يكاد الناظر إلى اللوحة ان يشعر بدفء الأجواء العبادية ويخشع لسماع صوت الاذان وصدى كلماته ، وهو غائرفي تلك السكينة التي صورها الفنان كأنها بداية شهر هجري جديد مميزا اياه بهلال نحيل في قلب السماء تدنوه مأذنة مرتفعة وخشوع للمصلين بين يدي الله عز و جل في ساعة الغروب .
رائعة اخرى من روائع المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم عن الشرق العربي الاسلامي ، وهي كالاخريات من مصوراته الفنية ، وثق فيها مشهد واقعي من حياة الشارع العربي الاسلامي في مصر التي نالت نصيبها الاكبر في اعماله الفنية ، حيث تأثر بها واحبها حتى بلغ افتتانه وشغفه الكبيرين الى أن كرس لها الكثير من لوحاته وعكف على تصويرها طيلة فترة مكوثه فيها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي .
اللوحة بعنوان " صلاة في القاهرة " انجزها الفنان بتقنية الزيت على قماش الكانفاس عام 1865 م ، مازالت حتى وقتنا الحاضرتشغل احد اروقة متحف " متروبوليتان للفن " بولاية نيويورك في اميركا .
نلاحظ في هذه اللوحة من منجزات الفنان انه عمد الى رصد الافعال الحياتية اليومية لسكان القاهرة ومنها الصلاة " منفردة كانت ام جماعة "، فمن المعروف مثلا ان للمصريين " في القاهرة بالتحديد " عادة مألوفة في الصلاة على شكل جماعات او فرادى فوق اسطح المنازل والمساجد بسبب الكثافة السكانية العالية وتزاحم اللمصلين في اروقة المساجد ، وقد صور جيروم ذلك بدقة في هذه اللوحة ، حيث نرى مشهد قريب لجماعة من المصلين افترشوا الاسطح ما بين راكع وساجد وآخر رافعا يده للدعاء ليؤدوا صلاة المغرب وهم يشكلون جماعات لقيام الصلاة ، ويبدو ان هناك ايذانا ببداية شهر قمري جديد بدلالة الهلال الواضح في اعلى فضاء اللوحة فضلا عن لون السماء الذي يوحي بفترة الغروب ، كذلك نرى المؤذنين يعتلون قمم المآذن الاخرى لرفع الاذان والابتهال الى الله تعالى ، كل هذه التفاصيل اوضحها الفنان ليوحي للمتلقي بروح شهر رمضان المبارك في القرن التاسع عشر و الذي لا يختلف عن رمضان واجواءه الساحرة في عصرنا الحاضر .
صور جيروم اللوحة مستثمرا الفضاء ليكسبها بعدا منظوريا دقيقا ، استطاع من خلاله رسم الاشخاص بدقة وحرفية عاليتين ليجعل من هؤلاء الاشخاص المصلين بارزين امام اللوحة ليكتسبوا مركزا سياديا عن باقي الاشكال من خلال الوانهم ودقة ملامحهم وهيأتهم وحركاتهم في الصلاة فضلا عن سجادات الصلاة و مستوى الابداع في نقوشها والوانها الزاهية .
تميزت اللوحة بملمس ناعم وألوان موضوعية وذاتية ، نفذها جيروم بدقة ، بدرجات لونية متنوعة ومحايدة ، معتمة وفضفاضة بارزا فيها مستويات الضوء المختلفة مستعملا الفرشاة بما يتناسب وطبيعة تكوينات اللوحة ودلالاتها المختلفة " بناء هندسي واشخاص " ليكون جوا روحانيا وحد به بنية اللوحة لتصبح عناصرها كل متكامل لايتجزأ.
لوتأملنا في فضاء اللوحة للمسنا قدرة الفنان وبراعته بتصوير القاهرة القديمة من اعلى ، فالى الخلف من المصلين تحديدا نجد ان الفنان قد اهتم برسم عمارة المساجد من مآذنها وقبابها المتباعدة بتفاصيل هندسية وابعاد منظورية دقيقة جدا ، مشكلا ارضية اللوحة وعمقها ، ولكنه جعلها تبدو بالوان باهتة قليلة الوضوح بحكم مستوى الضوء في فترة ما قبل زوال الشمس فضلا عن جعلها تصورعمق اللوحة بأبعاد مختلفة .
شكلت المآذن ومعتلي قممها من المؤذنين والبيوتات البعيدة ومن عليها من المصلين خلفيه مميزة زاهية للوحة ، بالخصوص بأندماجها وتجانسها مع لون السماء ساعة الغروب ، اضافة للمصلين في المشهد الوسطي " مركز اللوحة " الذي يوحي بلحظة روحانية تغمر المكان فضلا عن ، السماء بلونها الهادئ وهلالها الرقيق ذي الإشراقة الخجولة والضوء الخافت .
كل هذه الاشكال والألوان الناعمة والمتناغمة بدفئها وتماهيها وذوبانها في بعضها البعض تتوالد عنها عناصر روحية حية تُبث من اللوحة ليتلقاها المشاهد المتأمل لها كأصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس يستشعرها بتأمله حبكة عناصرها وتكويناتها المتآلفة فيما بينها .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق