شهر رمضان منهجا للصبر والايثار

امتياز شهر رمضان:

يعتبر شهر رمضان من الاشهر الهجرية القمرية تميزت عن باقي الشهور بجانبين :

 الأول : الجانب المادي

الثاني : الجانب الروحي 

أما الجانب المادي :

تتمثل فيه القضايا التي تخص غرائز الانسان الاساسية في حياته، ففي هذا الشهر يتم تنظيم تلك الغرائز ضمن برنامج له آثاره الايجابية في مستقبل الايام، ومن ثم السيطرة على الاهواء ومتطلبات النفس المتكاثرة، فيحدث تنظيم في التعاطي في استهلاك المواد الغذائية، مما يوفر شيئا للفقراء والمساكين وسد احتياجاتهم المادية.

وفي نفس الوقت تتحول القضايا النظرية في مصطلح الصبر والايثار الى واقع عملي تطبيقي، محسوسا حسا عينيا له التأثير الفعال على نفس المعطي والمعطى له، مما يشكل حالة اجتماعية منسجمة ومتكاملة في العطاء.

 يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب عن سؤال بشأن علة الصوم : ( إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك ان الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، وان الغني كلما اراد شيئا قدر عليه، فأراد الله تعالى ان يسوّي بين خلقه، وان يذيق الغني مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع ). وسائل الشيعة : ج7 ص3 اول كتاب الصوم ب1 .

 هذه الرواية تشير الى مفهومين:

المفهوم الأول : العدالة الاقتصادية

المفهوم الثاني : بناء الروح

اما الأول : العدالة الاقتصادية:

 من منطلق الاقتصاد تبنى العلاقات الاجتماعية بين الناس وتثبت بينهم القيم العليا، بناء على انهم خلق الله وعياله بعضهم من بعض فإذا حصلت هذه الحالة يسود المجتمع الهدوء، لا الغني يفتخر بغناه  لان ما في يده هو حقّ الله للغير، ولا الفقير يبقى فقيرا، لأن هناك من يحس بجوعه وألمه، فيطمئن به رفقا لا منّة ولا تفضلا، بل هو حقّ إلهي فرض على الغني. ( ان الغني كلما اراد شيئا قدر عليه فأراد الله تعالى ان يسوي بين خلقه ).

 واما الثاني : بناء الروح:

 وهذا لا يحس به إلا من تفاعل مع حقيقة الصوم، وبنى نفسه على ذلك، ليرق قلبه على الضعيف ويرحم الجائع.

 وهناك آثار للصوم مترتبة على الجانب المادي، منها:

 الآثار الصحية: ففي هذه الفترة من الشهر المبارك، تعتبر مرحلة علاج لكثير من الامراض الناتجة عن الاسراف في تناول الاطعمة والاشربة، لان هذه المواد الزائدة تتراكم في الجسم على اشكال دهون او سكريات مما تسبب امراضا مختلفة.

فبالصبر على الصيام لتحمل الجوع يؤدي الى احراق الكثير من الفضلات المتراكمة في جسم الإنسان.

العالم الروسي ونظرته للصوم:

وفي هذا الخصوص، يذكر العالم الروسي ( الكسي سوفورين )، فائدة الصوم لعلاج الكثير من الامراض التي يمكن ان تصيب جسم الإنسان، نتيجة الافراط في تناول الأطعمة والاشربة، مما يسبب الى تلك الامراض التي يشير اليها، فيقول: ( الصوم سبيل ناجح في علاج امراض فقر الدم، وضعف الامعاء، والالتهابات البسيطة والمزمنة، والدمامل الداخلية والخارجية، والسل، والاسكليروز، والروماتيزم، والنقرس والاستسقاء، وعرق النسل،  والخراز (تناثر الجلد)، وامراض العين، ومرض السكر، وامراض الكلية، والكبد والامراض الاخرى.

العلاج عن طريق الامساك لا يقتصر على الامراض المذكورة، بل يشمل المرتبطة بأصول جسم الانسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس، والسل، والطاعون ايضا ). كتاب: الصوم طريقة حديثة لعلاج الامراض ) ص 65 الطبعة الاولى.

 ان معالجة تلك الامراض التي اشار اليها العالم الروسي، فقد سبقه الإسلام في ذلك على لسان نبي الرحمة والإنسانية، الخالد بخلود انسانيته، نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) بقوله: (( صوموا تصحوا))، ثم بين (صلى الله عليه وآله) سبب تلك الامراض الحاصلة نتيجة لكثرة تناول الأطعمة، فكنى عنها بالمعدة، ولذا قال (صلى الله عليه وآله): (( المعدة بيت كل داء، والحمية رأس كل دواء )). الوسائل: ج93 و ج59 ، ص255 ، ص260. 

الجانب الروحي:

في هذا الشهر المبارك يكون للجانب الروحي دور فعال في تثبيت القيمة الروحية في بناء روح التقوى لدى الإنسان في جميع المجالات والابعاد، مقرونة بمعاناة الصبر على ترك اللذائذ المادية، والايثار بما تستلذ بها الحياة المادية لتهيئ روح الانسان الى قبول ذلك.

 قال الإمام الصادق (عليه السلام) في ترك اللذة وما يترتب عليها من اثر ايجابي في حياة الانسان: ( لذّة ما في النداء ـ أي يا ايها الذين آمنوا ـ أزال تعب العبادة والعناء ). تفسير مجمع البيان: ج2 ص22  تفسير الصافي: ج1 ص 218.

 وقد تقدم ان للصوم آثار مترتبة على الجانب المادي، كذلك هناك آثار له مترتبة على الجانب الروحي، منها:

 تحقيق البعد الاخلاقي التربوي الذي يترتب عليه قوة ارادة الانسان في قبال الشهوات المادية. ومنها:

 مجابهة الشيطان؛ يعتبر الشيطان مصدر كلّ فكرة سلبية وضعيفة ومانعة للخير، { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (*)}النساء: 120 تقابل الفكرة الايجابية والبناءة التي مصدرها الإلهامات الإلهية والفطرة السليمة. والمجابهة مع الشيطان تحصل في الامور التي بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما سأل عن طريق مجابهة الشيطان، قال: ((الصّوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه)). بحار الانوار: ج93ص255.

اذن الصوم تمرين روحي تربوي اخلاقي له اثر على القضايا المادية، يجعل الانسان بإرادته ان يكف عن جميع الغرائز المادية من دون أي أمر خارجي، بما فيها الغريزة الجنسية، ليثبت من خلال هذا التمرين السنوي انه انسان ليس بحيوان، فلم يكن اسيرا امام غرائزه الجنسية. فيرتفع من عالم المادة (البهيمي) الى عالم الروح (الملائكي).

 يقول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: ( والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق ) الكلمات القصار: الكلمة : 252.

 وتميز الصائم عن غيره في هذا الشهر بعدّة امتيازات بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

 فقال: ((انفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب فسألوا الله ربّكم ـ لكن الإجابة متوقفة على تحقيق جملة من الشروط وهي: ان تكون النية صادقة ، والقلوب طاهرة ـ لأن الشقي من حُرِم غفران الله في هذا الشهر)).

 وبناء على ما تقدم، يتحقق للصائم الغفران من الله عزّ وجلّ، بعد ان تعرّف على حقيقة ماهية الصوم، واطلع على ابعاده واعماقه، المتمثلة بالصبر والإيثار، وقوة الإرادة، وعزيمة الكفاح، فيبعث في نفسه النور والصفاء بعد ان سيطر على غرائزه الجامحة، فيحصل له الإخلاص التام.

 فبالصوم يدخل الى الجنة، لـ((أن للجنة بابا يُدّعى الرّيان، لا يدخل فيها إلا الصائمون))، كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بحار الأنوار: ج93ص252

انما سمي هذا الباب بالرّيان لأن مشقة الصائم إنما تكون في الأغلب من العطش، وعند ما يدخل الصائمون من هذا الباب يرتوون حتى لا يظمأوا بعده ابدا. معاني الاخبار:ص409

وفي الختام: اللهم ارفعنا من عالم البهيمة الى عالم الملائكة، بالصبر والإيثار ليكون لنا الصوم جنة من النار.

الكاتب: السيد زكي الموسوي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الغرور: في الأصل الأثر الواضح للشيء، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شيء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحقّ وعن جادة الصواب على انه مادة للغرور. وبعبارة أخرى: الغرور: إيهام النفع فيما فيه ضرر. مجمع البيان والأمثل في تفسير معنى الغرور.