لعل في الحروب وهي مما يعول عليه أهل الكوفة في أرزاقهم سببا أشد فيما كان بين علي عليه السلام والكوفة فالتغاير أكثر وطأة والتباين أشد أثرا،أبناء الكوفة الذين مازالت في أفواههم حلاوة الغنم الذي جرّه اليهم عهد الفتوحات يسلمهم علي عليه السلام في حروبه الى واقع آخر...
واقع من جنس فضاءه العالي، إنه يبث في المحارب روح الزاهد ويحصرغاياته بأقواس العقيدة ،ثم يعلو في فضاءه فيُخضع الحرب لسلطان الأخلاق وقواعد الحق.
وكانت الجمل البدء فيما خبروه من ذلك الواقع وأول مااستفز فيهم من ذلك الخلاق أستعرت الحرب كأنها المحرقة وأستحالت الارض بركة واسعة فرط دماء سالت والسماء سحابة عملاقة من أرواح أزهقت، تماثل الفريقان في شدة الضرب وعنف الطعان وكانت وصاياه فيهم رغم هذا أن (لاتقاتلوا القوم حتى يبدأوكم فأنكم بحمد الله على حجة وكفكم عنهم حجة أخرى فأذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا ولاتكشفوا عورة ولاتمثلوا بقتيل وأذا وصلتم الى رجال القوم فلاتهتكوا سترا ولاتدخلوا دارا ولاتأخذوا من أموالهم شيئا).وأذا انتهت بنصره عمد الى ماوجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع فقسمه بين أصحابه فقال بعض أصحابه إقسم بيننا أهل البصرة فأجعلهم رقيقا لنا فرفض فقالوا : كيف تحل لنا دماؤهم وتحرم علينا سبيهم ؟ فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام ؟ وأما ماجلب من القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الابواب فهو لأهله ولانصيب لكم في شئ منه. فلما أكثروا عليه قال فأقرعوا على عائشة لأدفعها الى من تصيبه القرعة.
وهذه صفين ثاني تلك الحروب..أعد لها معاوية مابوسعه ،فتأرجح النصر والهزيمة بالنسبة اليه تأرجح مسعى عقدين من الزمن إن أنتصرأدرك التاج وخلص له الملك وإن هُزم فإنه الموت إن لم يكن بسيف علي عليه السلام فبالغيض من إنتصاره ، وشابهه علي عليه السلام في الإستعداد فإنها جذوة الاسلام الذي تولى الدفاع عن حياضه منذ إنطلاقته ،تسلم في هذه الحرب أو تخمد. ولعل حادثا فيها دفع الصراع الدائر بين فضاء علي عليه السلام ونفوس أهل الكوفة الى ذروته ،حين قدموا على المعركة وقد سبقهم معاوية الى ميدانها فأمسك عليهم الماء (فلما وافى علي عليه السلام وأصحابه لم يصلوا الى الماء فتوسل الناس الى معاوية وقالوا لاتقتل الناس عطشا ففيهم العبد والأمة والأجير فأبى معاوية وقال لاسقاني الله ولاابا سفيان من حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شربوا منه أبدا فوجه علي عليه السلام الأشتر والأشعث وكانت خيل معاوية مع أبي الأعور فقاتله أصحاب علي عليه السلام حتى صارت سنابك الخيل في الفرات وغلبوا على المشرعة فقال أهل الكوفة لانسقيهم أبدا فأرسل اليهم علي عليه السلام (خذوا من الماء حاجتكم وأرجعوا الى عسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم).
الحادثة كانت بذارا من السماء وتربة من الارض ،ألقت على الكوفيين حملا يوهن القوى ويفت الحول، فكأنها السبق الذي عازه المران والضغطة التي كسرتهم لسلطان الأخلاق... عادة الحروب أن تعطي الشرايينُ فيها الدم وتأخذ الأحقاد ... سرعة في الثأر وآنية في الإنتقام، وحرب ضروس كصفين تساقط فيها القتلى كحبات المطر وتراقصت في العيون أهوال وويلات، أولى أن تجد فيها تلك العادة ازدهارها، وماأضمن الفشل بعد هذا حين تُستبدل تلك العادة بذروة للأخلاق... أن يسكبوا لعدوهم الماء بدل إهراق دمه ،وأن يدفعوا اليه سببا للحياة وقد أراده لهم قبل ساعة سببا للموت.
وإني لأظنها الباب الذي خرج منه أهل الكوفة الى عصيانهم السافر وتقاعسهم البين ، حتى في أطار العسكرية وهو أضيق بما جعل للضبط من حتمية والطاعة من إلزام, تقوّى على سلوكهم داء الخذلان وتفشت فيهم آفة الرد على القائد... حتى لتجد التحكيم الذي مُنيت به نهاية المعركة بادرة من معاوية تلاقفتها أيدي خوارهم.
الكاتب / الشيخ صلاح الخاقاني
اترك تعليق