يزيد بن مفرغ .. شاعر شغل السلطة

 

لا ذَعَرتُ السَّوامَ في غلسِ الليـــــــلِ مُغيراً ولا دُعيتُ يزيدا

يومَ أعطي من المخافةِ ضَيْماً... والمنايا يَرصُدنني أن أُحِيدا

حينما طلب والي المدينة الوليد بن عتبة البيعة ليزيد بن معاوية من الإمام الحسين (عليه السلام) ردَّ عليه سيد الشهداء قائلا: (إنّا أهل بيت النبوة, وموضع الرسالة, ومختلف الملائكة, بنا فتح الله وبنا يختم, ومثلي لا يبايع مثله)، ثم خرج وهو يتمثّل بهذين البيتين الذين ذكرناهما وهو مصمِّم على مقارعة الباطل وإعلان الرفض والخضوع لبيعة يزيد, وهذان البيتان من الشعر القوي الذي يحمل في طيّاته عزماً لا يلين وإرادة لا تستكين, وهو يدل على أن صاحبه قد عزم على أمر عظيم لا يثنيه عن تحقيقه سوى الموت. وهو ماضٍ لما عزم عليه مهما كلفه هذا الامر, كما حمل هذان البيتان في طياتهما معانٍ كبيرة وهمّة عالية, فقد علم كل من سمعهما إنه (عليه السلام) سيخرج على يزيد وهما بمثابة إعلان الرفض ودق ناقوس الثورة بوجه الظلم والجبروت الأموي.

فمن هو الشاعر صاحب هذين البيتين؟ وما هو الامر الذي عزم عليه وحمله بين أضلاعه فلا يهدأ له بال حتى يحققه؟ ولماذا هو مستميت في سبيل انجاز ما أراده حتى ولو كلفه الأمر الذي شغله حياته؟

إنه شاعر ليس كباقي الشعراء من الذين يتغزّلون بالجواري والإماء ويستذكرون الإطلال ومغاني الأهل والديار, بل إنه شاعر حمل الشعر رسالة إنسانية سامية ومهمة تاريخية كبرى عليه تأديتها على أكمل وجه, فالشعر عنده هو (كلمة حق بوجه سلطان جائر) يجب أن تطلق في وجوه الظالمين مهما كلف الأمر فصدح بها غير آبهٍ لما سيؤول إليه مصيره من تشريد وتعذيب وتنكيل، فحقق بذلك أعظم الجهاد كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

إنه شاعر عشق الحرية ورفض أن يعيش في أغلال العبودية والظلم رغم الأساليب القمعية والوحشية التي مُورست ضده، فلم يهنْ ولم يستسلمْ ولمْ يتنكّب عن طريق الحق حتى آخر رمق في حياته، فكان في كل أحواله مجاهراً ومندِّداً بالظلم ولم تستطع سجون بني أمية إسكات هذا الصوت الهادر، فأطلق هذا الشعر من سجنه وهو يصف حاله في السجن من المراقبة الشديدة والمعاملة العنيفة التي يتلقّاها من حراسه فيقول:

حي ذا الزورَ وانْهِهِ أن يعــــودا   ***   إن بالبابِ حارســــينَ قعودا

من أساوير لا ينـــــوونَ قيــــاماً   ***   وخلاخيلٍ تُــــسهرُ المولودا

وطماطيمٍ من سبابيــــــــــجِ غُتمٍ   ***   يلبسوني مــع الصباحِ قِيودا

لا ذعرتُ السوامَ في غلسِ الليلِ   ***   مُغـــــــيراً ولا دُعيتُ يزيدا

يوم أعطي من المخــــافةِ ضيماً   ***   والمنايا يَرصُدنني أن أُحِيدا

ورغم كل ذلك التعذيب النفسي والجسدي فقد أطلق صوته متحديِّاً سجون بني أمية وجلاديهم وجبروتهم....

يزيد بن مفرَّغ

إنه الشاعر الحر والأبي يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرّغ الحميري....، هذا هو نسبه الذي يرجع إلى حِمْيَر القبيلة العربية اليمانية العريقة المعروفة بالشجاعة والكرم والنجدة, وقد قيل: إن مفرّغ لقب لربيعة لا والد له, وإنّما سُمِّي مفرَّغاً لأنه راهن على سقاءٍ من لبن يشربه كله فشربه حتى فرّغه فسمي مفرّغاً، فعرف الشاعر بلقب ابن مفرّغ الحميري وهو جد الشاعر محمد بن إسماعيل الحميري المعروف بـ (السيد الحميري) شاعر أهل البيت (عليهم السلام)، الذي توارث عن جدِّه ابن مفرّغ خصائصه الذاتية والنفسية من صلابة الإيمان وقوة العقيدة وثبات المبدأ.

ولد ابن مفرّغ في البصرة وكان يُكنى بـ (أبي عثمان), كما قال بذلك الشيخ عباس القمي في (الكنى والألقاب) وكان يتّقن من اللغات إلى جانب العربية اللغة الفارسية بحكم اختلاط العرب بالفرس في البصرة والكوفة وغيرها من المدن في ذلك الوقت, ولم تشر المصادر إلى سنة ولادته.

كان ابن مفرغ من أسرة حمير وأشرافها وبيته رفيع الشأن فيها, ومثل هذه النفوس الأبية ذات الهمم العالية لا تستسلم للخنوع والذل ولا يمكن أن تسكت وهي ترى جرائم الامويين وموبقاتهم واستهتارهم بالدين والقيم الأخلاقية وتوليتهم الأدعياء وأبناء الطلقاء على رقاب الناس.

في ذلك العهد الدموي لم يتوانَ ابن مفرّغ أمام قوى الطغيان لإعلان سَخَطه من أساليبهم الوحشية فسخَّر شعره في هجاء بني أمية حتى عُرف بهجائه لسياساتهم المستبدّة فشاعت أهاجيه في البلاد وتناقلتها الأفواه حتى تغنّى بها الناس في كل مكان, وكان جزاؤه جرّاء إطلاقه هذه الأهاجي من التعذيب ما وصفه المؤرخون بأنه: (مالا يصبر عليه إنس ولاجن ولا يحتمله إلاّ الحديد)، ولكن كل هذه الآلام لم تثنه عن مواصلة دوره في إداء رسالته كشاعر أصيل دعاه الواجب الإنساني إلى نصرة الحق ودحض الباطل والإسهام في تحطيم الأصنام الأموية والتصدِّي لها مهما كلّف الامر.

الشرارة

بدأت أهاجي ابن مفرّغ عندما رفع صوته معلناً استياءه من استلحاق زياد بن أبيه وضمِّه إلى بني أمية من قبل معاوية, وزياد هو ابن سمية التي كانت أَمَة للحارث بن كلدة الثقفي وقد زوّجها الحارث من خادمه عُبيد فولدت زياداً على فراشه فخالف معاوية قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقوله أيضاً (ص): (من ادعى لغير أبيه فليتبوّأ مقعده من النار), وقد استنكر الكثير من المسلمين هذا الاستلحاق، منهم الحسن البصري ويونس بن عبيد والجموح بن عمرو الفهمي وغيرهم وكان أرفع هذه الأصوات من بين هؤلاء هو صوت ابن مفرّغ الذي غضب من مخالفة معاوية لقول رسول الله فأعلن سخطه قائلاً:

ألا أبلغ معـــاوية بن حـربٍ   ***   مغلغــــلةً من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوكَ عفٌ   ***   وترضى أن يُقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمَك من زيــادٍ   ***   كرحــــمِ الفيلِ من ولَدِ الأتانِ

وأشهد أنها ولدتْ زيــــــاداً   ***   وصـخرٌ من سمية غير داني

وصل هذا الشعر إلى مسامع زياد فأراد قتله ولكنه لا يستطيع أن يقدم على هذا الشيء بدون إذن معاوية فاستأذنه في ذلك ولكن معاوية أبى لأنه كان يخشى أن تثور ثائرة قومه وعشيرته فأمره بدلا من قتله (بتأديبه) ـــ حسب سياسة الأمويين ــ فسجنه مدة ثم توسّط المنذر بن الجارود عند زياد فأخرجه من السجن.....

ولكن ابن مفرغ لم يسكت ... فلما كان زياد يستشعر نسبه المُخزي وحسبه الدنيء هذا ولم يستطع إنكاره أو إخفاءه أراد أن يُحظى ــ ببعض الشرف ــ عند الناس بادّعائه إن سمية أمه من بني تميم لكن ابن مفرّغ كان له بالمرصاد ففضحه وعرّى ادعاءه من الصحة فقال:

فأُقسم ما زيادٌ من قريشٍ   ***   ولا كـــــــــانت سمية من تميمِ

ولكن نسل عـبدٍ من بغيٍ   ***   عريق الأصل في النسبِ اللئيمِ

قال المسعودي في مروج الذهب (جـ3 ص17)، (وكانت سمية من ذوات الرايات، ــ من ذوات الزنا ــ بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحارث بن كلدة وكانت تنزل بالموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا).

وكان لسمية ثلاثة أولاد فإضافة إلى زياد فلديها نافع ونفيع وأبو بكرة, وكان لكل واحد منهم أب يدعى به فزياد هو ابن (أبيه) ثم أدّعاه معاوية لأبي سفيان ونافع هو ابن الحارث بن كلدة الثقفي ونفيع وابو بكرة ابنا مسروح فقال فيهم ابن مفرّغ:

إن زيـــــاداً ونافعاً وأبا بكرة   ***   عندي من أعــــــجبِ العجبِ

إن رجـــــــــــالاً ثلاثة خُلقوا   ***   من رحمِ أنثى مخالفي النسب

ذا قريشيٌّ ــ كما يقول ــ وذا   ***   مولـــى وهذا ابن عمه عربي

وكان ابن مفرّغ يصدح بهذه الأشعار الهجائية في الطرقات وفي كل مكان يمر به غير آبهٍ بعواقب هذا الأمر، فهو يأنف أن يلي أموره وأمور المسلمين من في نسبه وصمة وتأبى حميته أن يتحكم برقاب الناس وأموالهم وأعراضهم دعيٌ مثل زياد، ولما مات زياد عام (53هـ) تولىّ البصرة ابنه عبيد الله, وكان أخو عبيد الله عبّاد بن زياد والياً على خراسان، وكان عبّاد هذا طويل اللحية عريضها فمر ذات يوم في موكبه فرآه ابن مفرّغ، ورأى كثرة الناس حواليه وهم يوقّرونه ولكن ابن مفرّغ كان ينظر إلى عباد بعين السخرية والتهكم وهو يقول:

ألا ليتَ اللحى كانت حشيشاً   ***   فنعلفها خيولَ المسلمينا

كان ابن مفرّغ يشعر بالحيف وهو يرى هذا المشكوك في نسبه يلاقي مثل هذا التوقير والتبجيل من الناس, وأسرع الواشون ليخبروا عبّاداً بما قال ابن مفرّغ وليملؤا صدره غيضاً وحقداً، وبلغ ذلك القول عبيد الله بن زياد فأمر بالقبض عليه وكان لا يزال مقيماً في دار المنذر بن الجارود فسجنه ابن زياد وعذّبه....

وحشية ابن زياد

تجلت السادية والوحشية بأفظع صورها عند ابن زياد في تعذيبه لابن المفرغ فأي نوع من أنواع التعذيب كان؟ لقد أفرغ ابن زياد عمّا في نفسه الدنيئة من أحقاد وبما يشعر به من نقص في الشخصية ووصمة في النسب بالانتقام من الأشراف والنفوس الأبية أمثال ابن مفرّغ والتنكيل بها وإهانتها أمام الناس بأساليب مبتكرة اخترعتها نفسه المريضة.

فقد أمر أن يسقى ابن مفرّغ (التربذ) وهو شراب مُسهل مع النبيذ وأن يركب على بعير وتُربط به خنزيرة ويُطاف به في أزقة البصرة وأسواقها فآلمه بطنه ألماً شديداً، فكان يسيل ما يخرج منه على الخنزيرة فتصيء ــ أي تصيح ــ لكن ابن مفرغ وهو على حالته المزرية هذه كان يهجو سمية وزيادا ويسخر من أبنائه عبيد الله وعباداً ويشبه سمية بالحنزيرة فكلما صاءت الخنزيرة قال ابن مفرّغ:

ضجّت سميةُ لما مسّها القرنُ   ***   لا تجزعي إن شرَّ الشيمةِ الجزعُ

فكان الناس يصيحون خلفه فمر به فارسي فرآه فقال له: أين جيست فقال له المفرّغ:

آبست نبيذ ست عصارات   ***   زبيبست سمية روسفيدست

ومعناه هذا نبيذ، هذا عصارة زبيب، وسمية عاهر، في إشارة إلى أنه غير آبهٍ بتعذيبهم إيّاه فلما رأى حاله الناس رثوا له ورقّوا لحاله فقيل لابن زياد: إن الذي به ربما يؤدي إلى حتفه فأمر به فأنزل واغتسل فلما خرج من الحمام قال:

يغسل الماءُ ما فعلتُ وقولي   ***   راسخٌ منك في العظامِ البوالي

وهي قصيدة طويلة رواها ابو الفرج الاصفهاني في الأغاني وفيها يعلن أنه لن يتنصل عن دوره في قول الحق ومحاربة الأمويين ما دام فيه عرق ينبض.

نعم لقد زادت أهاجي ابن مفرّغ لابني زياد حدّة وزادت لهجته شدّة فصبّ ابن مفرّغ جامّ غضبه على عبيد الله بن زياد وهو يراه بأم عينه يرتكب الجرائم ويتطاول على الأشراف وهو دعي ومن أهاجيه في عبّاد بن زياد:

أعباد ما للؤم عنك محوّلُ   ***   ولا لك أمٌ في قريـــــــش ولا أبُ

وقل لعبيد الله مــالك والدٌ   ***   بحقٍ ولا يدري امرؤٌ كيف تنسبُ

وكانت هذه الأهاجي تقع مواقع النصال بقلب ابني زياد حتى قال عبيد الله بن زياد: ما هُجيت بشيء أشد عليّ من قول ابن مفرّغ.

فكر فـــــــفي ذاك إن فكّرت معتبر   ***   هل نلتَ مكــــــــرمةً إلا بتأميرِ

عاشتْ سمية ما تدري وقد عمرت   ***   إن ابنها من قريش في الجماهيرِ

والواقع أن عبيد الله كان كاذباً في قولته وإنما قالها ليصرف النظر عن باقي الأهاجي التي أقضّت مضجعه فيه وفي أبيه وأمه وأخيه خاصة منها تلك التي كشف فيها ابن مفرغ حقيقة مأبونية عبيد الله بن زياد وهي في ديوانه مثبتة وآثرنا الإعراض عنها.

ومرت الايام وتزداد أهاجي ابن مفرّغ شدة ويزداد معها حقد عباد وأخيه وغضبهما عليه فقامت قيامتهما وهما يسمعانه وهو يذيع مخازيهما وينشر فضائحهما بين الناس دون هوادة حتى صار شبحاً يتهدّدهما ويتوعدّهما.

وكان عباد قد كتب جميع ما قاله ابن مفرّغ فيه وفي أخيه وأبيه من الأهاجي وأرسلها إلى أخيه عبيد الله, فبدأت المطاردة الرسمية, وبث الأخَوَان جنودهما في كل مكان للقبض على ابن مفرّغ, فكان ابن مفرّغ لا يستقر في مكان حتى يغادره إلى غيره، وكان كلما ينتقل من بلد الى آخر كان إصراره يزداد على فضحهما, ولم يكتف بما كان يقوله بين الناس في هجائهما فكان يكتب كل ما هجاهما به على حيطان الخانات وأماكن الاستراحة ومفترق الطرق ليقرأها كل من يمر بها من عابري السبيل والتجّار والمسافرين وغيرهم على كثرتهم وتنوّع بلدانهم، فذاعت تلك الأهاجي على الألسن وانتشرت بين الناس وسعى ابن مفرّغ لأن تكون أهاجيه التي يقولها ويكتبها لاذعة وفيها من السلاسة ما يجعلها سريعة الحفظ فكان مما قاله:

فأشهد ان امك لم تباشر   ***   أبا سفيان واضعة القناعِ

ولكن كان أمرٌ فيه لبسٌ   ***   على رجلٍ شديدٍ وامتناعِ

وجدّ ابنا زياد في طلب ابن مفرّغ وأكثرا من العيون والجواسيس وهو يفر من بلد إلى بلد ولا يخرج من مكان حتى يملؤه دوّياً بشعره وتملأ حيطانه أهاجيه, حتى قبضا عليه وأُودع السجن ولم يدع ابن زياد لؤم القدرة فعذّب ابن مفرّغ عذاباً وُصِف بأنه: (ما لا يصبر عليه أنس ولا جن ولا يتحمّله إلا الحديد).

ورغم ذلك لم يذعن ابن مفرّغ لابن زياد ولم يطلب منه الرحمة بل ازداد إصراراً على هجائه فوكّل ابن زياد به رجالاً ووجههم معه وأمرهم أن يأخذوه إلى جميع الخانات والأماكن التي هرب إليها وكتب على حيطانها شعره الهجائي وأن يمحوها بأظافره فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئاً مما كتبه من الهجاء أجبروه على محوه بأظافره فكان ابن مفرّغ يفعل ذلك ويحكه حتى تكسّرت أظافره وتناثر لحم أصابعه ثم كان يمحوه بعظام أصابعه ومن دمه فكانت دماؤه تصبغ الحيطان ورغم ذلك فقد زادت أهاجيه وهو في السجن فكان ما قاله فيه هذه الأبيات التي تدل على عزيمة فذة وإصرار عجيب من هذا الرجل الذي لم تزده الآلام إلاّ مضاءً.

وطالت مدة سجن ابن مفرّغ وطال تعذيبه وطال حزنه وأساه لما آل إليه أمر الناس جرّاء ظلم بني أمية وعدوانهم وخاصة بعد مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه وسبي نسائه فقال يرثي الإمام الحسين ويهجو ابن زياد:

كم يا عبيــد الله عندكَ من دمٍ   ***   يسعى ليـدركه بقتلكَ ساعي

ومعاشرٌ أنـفٌ أبحتْ حريمهم   ***   فرّقتهم من بعدِ طولِ جماعِ

اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً   ***   وبني عقـيلٍ فارسِ المرباعِ

 ولما طال مقامه في السجن استأجر رسولاً إلى دمشق وقال له: اذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق وأنشد هذه الأبيات:

أبلغ سراة بني قحطــــــان قاطبة   ***   عضّت بـظهرِ أبيها سادة اليمنِ

أضحى دعيُ زيادٍ فقـــــع قرقرةٍ   ***    يا للحوادث يلهو بابن ذي يزنِ

إن الحميري صريعٌ وسط مزبلةٍ   ***   ماذا تريد بــذي الأحقادِ والإحنِ

ففعل الرسول ما أمره به وأنشد الأبيات فأخذت اليمانية الحميّة وغضبوا وركب طلحة الطلحات إلى الحجاز فقال لهم: يا معشر قريش إن أخاكم وحليفكم ابن مفرّغ قد أبتلي بهذه الأعبد من بني زياد وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم ولا أفوز بالمكرمة في أمره وتخلوا أنتم منها فانهضوا معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية فإن أهل اليمن قد تحركوا بالشام.

فركب خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله في وجوه خزاعة وكنانة وخرجوا إلى يزيد وفي الطريق نزلوا للاستراحة في بعض الليالي فتناهى إلى أسماعهم صوت راكب يتمثل بشعر ابن مفرّغ ويتغنى قصيدته:

قلـتُ والليلُ مطبقٌ بعــــــــراهُ:   ***   ليتني متّ قــــــبلَ تــــركِ سعيدِ

ليتـنــي متّ قبل تــــــركي أخا   ***   النجدة والحزم والفعــــال الشديدِ

عبـــشــميٌّ أبــــــوه عبد مناف   ***   فاز منها بتــــــــــــــاجهِ المعقودِ

قــل لـقــــــــومي لدى الأباطحِ   ***   من آلِ لويِّ بن غالبٍ ذي الجودِ

ســـــــــامني بعظكم دعيُّ زيادٍ   ***   خطةَ الغـــــــــــادرِ اللئيمِ الزهيدِ

أوغل العبد في الـــــعقوبة والـــــــــــــشتم وأودى بطـــــــــارفي وتليدي

فاطلبوا النصف من دعي زيادٍ   ***   وسلوني بما ادعيـــــــت شهودي

فدعوه الى الانضمام اليهم وسألوه عن الشعر الذي سمعوه فقال: هذا قول رجل والله ان أمره لعجيب رجل ضاع بين قريش واليمن وهو رجل الناس، فقالو له: من هو؟ قال: ابن مفرّغ، فقالوا: والله ما قمنا بسفرنا هذا إلا من أجله وانتسبوا له فعرفهم وانشدهم قوله:

فناديت فيهم دعوة يمنية   ***   كما كان آبائي دعوا وجدودي

ودافعتُ حتى أبلــــغ الجهدَ عنهم   ***   دفاعَ أمرئٍ في الخيرِ غيرِ زهيدِ

فإن لم تكونوا عند ظني بنصرِكم   ***   فليـــــــــسَ لها غير الأغرِّ سعيدِ

بنفسي وأهلي ذاك حـــــــيّاً وميتاً   ***   نضــــارةُ عودِ المرءِ أكرمُ عودِ

فكمْ من مُقــــــامٍ في قريشٍ كفيته   ***   ويومٍ يشــــــــيبُ الكاعباتِ شديدِ

وخصمٌ تحامـــــاه لؤي بن غالبٍ   ***   شببت له نــــــاري فهابَ وقودي

وخيرٌ كثيرٌ قد أفــــــــــأتُ عليكمُ   ***   وانتمْ رقـــــــــــودٌ أو شبيهَ رقودِ

وتأثر القوم غاية التأثر من هذا الشعر واسترجعوا وهم يأسفون أن تركوا ابن مفرّغ بيد ابني زياد يسومانه سوء العذاب وقالوا: والله ذلت رؤوسُنا في العرب إن لم نغسلها بكفه،  ثم ساروا مسرعين إلى الشام وهناك اجتمعوا بأصحابهم من اليمانية ودخلوا على يزيد وكلموه في أمر ابن مفرّغ فأمر بإطلاق سراحه وأرسل أمر ذلك بيد رجل اسمه حمحام فلما أطلق سراحه وقرب إليه دابة من بغال البريد استوى على ظهرها وقال:

عدسٌ ما لعبَّـــــــــــادٍ عليكِ إمارةٌ   ***   نجوتِ وهذا تحـــــملينَ طليقُ

طليقٌ الذي نجّى من الحبسِ بعدما   ***   تلاحـم في دربٍ عليك مضيقُ

ذري وتناسي ما لقيت فإنه   ***   لكل أناسٍ خبـــــــــــــــــــطة وحريقُ

قضى لك حمام بارضك فالحقي   ***   بأهلك لا يـــــــؤخذ عليكِ طريقُ

والبيت الاول شاهد مشهور في النحو على ان (هذا) بمعنى الذي والكلام عليه في الخزانة واللسان..

ولم تنته قصة ابن مفرّغ مع ابني زياد عبيد الله وعبّاد فبعد أن يئسا من قتله خوفاً من قومه وخشية من أن تدور الدائرة عليهما بعد أن امر يزيد بإطلاق سراحه راحا يدبران له المكيدة والمكر فلقّنا المرتزقة إن ابن مفرّغ استدان منهم أموالاً وهو يأبى أن يسدد ما عليه من ديون وجعلا شهوداً على ذلك من بعض المرتشين ففعلوا ذلك فحُوصر ابن مفرّغ, وماذا يستطيع أن يفعل إذا كان والي المدينة والقاضي وجلساء الوالي من المتنفذين ضده ولن يجديه إنكار ما اتهموه ولا دفع التهمة عن نفسه فامر ببيع كل ما يمتلك لكي يعطي غرماء لا يعرفهم ولا يعرفونه فكان فيما بيع غلام له كان قد رباه يقال له (بُرْد) كان يعدل عنده ولده وجارية يقال لها (أراكة) أو(أراك) فكانت المصيبة عظيمة على ابن مفرّغ بفقدهما.

ويلمس القاريء عمق الفاجعة التي حلّت بابن مفرّغ وهو يقرأ هذا الشعر الذي قاله فيهما أو بالأحرى (في رثائهما) فهو أشبه بالرثاء فلنسمعه وهو يقول:

يا برد مـــــا مـسّنا دهرٌ أضربنا   ***   من قبل هذا ولا بعنا له ولدا

اما الأراك فــكانت من محارمنا   ***   عيشاً لذيذاً وكانت جنة رغدا

لولا الدعي ولولا ما تعرّض لي   ***   من الحوادث ما فارقتها أبدا

ولم نر في الشعر العربي من يشبه غلامه بولده وجاريته بمحارمه, بل إنه في قصيدة أخرى يتمنّى الموت على فراق برد فيقول في قصيدته التي مطلعها:

أصرمت حبلك من أمامه   ***   من بعد أيام برامه

والتي يقول فيها:

وشريــــت برداً ليتني   ***   من بعد برد كنت هامه

أو بومة تدعو الصدى   ***   بين المشـــقّر واليمامه

وله فيهما قصائد طويلة ذكرها ابن سلام في الطبقات وأبو الفرج الأصفهاني في الأغاني وابن الاثير في الكامل في الأدب وغيرهم، وقصائده فيهما تفيض أسىً ولوعة على فراقهما ولكن قُدِّر لأبن مفرّغ أن يتشفّى من ابن زياد ويشهد هروبه ومقتله ولا تفوته هذه الفرصة من أن يسجلها شعراً فقال في هروب ابن زياد وتركه أمه:

أعبيدُ هلاّ كنتَ أولَ فــــــــــارسٍ   ***   يومَ الهياجِ دعا بحتفـكَ داعــــي

أسلمتَ أمَّــــــك والرمـاحُ تنوشها   ***   يا ليتني لك ليلــــــــــة الافـزاعِ

إذ تستغيثُ ومـــــــــا لنفسكَ مانعٌ   ***   عبدٌ تردّده بــــــــــــدار ضيـاعِ

هلا عـــــــــــــجوزٌ إذ تمدُّ بثديِها   ***   وتصيحُ أن لا تنزعنَّ قِــــناعـي

فركبـتَ رأسَكَ ثم قلتَ أرى العدا   ***   كثروا وأخـــلفَ موعدُ الأشـياعِ

فأنــــــجو بنفسكِ وابتغي نفقاً فما   ***   لي طاقةٌ بكَ والســـــلامُ وداعي

ليس الكريمَ بمن يخلّـــــــــفُ أمَّه   ***   وفتاتَـــــــه في المنزلِ الجعجاعِ

حذر المنية والـــــــــرماحُ تنوشه   ***   لم يرمِ دون نسائهِ بــــــــــكراعِ

متأبــــــــــــــــطاً سيفاً عليه يلّمق   ***   مثــــــــــــل الحمارِ أثرتُه بيفاعِ

لا خير في هَــــــــــذِرٍٍ يهزُّ لسانَه   ***   بكلامِــــــــهِ والقلبُ غيرُ شجاعِ

لابنِ الزبيـــــــرِ غداة يذمرُ مبدِراً   ***   أولى بغــــــــــايةِ كل يومِ وقاعِ

وأحقّ بالصبرِ الجميلِ من امرىءٍ   ***   كزُّ أنامله قصيرُ البــــــــــــــاعِ

جعدُ اليدينِ عن السمـــاحة والندى   ***   وعن الضريبــــــةِ فاحشٌ منّاعِ

كم يا عبيد الله عنـــــــــدك من دمٍٍ   ***   يسعى ليـــــــدركه بقتلكَ ساعي

ومعاشـــــــرٌ أنُفٌ أبحتَ حريمَهم   ***   فرَّقتهمْ من بعدِ طولِ جـــــــماعِ

اذكر حسيــــــناً وابن عروة هانئاً   ***   وبنـــــــــي عقيلٍ فارسَ المِرباعِ

وبعد هذه المعاناة التي لاقاها ابن مفرغ جاءه يوم الفرح والسرور.. فلم يكن شيء أشدّ فرحاً على قلبه من قتل عبيد الله بن زياد كما لم يكن ليترك هذا الخبر يمر دون أن يهجوه فما كاد أن يسمع بخبر قتله حتى قال:

إن الذي عاشَ حَثّـــــــاراً بذمَّـتهِ   ***   وماتَ عبداً قـتيلَ اللهِ بالـــــــــزابِ

العبدُ للعبدِ لا أصلٌ ولا طـــرفٌ   ***   ألوتْ به ذاتُ أظــــــــفارٍ وأنيــابِ

ان المنايا إذا ما زرن طاغيـــــة   ***   هتــــــــكن عنه ستوراً بين أبـوابِ

هلا جموعُ نزارٍ إذ لقيتــــــــــهمُ   ***   كنـتَ امرءاً من نزارٍ غيرِ مـرتابِ

لا أنتَ زاحمتَ عن مُلكٍ فتمنـعه   ***   ولا مـــــــــــددتَ الى قومٍ بأسبابِ

ما شق جيب ولا ناحتك نــــائمة   ***   ولا بكتـــــــــــكَ جيادٌ عند أسلابِ

وهكذا قيّضَ لهذه القصة أن تنتهي بموت الطاغية وانتصار الشاعر بعد حرب جسدية ونفسية طويلة ولم يعش ابن مفرّغ طويلاً بعد ابن زياد لكنه بالتأكيد كان موته مطمئناً بعد أن تأكد من موت الطاغية وكانت وفاة ابن مفرّغ عام (69هـ).

 

محمد طاهر الصفار

: محمد طاهر الصفار