لم تكن زيارة قبور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مجرد تسلية للنفس، أو قضاء للوقت، ولا المقصود منها عبادة الموتى كما صورتها الوهابية الضالة، وإنما هي عملية تربوية يتذكر فيها الإنسان الأناس الذين اصطفاهم الله سبحانه وفضلهم على جميع البشر، وهي رحلة تربوية إيجابية للنفس، لتحد من طموحها الدنيوي وطول أملها، وهي عملية وعظ للنفس، وتطهير لها من الطمع والجشع وطول الأمل، وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
ويمكننا فيما يلي ومن خلال التأمل في الأحاديث الشريفة ونصوص الزيارات أن نذكر بعض فوائد الزيارة لمشاهد المعصومين (عليهم السلام) على النفس وعلى المجتمع وهي:
1: تجديد الصلة بالإسلام من خلال الإقرار بعهود يلزم الإنسان بها نفسه أمام روح المزور الذي يعتقد قدسيته، ورد في مقطع من زيارة أئمة أهل البيت (عليهم السلام): «وأشهد الله تبارك وتعالى – وكفى بالله شهيداً – أني بكم مؤمن، ولكم تابع في ذات نفسي، وشرائع ديني، وخواتيم عملي، ومنقلبي ومثواي».
ونحن نرى في هذا إقرار وتعهد بالالتزام أمام الله تعالى، والإيمان والإتباع والسير على نهج الأئمة الطاهرين، فالزيارة تعهد، والتزام، بل إلزام الزائر لنفسه بأمور يفرضها عليها، ويلقنها بها، ويوحي لها بوجوب الالتزام بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه.
2: الزيارة تأكيد للميثاق الإلهي، والتعهد في التمسك والحفاظ على دينه والسير على نهجه، ورد في مقطع من الزيارة: «اللهم اجعلني في مقامي هذا ممن تناله منك صلوات ورحمة ومغفرة، اللهم اجعل محياي محيا محمد وآل محمد ومماتي ممات محمد وآل محمد... اللهم إني أشهدك بالولاية لمن واليت ووالته رسلك، وأشهد بالبراءة ممن برئت منه، وبرئت منه رسلك».
وهنا دلالة أخرى على أن الزيارة عقد وميثاق مع الله تبارك وتعالى بالولاية لأوليائه، والبراءة من أعدائه، والولاية لأولياء الله تعالى، والبراءة من أعداء الله عصب الحياة الرسالية، وقطب رحى التوحيد.
3: تحولت الزيارة وفق توجيهات الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وتأكيداتهم على شيعتهم بالتحلي بأخلاقهم، والحضور عند ضرائحهم، وتلاوة نصوص الزيارات التي أنشؤها هم إلى محطات هداية روحية، وسياسية، واجتماعية تبث الوعي الفكري والبناء الروحي، وهذه المحطات مفتوحة الأبواب على طيلة أيام السنة تغذي الزائرين بالعزم، والإرادة والبصيرة النيرة.
4: إن الزيارة تسلط الأضواء على الجهود التي بذلها المزور على مختلف الأصعدة، وبيان لعظمة الرسالة التي ضحى من أجلها، ودعوة صريحة للالتزام بما التزم به وإلى ما دعى إليه سواء كان في العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق؛ ولهذا تكرر المقطع التالي في مختلف الزيارات: «أشهد أنك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر وجاهد في الله حق جهاده».
وفي هذا النص شهادات ثلاثة يسلط فيها الضوء على جهود الإمام التي بذلها، لتبليغ أحكام الله، وحفظ رسالته تعالى من خلال التأكيد على عقائد الإسلام، وأحكامه وأخلاقه في موقف تنتاب الإنسان فيه الرقة والخشوع، والضراعة، والتوسل بالله تعالى، وفي مثل هذه المواقف لابد أن تترسخ تلك المفاهيم في النفس، وتتحول إلى قوة تحد بوجه أعداء الله تعالى.
كما نلاحظ أن النص لم يسلط الضوء على شخص الإمام ذاتاً، إنما سلطه على شخصية الإمام الرسالية من خلال بيان جهود الإمام في تبليغ رسالة الله وحفظها من يد المحرفين، وإقامة أحكام الله، وتلاوة كتابه، والصبر على الأذى في سبيله، والجهاد في الله حق جهاده، والاستمرار على نهج الهدى الذي سلكه آباؤه الطاهرون والتضحية لله، وأداء الأمانة، واجتناب الخيانة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإخلاص في عبادة الله... وهكذا تكون الزيارة إبراز وإظهار لما دعى إليه الإسلام من عقائد وأحكام، وأخلاق.
5: ثم إن الزيارة تربط الإنسان بالمزور ومن خلاله توصله بخط الأنبياء، والمرسلين، وتشعره بأنه حلقة في سلسلة رتل الأنبياء والمرسلين، فهي عملية تواصل شعوري ووجداني بمسيرة الأنبياء والمرسلين والأئمة الأطهار.
وهذه الحقيقة نجدها ناصعة في الزيارة المعروفة بزيارة وارث للإمام الحسين (عليه السلام): «السلام عليك يا وارث علم الأنبياء، ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث إسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله... الخ».
وهكذا تكون الزيارة عملية تواصل شعوري ووجداني برسالة الله على طول خط التاريخ في مسيرة رسل الله تعالى ونصبهم شعورياً رموزاً، ونماذجاً للاقتداء، والاحتذاء، والتأسي بهم في المجالات كافة، وهذا معنى أكد عليه القرآن الكريم في عملية توجيه الرسول (صلى الله عليه وآله) وإعداده ومن هنا وردت الكثير من الآيات لحثه صلى الله عليه وآله وسلم على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وعلى ذكرهم وتمثلهم الذهني من أجل الاقتداء بهم عملياً.
6: إن الزيارة ــ لاسيما زيارة الحسين (عليه السلام) ــ تشتمل على إدانة صريحة لكل الطغاة والمنحرفين عن خط الإسلام في كل زمان ومكان، وهذا المعنى واضح في نصوص الزيارات الواردة عنهم (عليهم السلام)، والتي يبرز فيها عنصر التولي لأولياء الله والتبري من أعداء الله بشكل جلي صريح ففي زيارة الزهراء سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها، وعلى أبيها وبعلها، وبنيها، يقول الزائر: « أشهد الله ورسله وملائكته أنّي راض عمّن رضيت عنه، وساخط عمّن سخطت عليه، متبرّئ ممن تبرأت منه، موال لمن واليت، معاد لمن عاديت، مبغض لمن أبغضت، محب لمن أحببت، وكفى بالله شهيداً، وحسيباً، وجازياً، ومثيباً...».
ومن خلال هذا النص وغيره من النصوص الواضحة الصريحة يتضح لنا أن الزيارة تحريك ثوري ضد قوى الطاغوت، وتحشيد لكل قوى الإيمان؛ لتقف سداً منيعاً في وجه امتداد قوى الكفر والشرك والنفاق.
وبناء على هذا الفهم تكون زيارة أهل البيت (عليهم السلام) عملية إعداد روحي، وبناء فكري، وترابط اجتماعي، وتصعيد ثوري...؛ لتحد قوى الطاغوت.
وبهذا نستطيع أن نفسر الحث المتواصل من قبل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لزيارة قبورهم وبالخصوص زيارة قبر الحسين (عليه السلام) واستنكارهم على شيعتهم إذا أحسوا منهم التقصير، أو التماهل عن زيارة الحسين (عليه السلام)، فعن سدير قال: «قال لي أبو عبد الله:يا سدير تزور قبر الحسين (عليه السلام) في كل يوم؟ قلت: لا، قال:ما أجفاكم؟ قال: تزوره في كل جمعة؟ قلت: لا، قال:تزوره في كل شهر؟ قلت:لا. قال: فتزور في كل سنة؟ قلت: قد يكون ذلك. قال: يا سدير ما أجفاكم بالحسين (عليه السلام) أما علمت أن لله ألف ملك شعثاً غبراً يبكون ويرثون لا يفترون زواراً لقبر الحسين (عليه السلام)، وثوابهم لمن زاره».
فلو لم يكن لزيارة الحسين (عليه السلام) تأثير بالغ في النفوس، وتغير للواقع النفسي والاجتماعي لما كان كل هذا التأكيد على زيارته. كما أننا من خلال ذلك نستطيع أن نفسر الموقف المتشدد من قبل حكومات الطاغوت على امتداد الزمن على زوار الحسين (عليه السلام) من قتل وسجن، وتشريد، وقطع الأيدي، وفرض الضرائب على من يزور الحسين (عليه السلام)، ولما لم ينفع كل ذلك هدموا قبر الحسين (عليه السلام) وأجروا عليه الماء، بل حرثوا أرضه وزرعوها كما عمل هارون العباسي «فقد أمر بهدم القبر المطهر، وكرب موضعه، وقص شجرة السدر التي كانت بجوار القبر من جذورها، ومنع من إقامة المآتم والمناجاة سواء على القبر، أو في بيوت الشيعة.
وفي سنة 236 هـ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي (عليه السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وان يمنع الناس من إتيانه فنادى (عامل صاحب الشرطة) بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق...»( ابن الأثير، الكامل في التاريخ حوادث: 236).
وفي العصر الحديث تعرض قبر الحسين (عليه السلام) إلى هجمات الوهابيين وحاولوا هدمه ففي سنة 1216 هـ «تعرضت كربلاء والحرم الحسيني لهجمة بربرية قامت بها الجماعة الوهابية بقيادة سعود بن عبد العزيز، الذي أستغل ذهاب معظم أهالي كربلاء إلى النجف الأشرف لزيارة ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير... فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وأخذوا يخربونها، فاقتلعت القُضب المعدنية والسياج ثم المرايا، ونهبت النفائس والحاجات الثمينة... والسجاد الفاخر والمعلقات الثمينة والأبواب المرصعة، وجميع ما وجد من هذا الضرب فسحبت إلى الخارج» ( تحسين آل شبيب، مرقد الإمام الحسين عبر التاريخ: 166).
فعلوا كل هذه الفضائع بعد أن هدموا قبور الأئمة الأربعة في البقيع، وإلى اليوم فهو هدف لهجوم الظالمين كان آخرها رميه بالمدافع الثقيلة من قبل الأوباش البعثيين سنة 1991م.
كل هذا؛ لأن الزائر للحسين (عليه السلام) عن إيمان، ووعي مجرد أن يدخل ضريحه المطهر فإنه يستلهم منه التحرر الثوري، والحماس الرسالي، وتتعبأ نفسه بالرفض لكل الطواغيت، لأن الحسين (عليه السلام) ثورة في قبره يبعث في النفوس العزة، والإباء، والثورة، والرفض لكل أشكال الطاغوت؛ ولهذا «نلاحظ من خلال بعض هذه النصوص أن من أهداف الأئمة (عليهم السلام) أن يخلقوا تياراً اجتماعياً لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وكان هذا مرتبطاً بأهداف الثورة ونجاحها».
7: تأكيد الشعور بالإتمام والإقتداء: يقول الشهيد الشيخ حسين معن: «ونلاحظ أيضاً أن زيارة المشاهد ليست فقط محاولة لخلق جو إيماني... وإنما هي أيضاً استشعار لوجود القدوة... وتمثل معانيها الخيرة في الفكر، والروح والسلوك في العطاء والجهاد، تأكيداً للشعور بالإتمام والإقتداء» (راجع الشيخ حسين معن، نظرات حول الإعداد الروحي: 268).
فالمؤمن عندما يزور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو أحد أهل بيته إنما يؤكد إيمانه بنهجه وإقتدائه بسيرته، وامتثاله لأمره، متقرباً بذلك لله تعالى، فقد ورد في مقطع من أحد زيارات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «السلام عليك يا حجة الله على الأولين والآخرين... تسليم عارف بحقك، معترف بالتقصير في قيامه بواجبك، غير منكر ما انتهى إليه من فضلك، موقن بالمزيدات من ربك مؤمن بالكتاب المنزل عليه، محلل حلالك، محرم حرامك... بأبي أنت وأمّي يا رسول الله زرتك عارفاً بحقك، مقراً بفضلك، مستبصراً بضلالة من خالفك وخالف أهل بيتك، عارفاً بالهدى الذي أنت عليه، بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي وولدي ومالي... الخ» (راجع المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 100/171).
وبهذا تكون الزيارة تدعيم لإيمان الإنسان بالله تعالى، وتصعيد لحركته في كدحه إلى الله من خلال شعوره بالإتمام، وإقتدائه بالرسول أو الإمام، وهذا هو أهم ما تُبنى به شخصية المؤمن.
هذه بعض آثار زيارة المعصومين (عليهم السلام) على الفرد والمجتمع وما تركناه اكبر، نسأل الله زيارتهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة، وان نكون على خطاهم وفي طاعة دائمة لله سبحانه، آمين يا رب العالمين.
بقلم: شيخ جميل الربيعي.
اترك تعليق