سيد القرّاء

على صمت مسراه تفز الشواطئ ..

همس في روحي الشيخ بهذه النجوى مردفاً : ...

سيتذكرني النهر ..

وحينها أكون قد ارتويت.

تخيّلته .., بطرازه الموشح بالجراح , وعمره الهائل بالعشق.

ثلاثُ ملاحمٍ زرع جسده فيها,.. كانت نظرة واحدة من (علي) تشفي جراحه, لكن جرحاً واحداً آلمه كثيراً رغم أنه لم يصب جسده! جرح صاح صاحبه:

(فزت ورب الكعبة).

الحمائم تحط على كتفيه وهو يضئ الكوفة بتلاوته. تشم منهما كفّي (علي).

حمل لهفته وتسعينه التي بذرها بين الصهيل والأذان ليقطف ثمارها بين يدي الحسين إنه برير بن خضير المشرقي الهمداني.

هل يمكن أن يجد لنا التاريخ أصحاباً أعطوا كما أعطى أولئك الأصحاب؟ وهل يمكن أن يجد لنا من بلغ مداهم في تحقيق المعنى الأعمق للصحبة؟

إننا لا نجد الإيثار يتجلّى بأروع صوره كما في كربلاء حيث تقلد أولئك الأصحاب أشرف وأرفع وسام وهو قول الإمام الحسين بحقهم:

(إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خير من أصحابي).

(برير بن خضير المشرقي الهمداني) كان أنموذجاً مضيئاً لـ(أصحاب الوعي والبصيرة), و(فرسان المصر), و(أبطال المواقف الخالدة) الذين استجابوا لنداء الحق وتوجهوا نحو الحقيقة, متيقنين بأنهم في أوضح الطرق إليها, فساروا بإدراك ومعرفة ملبين نداء الله تحت لواء الحسين (عليه السلام), وهم في أعلى درجات اليقين حتى سجلت لهم تلك الكلمات المشرفة التي جعلت منهم قدوة للأجيال ومدرسة لصناعة الإنسان الكامل.

(برير بن خضير الهمداني) الشهيد الذي لم يمنعه عمره الذي جاوز التسعين عن الجهاد في سبيل الحق والحقيقة ومقارعة الفساد والإفساد الأموي.

(برير بن خضير الهمداني) (الشيخ), (التابعي), (الناسك), (القارئ للقرآن) و(من شيوخ القراء) في جامع الكوفة, و(سيد القرّاء) في الكوفة, ومن خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), و(من أشراف الكوفة من الهمدانيين), وله في الهمدانيين (شرف وقدر), (الزاهد), (العابد) الذي (يصوم النهار ويقوم الليل) و(أقرأ أهل زمانه) كما وصفته المصادر.

هذه جوانب حياة برير التي أضاءتها صحبته لأهل البيت, صحب برير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ورافقه في جميع مشاهده (الجمل وصفين والنهروان), ثم صحب بعده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام), ولما سمع بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة إلى الكوفة خرج برير من الكوفة حتى التحق بالإمام الحسين في كربلاء ليختم فصول حياته المشرفة بأشرفها وهي الشهادة.

ولننظر إلى برير في كربلاء .. عندما نزل الإمام الحسين كربلاء في اليوم الثاني من محرم الحرام جمع أهل بيته وأصحابه وخطب فيهم وأذن لهم بالإنصراف فتكلم الإنصار وأكدوا على إصرارهم في البقاء مع سيدهم والموت دونه فماذا قال برير في ذلك اليوم؟ لقد أوجز نيته الخالصة وعقيدته الراسخة بهذه الكلمات :

(يا ابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك, تقطع فيك أعضاؤنا, ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة)

كان موقفاً مستميتاً في الدفاع عن الحسين وحريصاً على الذود عنه

كما كان حريصاً على أن لا يقع القتال فكانت له محاولة لصرف عمر بن سعد عن ولائه للسلطة الأموية وتركه قتال الحسين ولكن عبثاً فإن قصور الري قد أعمت عيني ابن سعد

كشفت محاولة برير عن فطرته السليمة التي لم تلوثها الأموال الأموية فجاء إلى الإمام الحسين وقال:

(يا ابن رسول الله ائذن لي أن آتي عمر بن سعد فأعظه لعله يتعظ ويرتدع عما هو عليه).

فقال الحسين: (ذاك إليك يا برير)

فذهب إليه حتى دخل على خيمته فجلس ولم يسلم فغضب عمر وقال :

(يا أخا همدان ما منعك من السلام عليَّ ألست مسلماً أعرف الله ورسوله, وأشهد بشهادة الحق)؟

فقال برير:

(لو كنت عرفت الله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم, وبعد فهذا الفرات يلوح بصفائه, ويزلج كأنه بطون الحيات تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها) فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال:

(إني والله أعلم يا برير علماً يقيناً أن كل من قاتلهم وغصبهم حقوقهم في النار لا محالة ولكن ويحك يا برير ! أتشير علي أن أترك ولاية الري فتصير لغيري ؟ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبداً).

لقد تأكد له نية ابن سعد وإصراره على قتال الحسين من أجل ولاية الري ولكنه لم ييأس فقد كان حريصاً على أن لا يسفك دم ابن بنت رسول الله, فاستأذن الحسين في أن يكلم القوم يوم عاشوراء فأذن له فوقف قريباً منهم ونادى:

(يا معشر الناس إن الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله, وسراجاً منيراً, وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه, وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله, أفجزاء محمد هذا)؟

لكن تلك النفوس لم تكن أفضل من نفس قائدها المتعطش للدماء الذي استحوذ عليه الشيطان فأبت أن تستمع لنصائح برير فقال بعضهم:

(يا برير قد أكثرت الكلام فاكفف عنا فوالله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله)!!

لم يستسلم برير أمام هذا الجواب الخاذل, أراد برير أن يهز قلوبهم الميتة, ويزيل الغشاوة عن قلوبهم. أراد أن يقول لهم هذا الحسين ابن بنت رسول الله مع أهل بيته فهل تريدون حقاً قتلهم فصاح فيهم :

(يا قوم إن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه, فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم) ؟

فقالوا: (نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم رأيه)

تباً لهم ما أسخفهم, وما أغواهم, وما أضلهم.

سألهم مستنكراً جوابهم الضال: (أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها, وأشهدتم الله عليها, ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد, وحلأتموهم عن ماء الفرات بئسما خلفتم نبيكم في ذريته مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم) .

ولم ينفع كل هذا التذكير والنصح والإنذار لعاقبة ما قد جاؤوا لأجله فقال له نفر منهم: (يا هذا ما ندري ما تقول)!!

ولما يئس برير منهم رفع يديه إلى السماء وقال:

(الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة, اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم, اللهم ألق بأسهم بينهم, حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان)

وكأن هذا الدعاء قد أوغر قلوبهم وهيج الشياطين في دواخلهم فجعلوا يرمونه بالسهام فتراجع.

لقد أدى برير رسالته ونصحه على أكمل وجه لو كان يفيد النصح والإرشاد لقد جعل الشيطان في آذانهم وقراً فلم يسمعوا كلام الحق ولم يعوه.

لقد جسد برير في يوم عاشوراء أروع صور البطولة والتضحية والفداء دفاعاً عن الحسين فلنستمع إلى كيفية قتاله واستشهاده (رضوان الله عليه).

ناداه أحد أفراد الجيش الأموي ويدعى (يزيد بن معقل) :

(يا برير كيف ترى صنع الله بك) ؟

فقال له برير بلهجة الواثق من نفسه المطمئن من سلامة موقفه:

(صنع الله بي خيراً وصنع بك شراً)

فقال يزيد وقد أغرته كثرة الجيش الأموي وقلة أنصار الحسين:

(كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً!! أتذكر يوم كنت أماشيك في (بني لوذان) وأنت تقول كان معاوية ضالاً, وإن إمام الهدى علي بن أبي طالب)

فقال برير: بلى أشهد أن هذا رأيي

فقال يزيد: وأنا أشهد أنك من الضالين!

إنه يعترف بإن بريراً كان صدّيقاً لم يكذب في حياته وهو يكذِّبه في أصدق المواقف وأوثق الأقوال!! وهل يشك أحد بأفضلية علي (عليه السلام) على كل الصحابة فضلا عن الطلقاء؟

هكذا يشتري ابن زياد ويزيد من هؤلاء دينهم وذممهم.

(أجل كان هذا رأيي).... قالها برير وهو متمسك به. يرتفع صوت يزيد ليشهد له الجيش بتزلفه وتملقه لبني أمية فيقول: (وأنا أشهد أنك من الضالين) فدعاه برير إلى المباهلة فرفعا أيديهما إلى الله سبحانه يدعوانه أن يلعن الكاذب ويقتله.., ولا أدري لمن يرفع يزيد يديه وقد أتى لحرب الله ورسوله بمجيئه إلى حرب الحسين؟ ألم يسمع قول رسول الله (حسين مني وأنا من حسين) (أحب الله من أحب حسينا)؟ أجل لقد سمعها ولكنه جحدها فعجل الله بروحه إلى النار على يد برير فقد تضاربا فضربه برير على رأسه ضربة قدت المغفر والدماغ فخر كأنما هوى من شاهق وسيف برير ثابت في رأسه.

لقد عُرف الآن من هو الصادق ومن هو الكاذب فهل اعتبر الجيش الأموي من هذه المباهلة والمبارزة؟ كلا بل ازدادوا طغياناً وكفراً, ويستمر برير في قتاله فبينما يريد أن يخرج سيفه من رأس يزيد إذ حمل عليه آخر هو (رضى بن منقذ العبدي) واعتنق بريراً واعتركا فصرعه برير مما جعل رضى يستغيث بأصحابه ويستنجدهم لكي يخلصوه من هذا الأسد الغاضب الرابض على صدره فأتاه أحد أصحابه وهو (كعب بن جابر بن عمرو الأزدي) ليخلصه من برير فطعن جابر بريراً في ظهره فقتله.

كان الجميع يعرف من هو برير (سيد القراء) لذا صاح أحد أفراد جيش ابن سعد وهو (عفيف بن زهير بن أبي الأخنس) بجابر: (هذا برير بن خضير القارئ الذي يقرؤنا القرآن في جامع الكوفة) ولا أدري لماذا لم ينصح عفيف نفسه بمقالته تلك فيقتدي ببرير؟

ليس هناك تفسير لمقولته هذه سوى النفاق ولأن النفاق قد استشرى في ذلك الجيش فلم يعد أحدهم يأبه بما يفعل وكأنهم قد سلخت منهم آدميتهم فصاروا كالوحوش ففعلوا في كربلاء ما يندى له جبين الإنسانية

لقد قاتل برير دون الحسين إلى آخر رمق فكان حقيقاً مصداق هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

محمد طاهر الصفار

: محمد طاهر الصفار