الهندسي الذي نقله الى دراسة الزخرفة العربية الاسلامية ، فاصبحت اعماله التجريدية اقرب الى الزخرفة المتداخلة بتوزيعات لونية متناسقة ، ليلتجئ الى الخطوط اللونية العريضة في تحديد مساحات الاشكال ، فاستحالت عوالمه الهلامية اللينة الى نقوش هندسية يتداخل فيها الضوء و اللون بإشعاعات متنوعة ، لتبدو مواضيعه وكأنها مدن خيالية او بسط منسوجة بحرفية ، لتستقراعماله لتأخذ طابعا ذا بناء زخرفي اسلامي مميز .
في هذا المنجز مثل فرج عبو مجموعة من التكوينات التجريدية الزخرفية ، منها ما هو نباتي وآخر هندسي وكتابي ، حيث اعتمدت التكوينات في هذه اللوحة و بشكل أساسي على اللون وقيمته في إبراز الحدود العامة للزخارف فضلا عن تداخـــــل ألاشكال فيـــما بينها ، إلا أن المساحات الرئيسية شكلها الفنان بأشكال مربعة ومقوسة ودائرية ، فالمنتصف يحتوي على شكل قوس أشبه بالعقود على البوابات الإسلامية ، تميزت حدوده بخطوط مقوسة تنتهي بقاعدة مربعة الشكل ضمت بينها أشكالاً ذات وحدات نباتية ، ومن اعلى حدود القوس العليا التصق به شكل لمعين توسطته دائرة قسمت من مركزها بخطوط شعاعية أحيطت بها زخارف من وحدات مثلثة القوام ، فيما كانت الزاوية العليا بشكل مربع ضم تكوينات زخرفية كتابية تشبه أحرف الخط الكوفي المربع يبرز من وسطها شعاعان بأقواس خضراء تتداخل مع باقي المساحات المقوسة ، وحملت في طياتها زخارف تشبه أشكال الفراشات وزخارف متقاطعة فيما بينها ، تعتليها زخارف بشكل خط كوفي مربع .
استخدم الفنان الأسلوب التجريدي والهندسي بشكل قصدي وبأسلوب متقاطع ليعبر عن الصراع والمقاومة والحركة الجدلية التي تمثلها تلك الزخارف لتولد منها أشكال الأقواس التي مثلت الشكل السيادي في المشهد فضلا عن ، إن تداخل الأشكال وانتشارها على جميع فضاء ومساحة المنجز قد ساهم في إضفاء طابع الرصانة للبناء العام للوحة ، أما الألوان فقد تنوعت وتباينت باختلاف الزخارف واختلاف مواقعها ، إلا أن الملفت للنظر هو وجود الألوان الحارة في النصف الأسفل من المشهد العام وخصوصاً ما توسط الشكل الشبيه بالبوابة المقوسة ، فيما كان النصف الأعلى من اللوحة بألوان باردة تتخللها بعض الألوان الحارة بنسبة قليلة مما ساهم بإعطاء المشهد قيمة تشكيلية مميزة خلقها الفنان بين وحدات الزخرفة واجزاءها المتداخلة.
ولا ننسى ما للتكوينات المتباينة من دور مهم في تشكيل وحدة المشهد العام وتداخل مفرداته فيما بينها ضمن الوحدة النباتية للتكوين الواحد ، فقد وظف الفنان تلك الزخارف لتكون بمثابة رموز إسلامية تحمل مضامين روحية تُجَسّد طبيعة الدين الإسلامي وروحيته المعبرة عن الأبدية والخلود ، مستثمرا تداخل الوحدات عبر تلك الزخارف الدائرية واعطاءها معنى الاستمرارية واللا نهائية التي يمتاز بها الفن الاسلامي ، إضافة إلى الألوان التي مثلت بها تلك الزخارف حيث اللون الأحمر لون العاطفة ، والأخضر لون الجنة ورمز المقدس في الإسلام ، فضلاً عن الأزرق الذي مثل بطريقة مغايرة عن رمزيته في الإسلام حيث يمثل طابع البرودة والسكون وهو رمز السماء لذا وضعه الفنان أعلى اللوحة ، في حين نرى الألوان الصفراء والبرتقالية في أسفل المنجز دلالة على لون الأرض وما يؤكد ذلك وجود لفظ الجلالة رمزاً إسلامياً في أعلى المنجز أي في أعلى السماء وهو متداخل ضمن تكوين زخرفي وبشكل مخفي لا يكاد يميز إلا عند إمعان النظر بشكل دقيق .
اما خروج الأقواس الخضراء من ذلك التكوين فهو يجسد دلالة رمزية على أن الله " جل وعلا " هو مصدر الحياة الواحد وهو خالق الكون ومالكه وهو العلي الأعلى رب السماوات والأرض ومابينهما ، كما غمد الفنان الى توظيف الخط الكوفي زخرفيا ، محملاً هذه الرموز الكتابية مضامين دينية وروحية ، كون الحرف العربي وتكوينه ورسمه أثر مهم في تحقيق الرسالة الاتصالية بين الفنان والمشاهد المسلم وغير المسلم.
افلح فرج عبو في تمثيل هذه الزخارف وتوظيفها كوحدات رياضية هدفها الوصول إلى الحقيقة التي لا تنحصر بمكان أو زمان ، حيث تمكن الفنان من تلخيص الواقع الحياتي للمجتمع الإسلامي على شكل لغة بصرية جمالية ذات رموزو وحدات هندسية وكتابية ، يمكن من خلالها الوصول إلى الجمال المطلق و الحياة المثالية التي يهدف لها الاسلام .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق