نظرا الى ان الاسرة هي الاساس في الوجود الانساني، وان الاسرة الفاضلة هي اللبنة الاصلية في حضارة الامة، و نظرا الى ان نمو الحضارة متعلق بطبيعة نمو الكيان الاسري ..
ان الانسان هو ابن تاريخه؛ أي انه من جملة الاحياء التي تمتد فترة طفولتها مدة طويلة، وهي في الواقع فترة التلقي، ويتمكن ابانها من تلقي الاخلاق و الآداب والمعارف من والديه، ولعل هذه الفترة تستمر عند البعض الى اخر حياتهم، تبعا لطبيعة موقفهم التابع لوالديهم.. وهذه الفترة هي فترة نموذجية لبناء ظاهر الانسان وباطنه، حيث اول ما يتلقى عنهما اللغة التي يعبر بها عن ارادته ونيته وتطلعه وفكره.. ومن خلال _وعاء اللغة_ يستفيد من محتوياتها، ومحتوياتها هي ركائز الحضارة، بما فيها المعلومات ومنهجية التفكير والآداب والاخلاق والقناعات..
إذن؛ فالأسرة وعاء حري بانتقال كل التجارب التاريخية الى الجيل الآخر؛ ليس من خلال الجيل المتصل فحسب، وانما عبر الاجيال القديمة عموما؛ أي كل الحضارة التاريخية، من لدن آدم عليه السلام الى الوالدين.. و هذا كله من انجازات الانتماء الى الاسرة والعيش ضمن واقع اجتماعي محدد.
اما الانسان البدائي البعيد عن الحياة الاسرية المعروفة، فمن الممكن ان يقضي كل ايام عمره دون الن يتمكن من تعلم ما يتعلمه طفل بصورة طبيعية وآلية ضمن نطاق الاسرة.. وهذا يجسد نعمة واحدة من نعم الله على الانسان. فما الذي يدعو هذا الانسان الى ان يتناسى هذه النعمة الجلية؟
هذا اضافة الى ان الاسرة محور انتقال الحنان والعطف، اذ ليس الانسان كيانا ماديا وجسديا فحسب، حتى لا يحتاج لغير ما يسد جوعه ويستر بدنه.. وانما له جانب روحي حيث ينبغي ان يروى عاطفيا، بل ان حاجة ابن آدم الى العاطفة اشد من حاجة أي كائن حي آخر، حسب معرفتنا.
وليس اقدر واروع من الجو الاسري على تلبية الحاجة؛ حتى اننا نجد في الايتام _بشكل عام_ انهم يفقدون جزءاً اساسيا من شخصياتهم ، وخصوصاً حينما لا يجدون من يسد لهم النقص العاطفي الذي يشعرون به ويعانون منه، وقد تستمر المعاناة لديهم طيلة فترة حياتهم.
اما ما يقال عن المدينة الغربية، وكونها قد حققت لنفسها السيطرة بسبب تمردها على الكيان الاسري، فإننا نرى هذا القول مبالغا فيه، حيث ان احد الركائز المهمة في التطور لدى الشعوب الغربية انها تمردت فقط على مجموعة من الخرافات التي كانت منتشرة في اسرهم ومجتمعاتهم.. وهذا شيء لا يمكن انكاره.
ولكن حينما احرزوا التقدم، استولى عليهم الغرور، واستولت عليهم النظرة المادية، حتى اصبح واقع الحضارة الغربية واقعا اعرج يكابر ويراهن على مسيرة غير مكتملة الجوانب. ولذلك فهي اليوم _جراء هجرها لمتطلبات الكيان الاسري_ تعاني ازمات متلاحقة بعد ان تفككت فيها عرى الدين والقيم الصحيحة والسليمة، ومنها قيمة الاسرة؛ حتى انها اضحت على شفى من الانهيار الحضاري المتوقع، كما انهارت حضارة قوم لوط مثلاً بعد ان تفككت لديها عرى الاسرة، فانهارت بسبب الفساد الاخلاقي.
نعم؛ ان العاطفة التي يتكفل بها بيت الاسرة، تؤثر تأثيرا ايجابياً كبيرا في الاحساس بالكرامة، اما الشارع ودار الحضانة، فلا يتكفلان بصناعة الشخصية المحترمة والكريمة لدى الانسان. وحيث ينعدم الاحساس بالكرامة، ترى الوساوس الشيطانية والانجذاب الى الخلاق الرديئة، والى المخدرات والجريمة، تأخذ دورها الفعال في صياغة شخصية الانسان لتكون شخصية منحطة.
وصية مهمة للوالدين:
ولذا؛ نتوجه بالنصيحة المباشرة للوالدين، حينما يرزقكما الله تبارك وتعالى ولدا، بل حينما تكتشفون انه سبحانه سيرزقكم ولداً، فان مسؤوليتكم الاجتماعية والسياسية وغيرها تتحول الى مسؤوليات ثانوية، في مقابل مسؤوليتكم تجاه وليدكم القادم.. بمعنى ان مهمة تربية الاولاد اكبر بكثير من مهام الانسان تجاه وضيفته او عمله.. وان التهاون في مجال تربية الاولاد، يعني تعمد تخريج جيل فاسد والزج به في الوسط الاجتماعي. وهذا من اكبر الظلم واعظمه، تجاه الاولاد والمجتمع، بل هو ظلم كبير يمارسه الوالدان تجاه نفسيهما ايضا.
ولا يذهب القارئ خطأ؛ فنحن لا نخالف الوالدين في ان يمارسا مهامهما الطبيعية.. وإنما نخالف _مخالفة قاطعة وصريحة_ ظاهرة التقصير في حق اولادهما، ونخالف التهاون فيما يتعلق بمسؤوليتهما الجسيمة بحق الاولاد.. ولا مبرر ابداً في ان ينهك المرء نفسه، ويضيع حياته لتوفير لقمة العيش لولده.. مع كونه غافلا عما يحتاج هذا الولد من تربية صحيحة وعاطفة لازمة.
فلا ينبغي للآباء ان يتركوا امر تربية اولادهم_ تحت طائل العمل اليومي، مع اهميته_ للشارع، او للأفلام التي قد يختزل منتوجها مشروعا ثقافيا تخريبيا للنفس الانسانية، وغير ذلك من الخيارات..
كما لا ينبغي للام ان تترك اولادها للخادمة، دون ان تهتم بإشباع عواطفهم من عطفها وحنانها، تحت طائل العمل اليومي، او الانهماك في التزين وحضور التجمعات الدنيوية وشبه ذلك.. لان الاولاد _والحال هذه_ سيكونون معرضين للانهيار والهزيمة لدى ابسط المواجهات، تبعا لما يعانونه من ازمات عاطفية حادة وفراغ روحي قاتل.
وقد اثبتت التجارب بما لا يحصى خطا وفشل ايلاء الاولاد مطلق الحرية لاختيار الصديق، واسلوب الحياة.. و انما المفترض ان يكون ذلك ضمن حالة وخط منهجية معلومة مسبقاً، ومرسومة من قبل المدرسة القرآنية والتعاليم الصادرة عن قبل النبي(صلى الله عليه وآله) واهل البيت(عليهم السلام).
و لعل اغلب الاولاد _في حقيقتنا الراهنة _ ممن يبتلون بالمخدرات، كان هو السبب في انهزامهم امام مواجهة مشاكل معينة، سواء مشكلة مالية ام عاطفية ام دراسية.. فإذا انهزموا انهاروا، وبعد الانهيار لا يجدون لهم ملجأ _بعد الانفصال الحادث بينهم وبين آبائهم_ إلا التوجه الى هذه التيارات الخطيرة؛ مثل المخدرات، او الانخراط ضمن شبكة متطرفة، او حتى تأسيسها..
وللأمهات _خصوصا_ ان يتدبرن قول الله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}(سورة يوسف آية(2) مع ملاحظة ان يوسف الصديق(عليه السلام) فقد اسرته، وفقد الحنان والعطف الذي كان يوليه اياه ابوه النبي يعقوب(عليه السلام) فابتيع كعبد و اصبح متاعا في بيت العزيز، ولكن الله تعالى كان قد قضى ليوسف ان يحظى بالعطف والحنان والكرامة.. فوجد كل ذلك في بيت العزيز، حيث اكرم مثواه.
ثم قال العزيز لامرأته ايضاً:{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(سورة يوسف آية(21).
مما يوحي بأن الولد لا نفع يرجى منه في المستقبل ما لم يحظ بالكرامة من قبل الوسط الذي يعيش ضمنه..
وبفعل الكرامة والتكريم يتمكن المرء في الحياة،{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}(سورة يوسف، آية(21)، حتى صارت مقاليد مصر اليه، وكانت تحتضر اكبر حضارة على وجه الارض آنذاك، بعد ان نال الاحترام والتكريم، فاصبح سلطانا، واصبح عالما، حيث علمه الله تبارك وتعالى تأويل الاحاديث ومعرفة المواقع.
و ما لم يحظ الطفل بمقدار كاف من العطف والكرامة من قبل الوالدين، او من له القدرة على تعويضه هذين العاملين، فان من الصعب التنبؤ له بمستقبل طيب، ومن الصعب ايضا توقع الفائدة منه حين يكبر ويصبح شخصا مسؤولاً.. وكيف له ان يقوم بالمهام المنوطة به في هذا المجال، وهو يفتقر الى الثقة بالنفس والى الشجاعة في الاقدام، مما يفقده الدافع الذاتي نحو التقدم، كما ويجهل آلية أداء تكلم المهام؟ بل وكيف له ان يختزل في ذهنه ضرورة الانصهار في الجو الاجتماعي، وهو قد ترعرع في احضان المربية والخادمة الاجنبية، ولم يتلق_ ولو نزرا يسيرا_ من حنان الامومة والابوة.
ولا ريب في ان احداث الحجب بين الطفل وابويه يؤدي الى استشعار الطفل بقسوة من جانبها تجاهه؛ فتراه ينموا ويكبر والقسوة ماثلة امام ناظريه، ومتغلغلة في دماغه.. حتى تكون هي الاداة المحركة في معظم مجالات حياته.
ان من الجدير بالأب والام ان يصطحبا الابن والبنت، وحسب المجالات المتاحة الى المساجد والحسينيات، بل وحتى الى مراكز الترفيه السليمة والحدائق العامة، وان يتحاشيا وقوع نوع من الانفصال عن الاولاد.. اضافة الى ضرورة تخصيص اوقات كافية لملء الفراغ الذي يشعر به الاولاد، مع الاهتمام الفائق بتجنيبهم ما قد يحدث من شجار واختلاف حاد بين الابوين. ويقابل ذلك، اشراكهم بالاحاديث والافكار الطيبة والجميلة، والممارسات الدينية؛ مثل الصلوات.. لتكون الاسرة_ في نهاية المطاف_ وعاءً نقيا من الرذائل يمكن ان تنقل عبر الآداب والاخلاق والمثل الحضارية الكريمة.
ولبالغ الاسف، نلاحظ في بعض الاحيان ان الكثير من الآباء والامهات يجعلون من التربية الصالحة امرا صعبا للغاية، بسبب ما يمارسونه من سلوكيات خاطئة بحق اولادهم، حيث يتفوهون بكلمات بذيئة ومهينة امامهم.. وهذا ظلم مباشر يتعرض له الاولاد، ينتهي الى مزيد من العقد في انفسهم .. كلا؛ علينا الرجوع الى البرامج النورانية التي رسمها الاسلام فيما يتعلق بموضوع واجبات الوالدين تجاه الاولاد، وعدم التأثر بالظروف المعيشية الصعبة والانشغال بها عن ادارة الاسرة، لان الهدف الاساس من تكوين الاسرة، ايجاد جيل متقدم على صعيد الدين والدنيا. ومن المفترض لتحقق هذا الهدف السامي، استخدام وسائل واساليب متقدمة وحضارية سامية.
اترك تعليق