تضيق النفس فيتسارع القلب للاستغاثة بالله ، ليطرق باب رحمته متوسلا له بعباده الصالحين، خجلا بالسؤال وكله ثقة بالاجابة بأن لاترد تلك الكفوف التي رفعت بالدعاء ، ومزجت بترنيمتها حروف المناجاة ودموع الامل ، لتترجم بعباراتها " اللهم اَدْرِجْني اِدْراجَ الْمُكْرَمينَ، وَاجْعَلْني مِمَّنْ يَنْقَلِبُ مِنْ زِيارَةِ مَشاهِدِ اَحِبّائِكَ مُفْلِحاً مُنْجِحاً " ملوحة ببوادر النجاة بانوار تخاطب الوجدان كانها مشكاة تضيئ ظلمة القلوب ، تتجاذب اطراف الحديث مع شغافها لتزداد ولهاً لحلاوة أُنس لقاء الله ورحمته ، وتصبح الافئدة متطلعة إلى محل جنته ورضوانه ، و الابصار شاخصة إلى مقام قربه ووصاله الذي لا يكون ..إلا بحب محمد واله سلام الله عليهم اجمعين .
المشهد اعلاه يستشعره المرء عند وقوفه في باحة العظمة وكله يقين بان خلف تلك اللوحة الذهبية المزخرفة من يسمع مناجاته ويستجيب دعاءه ، اذ انه لايلتمس الذهب والفضة ولايتقرب بلوحة صنعها انسان ، بل يطرق بابا من ابواب رحمة الله الواسعة ، حاول الفنان المسلم فيها جاهدا ان يضفي الجمال الحق بلمساته عند مثوى سيد الجمال ابي الفضل العباس " عليه السلام ".
تطورت وتنوعت الأساليب الزخرفية المنفذة على سطوح الخزفيات عبر الازمان ، سواء من حيث المشاهد التصويرية المنفذة أو من حيث الشكل أو التقنية وصولا الى عصرالاسلام وعقيدته التي كان لها اثرواضح على بنية الفنون بشكل عام و بنية التصويرعلى السطوح الخزفية بشكل خاص ، فقد ارتسمت تلك البنية ببيئة التوحيد ونشدان المعانى العامة اللا تشخيصية بأتجاه التجريد ، فالفن الاسلامي يتعمق ويتغلغل في صميم الاشياء وماورائياتها ليختصر لنا ما هو كلي فيما هو جزئي ، وماهو عام فيما هو خاص ، فالتجريد في الفنون عملية يتجاوز فيها الفنان كل ماهو مرئي وصولاً الى الرؤيا الحدسية والرؤيا الرمزية بعيدا عن الواقع ومحاكاة الاشكال المحسوسة والمرئية ليحملها معان جديدة جدلية مستمدة من مخيلته بروحية اسلامية وباشكال زخرفية مميزة.
تطور فن الخزف تطورا ملحوظا وبشكل كبير من بين الفنون الاسلامية حتى وصل الى أوج ازدهاره في العصر السلجوقي وما تبعه في العصر العباسي ، حيث ابتكرت انواع مهمة من التقنيات في الرسم والنقش على النتاجات الخزفية نفذت بكل دقة ومهارة لم تكن مسبوقة من قبل في فن الخزف لتتطور وصولا الى عصرنا الحاضر بتقنياته الفنية الحديثة المعاصرة .
ينطوي في المشهد اعلاه رائعة خزفية تضم جملة من المفردات التي تناولتها الخزفيات الإسلامية المزججة ، لها اسلوبا خاصا ونصا خزفيا ذا خصوصية مادية وروحية مكتسبة من المكان الذي تشغله في اعلى اركان الشباك الذهبي المطهر لضريح المولى المقدس ابي الفضل العباس " عليه السلام " فضلا عن ، استخدام تنوعا مميزا من المفردات الزخرفية النباتية المتشابكة ودمجها في وحدة بنائية زخرفية واحدة ، مما منح العمل انتشاراً زخرفياً يوحي بالإنتظام والتشتت في تناظرية الأشكال ليبدو للمشاهد وكأنه أمام سطح تصويري لمنمنمة إسلامية مميزة بعناصرها المتناغمة .
يمثل هذا الانموذج جرة من الخزف المحزز " ذي البريق المعدني " تغطي فوهتها مشكاة من جنسها الخزفي ازرق اللون ، تحتوي على مجموعة متنوعة من الزخارف النباتية البارزة و المتشابكة تضفي مسحة جمالية على بدنها الرشيق ، قاعدتها عبارة عن فخار مزجج مطعم بشريط من الذهب في حين توزعت الاشكال الزخرفية على ارضية زرقاء اللون تغطي بدن الجرة بالكامل وعلى طول مساحتها من القاعدة الى الفوهة المغطاة بالمشكاة .
التزم الفنان بالزخرفة النباتية في هذا النص الفني واكسبها تنوعا ضمنيا باختلاف هيآتها على محاور الجرة الافقية تماشيا مع قدسية وروحانية المكان وجماليته ، حيث اكتسب السطح الزخرفي بعداً جمالياً لموضوعة المشهد الماثل ، من خلال توزيع الاشكال المتنوعة و وتباينها مما يعكس الاسلوب الجمالي الذي تميز به الفنان المسلم في هكذا نوع من انواع الفنون الاسلامية .
نفذت الاشكال الزخرفية التزيينية على المزهرية بأسلوب دقيق جمع الاشكال بتوليفة تشير إلى مبدأ الوحدة والتنوع ، فتنوع المفردات قاد إلى وحدة الإنشاء والعمل على بناء تشكيلي موضوعي قد يشير إلى موضوعة المكان واجواءه الروحانية العبادية لتعود بالمشاهد إلى وحدانية الخالق وقدرته في تسيير كل الموجودات ضمن هذا الكون الواحد ، فلم يترك الفنان المسلم للفضاء من وجود بمنحه هذا التكوين زخماً من المفردات في انتشارية عالية أبعدت الموضوع عن السكون واقتربت من الحركة الدائرية حول محيط الحلية .
ومن هنا نلمس أن موضوعة هذه الحلية الخزفية الاخاذة وموقع وجودها ماهو الا عملية هضم وتداخل نفذها الفنان المسلم بين المحاكاة والعشوائية و قدسية المكان ودلالاته الروحية وإخراجه على توصيفات شكلية مؤثرة باندماج توافقي متجانس يشتغل على مبدأ الإيقاع الحركي والذي هو بالنتيجة إشارة إلى موضوعة الحياة الكونية اللامرئية في عالم الذر وما تحتويه من فعل جمالي تزييني انعكست معطياته بشكل او باخرعلى روحانية الاعمال الفنية الاسلامية وجمالياتها .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق