لا ريب ان لكل منا نحن بني الانسان حياتان تتظافران في تكوين ذاته البشرية، اولاهما الحياة الروحية، والاخرى نطلق عليها الثقافية. الاولى تتمثل بنور الوحي الالهي والاتصال بالله سبحانه وتعالى، الذي ينزل السكينة والدفءعلى قلوبنا بالتمسك بالعروة الوثقى ونورالهداية المحمدية، اما الحياة الثانية فهي مكتسبة، وتتمثل بالفكر البشري وتوظيف العقل الذي كرم الله به عباده من بني البشر لينتهل به من مشارب العلم والمعرفة ويتجه به الى الحياة الروحية كاسبا بذلك انسانيته التي فطره الله عليها.
كما ان حياة الانسان الروحية لا تتعارض وحياته الثقافية، فهما إن اندمجا معا يسهمان بسموالفرد الى انسانيته من خلال العمل على تربيته وتهذيب روحه وفكره معاً، فيظهر بعد ذلك ماخفي من جانبه الانساني. والفنان التشكيلي يسعى جاهدا لاظهار ذاته الانسانية من خلال ابداعه بانجاز قوام اللوحة الفنية وحبكتها الجمالية، التي قد تمثل استعراضاً دقيقاً لحياته الثقافية المنغمسة بحياته الروحية.
هذا التكوين الفني الابداعي من منجزات الفنان المغربي "عبد الله الحريري " الذي يبدو فيه انه قد افلح بدمج حياته الروحية مع ما اكتسبه من خبرات وثقافات عبر مسيرته في مجال الفن التشكيلي ببراعة .
الفنان من مواليد الدار البيضاء في المغرب 1949 م ، نشأ وترعرع باحد احياءها الشعبية المتواضعة المكتظة بالسكان من طبقات اجتماعية مختلفة ومتناقضة.
طبعت كل هذه المتناقضات لوحات الفنان بطابعها فمنها كانت انطلاقته الفنية ، فالمنطقة التي نشأ وترعرع فيها كانت على اتصال مباشر مع اوروبا ، واغلب سكانها بأختلاف اطيافهم وتوجهاتهم كانوا ينتهلون منها " اوروبا "مايستطيعون من ثقافات وصناعات وحرَف ورسوم وغيرها سعيا منهم للتقرب من العائلة المالكة والطبقة المترفة في البلاد طلبا للرزق ، ومن هذه الثقافات والاطياف الاجتماعية المختلفة استقى الفنان بدايات لأفكار فنية شحذت موهبته وولعه بالرسم ، حتى انتقاله الى مرحلة أخرى أضافت له فهماً عميقاً لوظيفة الفن التشكيلي من خلال ما أستقاه من تعليم في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء عام 1973.
تطورت ملكة الحريري الفنية وازدادت بدراسته لفن الديكور المسرحي والسينمائي في فرنسا ، ومن ثم الهندسة المعمارية في المعهد الأوربي بايطاليا ، حتى انتهى من فترة تدريبية لتعلم الحفرالفني "فن الكرافك" ببولونيا ولم يكن أمامه انذاك إلا مزج هذه المعارف والتجارب الفنية مع بعضها البعض ليخرج بأبتكارات واساليب فنية خاصة به.
عمد عبد الله الحريري الى رسم الحرف العربي متأثرا باسلوب مدرسة "البعد الواحد العراقية" التي أسسها الفنان العراقي الرائد شاكر حسن آل سعيد مع نخبة من رواد الفن العراقي ، والتي أشتهرت بأدخال جماليات الحرف العربي كوسيلة بصرية لأغناء اللوحة التشكيلية بعمق موروث تراثي عقائدي عميق، من خلال تكريم الله تعالى اللغة العربية بأنزال القرآن الكريم بها ، فضلا عما تدخره "اللغة العربية" من حمولات شعرية ، وما يمتلكه الخط العربي من جماليات بصرية وتجليات أستمد منها الكثيرمن الفنانين افكارا لبعض موضوعاتهم الفنية الأثيرية .
استلهم الفنان الحرف العربي في سلسلة أعماله الاخيرة عبرمسار فني ثري يقترب من اربعة عقود من النتاجات الفنية،فقد وظف الحروف وجعلها منطلقه المبدئي وحافزه الأثيرفي هذه اللوحة وما يناضرها من المنجزات الفنية التي عرضت في احد اروقة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء بتركيبة فنية مزجت بحذاقة بين الخط العربي والرسم التشكيلي المعاصر مستخدماً بعض الأشكال الهندسية لتوصيل رسائل جمالية وذوقية استثنائية للمشاهد .
حاول الفنان في هذا التكوين الفني تجاوز المعنى التقليدي للوحة مضفيا عليها معايير بعد حداثوية في محاولة منه لكسر جمود مفهوم الرسم وابعاد اللوحة الفنية التقليدية ، فبأفتتان الحريري باللون والخط على حد سواء دفع بهذا العمل واقرانه الى ان يظهر بابتكارات واساليب في الرسم العربي الحديث تطغى عليها الحيرة الرؤيوية بين الرسم والخط فارضا على القارئ نسقا جديدا للتلقي والمشاهدة يتلمس فيه جمالية الحرف العربي وانسيابية حركته جاعلا منه محورا اساسيا تدور حوله احداث اللوحة بكتلها اللونية بين غامق وفاتح وفراغاتها الموزعة باتقان على سطح اللوحة .
حرص الفنان من خلال فكرة اللوحة ومكوناتها الشكلية على تفعيل ذاته فيها كما هو الحال في باقي اعماله الاخرى ، ليجعل من ذلك " تفعيل الذات "طريقا لتحويل رؤية اللوحة وهي تنطلق من داخل العمل الفني والمتمثلة بذات الفنان وخلجاته الى الخارج وليس العكس " مستهدفا المتلقي " لدفعه للتأمل والغور في اسبار اللوحة ومكنوناتها وما تضمره من اسراريمكن الكشف عنها بالتأمل والتأويل .
اثبت الفنان في هذا التكوين اللوني الحروفي قدرته على اعادة تنظيم مدركات بنى العالم الخارجي والنظام العلائقي الرابط فيما بينها ومن ثم اسقاطها على اللوحة وفق قراءته الخاصة لها لينتج لوحة ذا تكوين مميزمتشابك الالوان متعالق مع الحروف بعلائق حداثوية تشوبها الغرابة وتطغى عليها جمالية فريدة من نوعها .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق