حبيب بن مظاهر ... مسرى إلى قافلة السماء

صلى بعينيه الدمعُ وهو يحتضنُ قدومَ قافلةِ السماء

إنِّها قافلةُ العشقِ المضيء

مسحَ تجاعيدَ الزمنِ من ملامحِهِ

فشعَّ على جبينهِ فجرٌ بضياءِ الدماء

تناهى إلى سمعِه حفيفُ رايتهِ المنتظرة

راودته الأنهارُ, وقدّت ظمأه السواقي ,

لكنه آمنَ بعشقِ الكوثر

إنه من طليعة أولئك الأبطال الذين قارعوا جيش البغي الجرار رغم قلة عددهم متدرِّعين بأيمانهم الخالص بالله وحبهم وولائهم لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) فقدّموا دماءهم سخية من أجل الحق وإعلاء كلمة الله فكانوا رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء في كل زمان ومكان.

حبيب بن مظاهر الأسدي الشيخ الذي أفنى عمره بالجهاد مع أمير المؤمنين (عليه السلام) والوقوف مع جبهة الحق فجسَّدت مواقفه المشرِّفة الكثيرة رسوخ أيمانه بالله وعميق حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وتفانيه في سوح الجهاد والتضحية ومقارعة الباطل، لم يمنعه كبر سنه وعمره الذي جاوز السبعين عاماً من الإلتحاق بالحسين مع الأصحاب المخلصين الأوفياء فكان حامل راية الأنصار وقائدهم وقدوتهم في كربلاء حتى ختم مواقفه بأشرفها وهي الشهادة في سبيل الله فمضى إلى ربه متوّجاً بها.

نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من الصفات الفضيلة، فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته، فقد زخر هذا البيت بالأسماء اللامعة التي حملت من الصفات ما ندر حملها في الرجال.

فحبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة يحق له أن يفخر بقبيلته التي برز منها الأبطال والأشراف، فكان منها فقعس الذي كان يعد من الأبطال المعدودين ومعبد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي الذي كان من أشراف الجاهلية وأبطالها ويذكر له التاريخ منافرة مع خالد الصيداوي أيام النعمان بن المنذر دلت على علو الهمة والوفاء والكرم وعزة النفس لبني فقعس قبيلة حبيب وفي ذلك اليوم قال شاعرهم مفتخراً:

وإنا لنُقري الضيفَ في ليلةِ الشتا   ***   عظيمَ الجفانِ فوقهنَّ الحوائرُ

حبيب صحابياً

كان لحبيب وأهل بيته الشرف الأكبر في صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) وولائهم لأهل بيته فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة في القسم الثالث ممن له ادراك (ج1ص373): (إن حبيباً أدرك النبي وعمِّرَ وقتل مع الحسين (عليه السلام) مع ابن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب، وربيعة هذا شاعر مخضرم حضر يوم ذي قار ثم نزل الكوفة). وذكر السماوي في كتابه (إبصار العين) (ص65): (كان حبيب صحابياً رأى النبي).

نزل حبيب الكوفة فصحب أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان من خواصه وأصفيائه، ولازمه في سلمه وحربه فكان من أبرز أبطال حربيه الجمل وصفين وله فيهما صولات وجولات وأراجيز شهدت ببطولاته، واستمر حبيب في ولائه لأهل البيت، فبعد استشهاد أمير المؤمنين صحب الإمام الحسن فكان من الأصحاب الأوفياء الذين بقوا مع إمامهم حين تخاذل عنه الناس وثبتوا في موقفهم المشرف، وبعد استشهاد الحسن صحب الحسين.

مع مسلم بن عقيل

من أوائل الكتب التي وردت إلى الحسين من أهل الكوفة تستحثه على القدوم لمبايعته ونصرته كتاب حبيب، ولكنه لم يكن كباقي الكتب التي كتبت بمداد الغدر، بل كان نابعاً عن ولاء خالص وعقيدة صافية، ولما ورد مسلم بن عقيل إلى الكوفة مبعوثاً من الحسين ونزل دار المختار بن أبي عبيد الثقفي أخذ الموالون يختلفون إليه فقام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري فأفصح عما في قلبه من حب الحسين واستعداده لبذل نفسه في سبيل هذا الحب، ثناه حبيب الذي قام وقال لعابس: (رحمك الله لقد قضيت مافي نفسك بواجز من القول وأنا والله الذي لا إله إلاهو لعلى ما أنت عليه).

وتكفل حبيب بن مظاهر وابن عمه مسلم بن عوسجة بأخذ البيعة للحسين في الكوفة حتى إذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، وخذّل أهلها عن مسلم بن عقيل وفرّ أنصاره حبست حبيب ومسلم عشيرتهما وأخفتهما، فلما ورد الحسين كربلاء خرجا إليه متخفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه.

(علي بن مظاهر)

ذكر أبو مخنف في مقتله إنه كان لحبيب أخوان استشهدا مع الحسين يوم الطف إضافة إلى حبيب هما يزيد وعلي ابنا مظاهر، وقد عزز العلامة المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه (البطل الأسدي) هذا القول فقال: (وبناءً على ما نختاره من رواية الطبري عن الإمام الباقر (عليه السلام) في عدد الشهداء مع الحسين إنهم مائة وخمسة وأربعين رجلاً، وعلى هذه الرواية المعتبرة فإن ماقيل ــ أي قول أبي مخنف ــ قريب لأن المعروفة اسماؤهم لايبلغون هذا العدد).

وهناك رواية أخرى تدل على ذلك وتؤكد وجود علي بن مظاهر في كربلاء فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري في كتابه (معالي السمطين في فضائل السبطين) (ج1ص311): (إن الحسين قال لأصحابه: ألاومن كان في رحلة امرأة فلينصرف بها إلى أهلها... فقام علي بن مظاهر الأسدي وقال: ولماذا ياسيدي ؟ فقال (عليه السلام): إن نسائي ستُسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي.. فمضى علي إلى خيمته وأخبر زوجته بذلك.. فقالت له: وما تريد أن تصنع ؟ قال: قومي حتى ألحقك ببني عمك... فقالت له: لاوالله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء... فرجع علي وهو يقول للحسين: أبت الأسدية إلا مواساتكم.. فجزاهم (ع) خيراً.

في كربلاء

وصل حبيب وابن عمه مسلم بن عوسجة إلى كربلاء وكان وصولهما قبل معركة الطف بأيام، والتقيا بالحسين، فلما رأى حبيب قلة أنصار الحسين عرض عليه محاولة لتعزيز معسكره بأكثر عدد من الأنصار فاستأذنه في أن يأتي قومه من بني أسد الذين كانوا قريبين من موقع المعركة فيدعوهم إلى نصرة الحسين....

روى الخوارزمي في مقتله (ج1ص243)، والمجلسي في بحار الأنوار (ج44ص386): (إن حبيباً لما وصل إلى الحسين ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه، قال للحسين: (إن ها هنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك فأذن له الحسين فسار إليهم حتى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم وقال في كلامه: (يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله فيه فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً)...

فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال: شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمعركة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب، أما أنا فأول من أجاب وقال معه جماعة مثل جوابه فأستجاب لدعوة حبيب تسعون مقاتلاً جاؤا معه يريدون الإنضمام إلى معسكر الحسين ولكن عمر بن سعد علم بذلك فوجّه إليهم قوة من أربعمائة فارس وكان بينهم وبين معسكر الحسين اليسير فالتقى الفريقان واقتتلوا فصاح حبيب بالأزرق بن الحرث ــ قائد جيش أبن سعد ــ: مالك ولنا انصرف عنا... فأبى الأزرق.. وعلمت بنو أسد ألا طاقة لهم بخيل ابن سعد فأنهزموا راجعين إلى حيِّهم ثم غادروا منازلهم في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يباغتهم ليلاً ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان.. فقال (عليه السلام): وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كانت هذه المحاولة من حبيب حرصاً على حياة الإمام الحسين ووقاية له بأهله وقومه وبني عمه ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة فقد كان يعظ كل من يعرفه ومن لا يعرفه ويحاول أن يستميله إلى طريق الحق والانضمام إلى معسكر الحسين.

فقد ذكر الطبري في تاريخه (ج3ص311): (إن عمر بن سعد لما أرسل إلى الحسين كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو ثمامة الصائدي فأعاده، أرسل بعده قرة بن قيس الحنظلي فلما رآه الحسين مقبلاً، قال: أتعرفون هذا..؟ فقال حبيب: نعم هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا فلما جاء وسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد قال له حبيب: ويحك يا قرة أين ترجع ؟ إلى القوم الظالمين ؟ أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك....

كما كان لحبيب كلام بين الصفين يعظ به جيش أبن سعد الذين طبع الله على قلوبهم وفنسوا ذكره لكن ذلك لم يمنع حبيب من تنبيههم وتذكيرهم بالضلال الذي هم عليه فمما قاله حبيب يومئذ: معاشر القوم إنه والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون على الله وقد قتلوا ذرية نبيه وعترته وأهل بيته وعُبَّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً....

(التتويج بالشهادة)

لقد خُتمت حياة هذا البطل بأشرف خاتمة وأعظم إنابة وهي الشهادة بين يدي سيد الشهداء الإمام الحسين بعد أن أفنى حياته كلها جهاداً في سبيل الله وحب أهل بيت نبيه وروي أنه عندما أذن له الحسين في القتال خرج وهو يرتجز:

أنا حبيبٌ وأبي مظاهر   ***   فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ

أنتم أعد عدّةً وأكثرُ   ***   ونحنُ أوفى منكمُ وأصبرُ

ونحنُ أعلى حجةً وأظهرُ   ***   حقاً وأتقى منكمُ وأعذرُ

فقاتل بأعوامه السبعين ذلك الجيش باستماتة وكل أمله أن يدافع عن الحسين وأن لا يصله مكروه وهو حي... ويواصل حملاته ويرتجز بقوله:

أقسمتُ لو كنّا لكم أعدادا   ***   أو شطركم وليتمُ الأكتادا

يا شرَّ قومٍ حسباً وآدا   ***   وشرّهم قد علموا أنداداً

وبينما هو يقاتل إذ حمل عليه رجل من بني تميم يقال له بديل بن حريم فضربه بسيفه وحمل عليه آخر من تميم أيضاً فطعنه برمحه فوقع فأراد أن يقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط فنزل إليه التميمي وقطع رأسه....

قتل حبيب بن مظاهر الأسدي وأسرت روحه الطاهرة إلى بارئها وعينه على الحسين... هدّ مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله احتسبُ نفسي وحماة أصحابي.... كانت المشهد أكبر من الكلمات وأعظم من الوصف

القصاص

لا تنتهي قصة حبيب باستشهاده فإن الروح الوحشية التي جُبل عليها أفراد الجيش الأموي لم تكن لتدع أي شكل من أشكال البشاعة والقسوة والنذالة ألا وتأتي بها.

ذكر الطبري وغيره من أصحاب التواريخ والسير: (إن التميمي ــ قاتل حبيب ــ والحصين تنازعا في رأس حبيب وكل يقول أنا قتلته فأنا أولى برأسه طمعا في الجائزة) ... كانا يتخاصمان على نيل الخزي والعار في الدنيا، وعلى النار في الآخرة فأي انحطاط وصلا إليه ؟

ثم اصطلح التميمي مع الحصين أن يأخذ الرأس ويعلقه في عنق فرسه ويجول به في العسكر ليعلم الناس إنه شريكه في قتله ثم يدفعه إليه فدفع التميمي الرأس الشريف الى الحصين ففعل ما يريد وجال به في العسكر ثم دفعه إلى التميمي!!

فلما رجعوا إلى الكوفة بعد مقتل الحسين إخذ التميمي رأس حبيب وعلقه في عنق فرسه ثم أقبل مع بقية الجيش إلى قصر ابن زياد، فرآه  القاسم بن حبيب بن مظاهر فساير التميمي وهو ينظر إلى رأس أبيه ولا يفارقه... أرتاب التميمي منه وقال له: مالك تتبعني... قال القاسم: إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ فأبى التميمي...

بقيت صورة التميمي ورأس حبيب لا تفارق ذهن القاسم ولم يكن له هم إلا اتباع أثر قاتل أبيه .. ومرت الأيام حتى حان موعد القصاص والانتقام من التميمي المجرم... كان مصعب بن الزبير يغزو (باجميرا) والجند في لغط وكان من ضمن الجند القاسم فدخل إحدى الخيم  فأذا قاتل أبيه أمامه فضربه بسيفه فقتله وعجل بروحه إلى النار...

كانت هذه النتيجة قد حلت بكل أفراد الجيش الأموي بعد جريمتهم النكراء في كربلاء، وهي جزء من العقاب الإلهي الدنيوي ولعذاب الاخرة أخزى.

محمد طاهر الصفار

 

كاتب : محمد طاهر الصفار