القضية الحسينية في التشكيل العراقي ... مضامين جديدة
محمد الهجول
شكّلت قضية الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهاده مع ثلة من صحبه الكرام موقفاً مؤثراً في الفكر والثقافة والفن... إذ صارت هذه القضية مصدر إلهام إبداعي توافرت فيه المعاني العالية للموقف الإنساني الذي جسّده الإمام في رفضه للظلم والفساد، فكان (عليه السلام) فكرة مشرقة تعبّر عن سطوة الفعل الأخلاقي الحقيقي، ومعنى أخّاذاً لسمو الذات المضحية... وبذلك كان حضور الإمام الشهيد في عموم البوح الإبداعي العالمي والعربي قضية مثلى تترجم حقيقة الموقف البطولي الذي أسّسه الإمام، كي يكون منبعاً ثرّاً للتحرُّرِ والمواجهة النبيلة.
وقد شكّلت هذه القضية رافداً قوياً استلهم منه الفنّان العراقي العديد من المفردات في تشكيل موفورات تتسع لمعاني انتصار الخير على الشر، والدم على السيف... وتُعدُّ تجربة الفنّان الراحل (كاظم حيدر) التي قدّمها في معرض شخصي في بيروت عام (1965م) تحت عنوان: (ملحمة الشهيد) الأوفر معنى في استلهام مأساة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء بأربعين قطعة كبيرة، فنرى الفنّان الرائد (جميل حمودي) يكتب عن ذلك المعرض قائلاً: (عبر التاريخ الحافل الذي تنقله صور الملحمة تقرأ معاني البطولة وتكتشف دناءة المؤامرة وتعيش أجواء المعركة بما فيها من كر وفر وهجوم ونكوص وقتل واستلاب... ثم ترى سمو الفداء متجسَّداً بأبهى جلال من أجل المثل الرفيعة التي استشهد من أجلها الحسين (عليه السلام) وصحبه الأكرمين)...
من هذا النص نعي أن الفنّان (كاظم حيدر) استطاع اختزال أجواء المعركة في ملوّنات اعتمدت السرد البصري للوصول إلى أكثر من جانب بغية الكشف عن الموقف الأكثر التصاقاً بمعاني البطولة والإنسانية التي جسّدها الإمام من خلال وقفته تلك...
الفنّان والناقد (نوري الراوي) يرى في هذه الأعمال أن دراسة شاملة لسلسلة اللوحات التي ألغت وحدات هذه الملحمة تقودنا إلى الإحاطة بما في ذلك العالم من نقائض... الخيول المنهكة تقابلها خيول مستنفرة... وضخامة السيوف التي شكلت باحتزامها ظرفاً تاريخياً متأزماً، حقّقت انتصاراً زائفاً سرعان ما تحوّل إلى فضيحة تاريخية اتّسمت بعار (الجرائم النكراء) وبقي في النهاية ذلك السيف الوحيد الذي مُنح من الشجاعة بقدر ماجرّد تلك السيوف الغادرة من كل صفة للنبل والشرف.
من جانبه يكشف الناقد والفنّان (شاكر حسن آل سعيد) عن بعض من مضامين تجربة الفن التشكيلي في العراق منتصف القرن الماضي ويرى أن معرض ملحمة الشهيد في عام (1965م) كان بمثابة المؤشّر الواضح لمستقبل الفن التشكيلي في مرحلة الستينات، ولابد إنه كان حافزاً حينه لشباب الفنّانين من أجل البحث عن رؤى جديدة ذات أبعاد ميتافيزيقية أحياناً وملحمية أحياناً...إن فكرة الخير والشر والمأساة من أبرز مميزات (كاظم حيدر)...
وكما برع الفنّان (كاظم حيدر) في تأطير موضوع استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وجعلها محور العديد من أعماله... فإننا نجد أن فنّانين آخرين استلهموا ذات القضية فكانت محوراً لأعمال كثيرة قدّمها الدكتور الفنّان (ماهود أحمد)، والفنّان (ضياء العزّاوي)، والفنّان (عبد الرزّاق ياسر) حيث برز تشكيل الوحدات كثيمةٍ تسرد قصة استشهاد الإمام الحسين، فكانت اللوحة هنا مساحة ملوّنة تحكي خلود المعنى الإنساني الذي قدمه الإمام الشهيد...
ففي لوحات الفنّان (ماهود أحمد) تأتي الخلاصة في إبراز ملامح الشر الذي مثله (الشمر) وجيشه كقوة باغية لا تعرف الرحمة... فالوجوه المسكونة بالقسوة، والسيوف المسلولة غدراً كانت وحدات مرسومة تعبر في أكثر من جانب عن بعض الصور المخفية للجريمة التي ارتكبها أعداء الإمام.
بذات المعنى يقدم الفنّان (عبد الرزّاق ياسر) مجموعة من اللوحات يتابع فيها أجواء المعركة، ويقص بسرد بصري تفاصيلها الموجعة، فبالرغم من تراصّ الخيول التي أقحمت في المقاتلة وكثافة السيوف المصوَّبة نحو الإمام وصحبه فإن الفنان قد أبدع في تصوير الخوف والتردد وعدم الجرأة فيها... على حين يبرز الإمام كقوة مضحية ومواجهة وواعظة أيضاً.
لقد كرّس المبدع العراقي مفرداته وبصورة مرهفة لتصوير واحدة من أهم الأحداث التاريخية التي عاشتها الأمة الإسلامية، وعمل بقوة على الكشف عن معنى السمو الخالد الذي ترجمته شخصية الإمام الحسين في مواقف الدفاع عن الحق والحرية والسلام، فكانت ملحمة عاشوراء منطلقاً فاعلاً ومحوراً ثراً للتعبير عن إرادة كسر القيد والتحرر من سطوة الظلم والظالمين... استلهمتها اللوحة مثلما استلهمتها مباحث الفكر والأدب...
اترك تعليق