يكتنز الأدب العربي شعراً ونثراً بالكثير من الاتجاهات والتيارات والمشارب الفكرية والثقافية المتنوعة، مما جعله يتميز على سائر آداب الأمم، ومن هذه الاتجاهات التي أخذت منه رقعة واسعة هو الاتجاه الإسلامي، ولعل المتأمل يجد كمَّاً هائلاً من الدراسات الأدبية الإسلامية التي تنوّعت ما بين كتب ألفها كبار أساتذة الأدب والنقد العربي فضلاً عن المستشرقين الذين حشروا أقلامهم في هذا الموضوع خدمة لمآرب متعددة يطول شرحها، وما بين رسائل أكاديمية حبَّرها طلبة الدراسات العليا في مختلف الجامعات، ولكن الملفت للنظر أنّ في هذه الدراسات تناسياً، بل نستطيع القول تجاهلاً واضحاً للعيان عن الأدب الإسلامي الذي يتعلق بقضية أهل البيت (عليهم السلام)، ولعلنا نجد في الفترة الأخيرة بشائر وفتوحات علمية على الصعيد الأكاديمي بخصوص أدب أهل البيت وقد تأخذ طريقها إلى مواضيع عدة تتناول التركة الأدبية التي خلفها لنا أهل بيت الرحمة، ومن هذه الموضوعات التي أوقفتني الآن وجعلتني أكتب هذه المقالة، هي موضوعة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، إذ وجدت بعض الشذور الشعرية التي اختصت بقضية الإمام الغائب، ومن الطريف أنها كانت سابقة لولادته الميمونة، مما تؤكد وتؤصل قضيته وعمقها في الوجدان الإسلامي الموالي لخط أهل البيت (عليهم السلام) ، والباحث إذ يؤرخ لهذا الموضوع يجد أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول من يبدأ هذا المضمار، إذ نقلت كتب التاريخ قوله شعراً مخاطباً ابنه محمد بن الحنفية (رض):
بُني إذا ما جاشتِ التركُ فانتظرْ *** ولايةَ مهـــــــــــديٍّ يقـومُ ويعدلُ
وذلَّ ملـوكُ الأرضِ من آلِ هاشمٍ *** وبُويعَ منــــــــهمْ من يلدُّ ويهزلُ
صبيٌّ من الصبـيـــانِ لا رأيَ عندَه *** ولا عـنـــــــــدهُ جـدٌّ ولا هو يعقلُ
فـثمَّ يقـومُ الـقـــائـمُ الـحـقُّ مـنـكـمُ *** وبالحقِّ يأتيكمْ وبالحقِّ يعملُ
سمـيُّ نـبيِّ اللهِ نــــــــفـسـي فـداؤه *** فلا تخــــــــذلـوهُ يا بنيَّ وعجِّلوا
وتبدأ المعارضة الثقافية التي كرسها شعراء أهل البيت (عليهم السلام) جنباً إلى جنب مع المعارضات والحركات الثورية التي قام بها أبناء البيت العلوي بشقيه الحسني والحسيني، ولفيف من الأنصار الذين حملوا شعار (يا لثارات الحسين) بعد مقتله (عليه السلام) ، إذ لم يجدوا سبيلاً يكفّرون به عن تقصيرهم إلا بحمل لواء المعارضة، والخروج على السلطة الغير شرعية والتي مارست سياسة التعسف والجور على أهل بيت الوحي والموالين لهم، فكان من بين هؤلاء الذين وقفوا كالجبال في تصديه الثقافي آنذاك هو (الكميت بن زيد الأسدي) ، فكان بحق مجاهداً بشعره الذي أضحى يمثل (مانفيستو) الثورة التي تلوح في الأفق وتهد الكيان الأموي، وحسبك ما قاله مشيرا إلى ثورة المهدي المنتظر (عليه السلام) والذي لم تبق سارية للكفر والنفاق إلا وهدتها إذ يقول :
ويومُ الدوحِ دوحَ غديرِ خُمٍّ *** أبـانَ لـه الولايـةَ لو أُطيــــــعا
ولـكـنَّ الرجالَ تبـايعـــــــــــوهـــا *** فلم أرَ مثلها حقـــــــــــاً أُضيعا
فقـلْ لـبني أمـية حيث كانوا *** وإن خفتَ المهندَ والقطيعا
أجاعَ الله مـن أشبعـتـمـــــــــوه *** وأشبعَ من بجورِكمُ أجيــــعا
بـمـرضيِّ الـسيـاسةِ هاشــميٍّ *** يكــونُ حَيَـــــــــــــاً لأمـته ربيعا
وفي عصر الإمام الصادق (عليه السلام) إذ تظهر طائفة الكيسانية التي تدعي أن محمد ابن الحنفية هو المهدي الموعود الذي سوف يظهر في آخر الزمان، ولكن أئمة الحق من أهل بيت النبوة لم يقفوا مكتوفي اليد إزاء ما يحصل من فتن، بل أخذوا يقارعون أفكار هؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى أعادوا كثيراً منهم إلى جادة الحق والصواب، وكان أهم من ثابوا إلى رشدهم، وعرف الحق وأهله هو إسماعيل بن محمد الملقب بـ (السيد الحميري)، إذ كان شاعراً طويل القامة بين شعراء عصره، وهذا يدل على كسب الواجهة الثقافية التي تمثل طائفة الكيسانية ومن عيون قصائده تلك التي يقول فيها :
وأشهدُ ربي إن قولــــكَ حجةٌ *** على الخلقِ طرّاً من مطيعٍ ومذنبِ
بأنَّ وليَّ الأمرِ والقــــائمَ الذي *** تـطـلـعُ نـفــسي نحـــــــــــــــــوهُ بــتـطـربِ
له غيبةٌ لا بد من أن يغيبـــــها *** فــصــلى عـليه الله مــــــــــن متـغـيِّـــبِ
فيمكثُ حيناً ثم يظـهرُ حينَه *** فـيـمـلأ عـدلاً كــــــــل شـــــرقٍ ومـغربِ
بذاكَ أدينُ اللهَ سراً وجـــــهرةً *** ولستُ وإن عوتـبتُ فـــــيه بـمـعـتـبِ
ويسير على هذا النهج شعراء أهل البيت ممن جندوا أرواحهم وأقلامهم لخدمة المذهب الشريف والدفاع عن مظلومية أهل البيت، كان كثيرٌ منهم لم يصلنا سوى البيت والبيتين، مثل بيت للصحابي أبي الطفيل عامر بن واثلة، الذي يقول:
وإن لأهلِ الحقِّ لا بد دولة *** على الناسِ إيّاها أرجِّي وأرقبُ
وكان من بين هؤلاء دعبل بن علي الخزاعي ، الذي حمل خشبته على كتفه أربعين عاما ولم يجد من يصلبه عليها؛ إذ لم يجد في عصر بني العباس خير وسيلة من الذب عن آل رسول الله الذين لاقوا شتى صنوف التشريد والتقتيل والإقصاء ، ولعل تائيته الشهيرة التي صورت مناقب أهل البيت العلوي ، وما تعرضوا له من أذى شديد على يد حكام بين أمية وبني العباس أقوى إدانة واحتجاج وتعريض بالسلطة العباسية آنذاك ؛ إذ تكشف عدم مشروعيتهم في تسنم الحكم وأعلم من في الأرض موجود بين ظهرانيهم ، وما يهمنا من قصيدته قوله فيها :
ولولا الذي أرجوهُ في اليومِ أو غـــدٍ *** لـقـطع نفسي إثرهم حســــــراتِ
خـروج إمـامٍ لا مـحــــــــــــــــالــةَ خـــــارجٌ *** يـقـومُ عـلى اسمِ اللهِ بالبــركاتِ
يـمـيِّــزُ فـيـنا كــل حـــقٍ وبــــــــــــــــــــاطــلٍ *** ويجزي على النعماءِ والنقماتِ
فيا نفسُ طيبي ثم يا نـفسُ أبـشري *** فـغـيـرُ بـعــيـدٍ كـل مـا هو آتـــــــــي
ولكن الإمام الرضا (عليه السلام) يستثمر الحدث، ويجدها مناسبة للتبشير بقضية الإمام المهدي (عليه السلام) إذ ورد في الخبر الذي ينقله المجلسي في بحاره عن دعبل أن الإمام الرضا لما سمع الأبيات " بكى بكاءً شديداً ثم رفع رأسه إليَّ ـ والكلام لدعبل ـ فقال لي : يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ؟ ومتى يقوم ؟ فقلت: لا يا مولاي إلّا إني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ، ويملؤها عدلاً ، فقال (عليه السلام) : يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن إبنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وأما متى ؟ فإخبار عن الوقت، ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) : أن النبي (صلى الله عليه آله) قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال (ص) : مثله مثل الساعة " لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة" (الآية من سورة الأعراف:187) [بحار الأنوار:49/237- 238].
نستخلص من هذه الحادثة مدى جاهزية الإمام (عليه السلام) للتبشير بقضية الإمام المهدي الموعود وشدة تحرقه إليها بدلالة بكائه الشديد حين سمع دعبلاً يذكر المهدي في شعره ، ثم أعقب ذلك بتوضيح من هو ومتى يخرج ، كل هذا البيان من جانب إمامنا الرضا كان بسب الأبيات الشعرية التي لم تنس وهي تستعرض ظلامة أهل البيت (عليه السلام) أن تستشرف المستقبل السعيد الذي يترقبه كل المصلحين من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وغير ذلك من المواقف التي يستجليها الباحث في أدب أهل البيت، ولعلّ ما يُلفِت إلى أدب الانتظار – إنْ صح الوصف- أنْ يشارك فيه فقهاء وعُلماء خارج إطار مذهب التشيّع؛ هذا لإيمانهم عقديًّا بأنّ الأرض لا يرثها إلا الصالحون من عباد الله، وهذا ما بشّر به القرآن الكريم، فنجد مثل الفقيه المعتزلي ابن أبي الحديد (ت: 656 هـ) يقول في ختام قصيدته العينية الشهيرة:
ولقد علمتُ بأنه لابــــــــــــــــدَّ من *** مهديِّكم وليومِـــــــــــــــه أتوقّعُ
يحميه من جندِ الإلهِ كتـــــائبٌ *** كاليـــــــــمِّ أقبل زاخراً يتدفّعُ
فيها لآلِ أبي الحــديدِ صوارمٌ *** مشهورةٌ ورمــاحُ خطٍّ شُرَّعُ
ورجالُ موتٍ يقـــدمونَ كأنّهم *** أسدُ العرينِ الربدُ لا تتكعكع
تلكَ المنى إما أغِبْ عنها فلي *** نفسٌ تنازعني وشوقُ ينزعُ
وفي هذه الأبيات تمثّل أمنيات الشاعر الذي ذاب عشقاً لانتظار مهديّ آل محمد (عليهم السلام) حيث يتمنى أن يكون ممّن يسير في ركابه ويقاتل تحت يديه مستلذًّاً طعم الشهادة لإقامة الحقّ ورفع الجور عن الآخرين.
ونعثر للفضل بن روزبهان (ت: 927هـ)، وهو فقيه حنفيّ الفروع أشعريُّ الأصول على قصيدةٍ له ذكر فيها النبيَّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام، مطلعها:
سلامٌ على المصطفى المجتبى *** سَلامٌ علَـى السيّدِ المـرتضى
إلى أن يقول:
سـلامٌ عـلَى الـقـــــــائمِ المُنتَظَرْ *** أبي القاسمِ القَرْمِ نورِ الهُدى
سـيَطلعُ كـالشمسِ في غاسقٍ *** يُـنجّيهِ مِـن سيفِهِ المُــــــنتقى
تـرى يَملأُ الأرضَ مِن عـــــــدلِهِ *** كـما مُـلِئت جورَ أهـــلِ الــهوى
ســلامٌ عـلـيـهِ وآبــــــــــــــــــــــــــــــائِـهِ *** وأنـصارِهِ مـا تـــــــــدومُ السَّـــما
ولا تختلف مناسيب العقيدة الناضحة في ثنيّات هذه الأبيات بما فيها من صورٍ فنّية اكتسبها مما ورد في بعض الأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة آل البيت (عليهم السلام) أنه سيملأ الأرض عدلاً بعد أنْ أطبقت ظلماً وجوراً، وفي ختامها يُحيّيه ويحيّي أنصاره الذين استرخصوا أرواحهم فداءً لذلك المعتقد.
وفي الختام يمكن أن يصل القارئ إلى حقيقة مفادها إن الشعر إن لم يحمل قضية تهم الإنسانية جمعاء وتشيع الأمل في نفوس المؤمنين بفجر يطل على الأرض يسود فيه الحق والعدل للجميع ويقضّ مضاجع المستكبرين لم يجد ذلك التشجيع من قبل النبي وأهل بيته في إنشاده وحفظه وتعلمه ؛ كونه لا يشكل غذاءً روحياً ينعش روح القارئ له ويعبئه بالمبادئ والقيم الحقة، وصدق الرسول الأعظم (ص) إذ قال (وإن من الشعر لحكمة).
د. وسام العبيدي
اترك تعليق