شهر رمضان وتكامل الإنسان

قال تعالى في محكمِ كتابه العزيز : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1).

قد جعل الله تعالى التكامل في الكثير مما خلق من المخلوقات وعجائب صنعه ، ومنها الإنسان ، وحيث جعل الله عز وجل خلق الإنسان بحسب مراحل متتالية فيكمل بعضها البعض الآخر ، على رغم انه قادرٌ على أن يخلقه في مرحلة واحدة ، وهو الذي إنما اذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، فالأشياء خاضعة لمشيئته فتكفي مشيئة الله تعالى في تدبير الخلق وأمورهم ، ولكن نجد ان خلق الانسان كان بحسب سلسلة تكاملية من المراحل المتتابعة التي يتلو بعضها بعضا ، وحيث قال تعالى موضحا خلق الانسان : ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (*) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (*) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))(2) ، والسؤال هنا اذا كان خلق الانسان قد تكلل بالتكامل فهل ان جوهر الإنسان يحتاج الى التكامل؟

و يا ترى كيف يكون التكامل الجوهري للإنسان ؟

وهنا تفيد الحقائق التكامل نوعان هما : تكامل في جسم الانسان وتكامل في جوهر الإنسان ، وتؤكد لنا بأن الانسان بأمس الحاجة الى أن يتكامل جوهريا بكل السبل المتاحة وليس جسديا فقط! ، وانه إذا ما تهيئت له المناخات الملائمة للتكامل فإنه سيبدأ جوهره بالتكامل الإنساني شيئا فشيئا حتى يصل الانسان الى مراحل متقدمة من الكمال .

ومن الجدير ذكره ان التكامل في جوهر الإنسان هو التكامل فيما يتضمنه ويحتويه باطنه فيتكامل في العقل وفي السلوك والصفات التربوية والخصائص النفسية ونحو ذلك.

فالفرد الإنساني لكي يتكامل جوهريا لابدّ ان يلزم نفسه بالسير على طريق الصواب والفلاح ، وطريق الفلاح يتمثل في طاعة الخالق عز وجل ونبيه واهل بيته والسير بسيرتهم والتسنن بسننهم التكاملية ، وحيث جعل الله تعالى صيام شهر رمضان من السنن التكاملية لجوهر الإنسان ، حيث روى الشيخ الصدوق بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله خطبنا ذات يوم فقال:

أيها الناس إنه قد اقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات وهو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم وتوبوا إلى الله من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده...))(3).

فإذن شهر رمضان يتضمن محطات الهية يتزود منها الانسان التكامل لجوهره على حسب قابلياته واجتهاده في الإنسجام مع جوهر هذا الشهر الكريم، فشهر رمضان يعطي الإنسان المؤمن الصائم قدرا من التكامل في العقل و في العلم ، والتكامل في الخلق و في التربية و في السلوك والتكامل في الخصائص النفسية ، وأن شهر رمضان يكسب الانسان المؤمن الصائم الكثير من الرقي والسمو في جوهره ، ويضفي عليه طابع الإنسانية وجمال الاخلاق ، وحيث يعلمه الصبر في الحياة ، وهذا الصبر قد يكون صبرا على طاعة أو صبرا على معصية أو صبرا على مصيبة أو صبرا على أمنية يتمناها لم تتحقق له الى الآن ، كما ويعلمه حب الآخرين من ابناء مجتمعه واحترامهم، ويعلمه الإحساس بالفقراء والمساكين الذين تعسرت عليهم المعيشة وكان عيشهم نكدا ، كما ويحث شهر رمضان الانسان على التزود بالحكمة لإسناد العقل بها ، وطلب العلم ليكون له نورا يهتدي به الى طريق الكمال .

إضافة الى ذلك فإن شهر رمضان يعلم المجتمع على مبدأ التكافل الإجتماعي، ولاسيما في مجتمعنا اليوم حيث يكثر عدد اليتامى بين أظهر المجتمع، ويزداد عدد الأرامل والفقراء والمحرومين واللذين تعذرت عليهم ابسط مقومات العيش الكريم، فليعلم الصائم ان شهر رمضان جعل التكافل الاجتماعي من اهم أهدافه الفائضة له بالتكامل الجوهري الذي سبق ذكره أعلاه، فلا ينبغي للمتمكن من ذلك غض الطرف عن هذه المبدأ والإنشغال بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات.

وبهذا يجد الإنسان المتفكر أن آثار هذا الشهر الفضيل في جوهر الانسان المؤمن الصائم إنما هي مجموعة من القوى العقلية والروحية والعلمية والتربوية والاخلاقية والنفسية ونحو ذلك، وان هذه القوى إنما تكون بدرجات متباينة واشكال مختلفة بحسب الاستعدادات والقابيات المتباينة لدى عموم المؤمنين الصائمين ، ويجد الانسان المتمعن أن شهر رمضان حينما بنى الفرد كان بذلك قد بنى المجتمع ، لأن بناء الأجزاء هو بناء الكل وحيث الفرد نواة المجتمع.

الكاتب: مهند سلمان آل حسين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) آية 183 / سورة البقرة

(2) الآية 12-17/ سورة المؤمنون

(3) في كتابه عيون أخبار الر.ضا عليه السلام.