من الواضح والمسلمات أن النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله- (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)(1) فإذا مدح شخصاً كان مدحه واقعي لا ظاهري، فهو يكشف عن حقيقة الممدوح، ومما جاء في مدح النبي -صلى الله عليه واله- لبعض الأشخاص نادر، وحتى بعض الشخصيات البارزة وضعوا لها بعض الأحاديث على النبي -صلى الله عليه وآله- لتبييض صفحتهم، ولكن سرعان ما ينكشف كذبهم؛ لأن ما ذكروه من مدح على لسان النبي-صلى الله عليه وآله- خلاف حقيقتهم؛ لأن من المتسالم هو أن النبي مدحه واقعي فإما أن يكون النبي غير صادق أو مشتبه والعياذ بالله، أو يكون الحديث موضوعاً وهو كذلك، ومن ذلك ما ورد في مجمع الزوائد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه [وآله] وسلم- : "إن الله جعل الحق على لسان ... [فلان] وقلبه" (2). وموقف هذا الشخص -المدعى مدحه- مع النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله- يُكذب هذا القول، وهو الموقف الذي نقله العامة والخاصة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله- قال في مرض موته : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتاباً لا تضلون به من بعدي، فقال ...[فلان] : إن الرجل ليهجر ، حسبنا كتاب الله...". فهل نسبة الهجر الى النبي تَخْرج من لسان وقلب حق. فتأمل
ومن الأشخاص النوادر الذين صدر مدح من النبي -صلى الله عليه وآله- بحقهم هو زيد بن صوحان فجاء في شرح الأخبار : زيد بن صوحان وهو يدعى زيد الخير ، وهو الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وآله- : (إن من بعدي رجل يسبقه عضو منه إلى الجنة ثم يتبعه سائر جسده...)(3) وأيضاً جاء في الخرائج والجرائح للراوندي : أنه -صلى الله عليه وآله- ذكر زيد بن صوحان فقال : (زيد ، وما زيد ؟ ! يسبق منه عضو إلى الجنة) (4) فإذا أردنا أن نتحقق من صحة هذا المدح -بغض النظر عن السند- نتتبع سيرة الممدوح وهل ما ورد من مدح موافق لها.
فجاء في كتاب وقعة الجمل نقلاً عن العقد الفريد : " كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي، إذ قدمت البصرة ...(سلام عليك ، أما بعد : فإن أباك كان رأساً في الجاهلية ، وسيداً في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلي من السابق، يقال : كاد أو لحق ، وقد بلغك الذي كان في الإسلام من مصاب عثمان بن عفان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإن لم تفعل فثبط الناس عن علي بن أبي طالب ، وكن مكانك حتى يأتيك أمري ، والسلام ).
رد زيد بن صوحان على عائشة فكتب إليها زيد : ...(سلام عليك ، إما بعد : فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر : أمرك أن تقري في بيتك ، وأمرنا أن نقاتل الناس حتى لا تكون فتنة، فتركتِ ما أمرتِ به، وكتبتِ تنهينا عما أمرنا به ، فأمرك عندنا غير مطاع ، وكتابك غير مجاب، والسلام)"(5).
هذا الرد يدل على ثبات زيد، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مهما كان ذلك الشخص، وأياً كان، وأن زيد مطلع على كتاب الله وعالم في دلائل أياته فكان عدم إتباعه لعائشة بدليل كتاب الله عز وجل فقال عز وجل مخاطباً نساء النبي -صلى الله عليه وآله- : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)(6) وفي آية أخرى يأمر المؤمنين بقتال الفئة الباغية (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)(7) ومن يتأمل في الرد يرى وضوح الحق.
وأيضا مما جاء في شرح الأخبار: "...فقطعت يده يوم جلولاء، وخرج مع علي -عليه السلام- يوم الجمل، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أرى يداً تشير إلي من السماء أن تعال ولا أراها إلا يدي ولا أراني إلا لاحقاً بها، فإذا قتلت يا أمير المؤمنين فادفني في ثيابي ودمي ، فانى مخاصم القوم ..." (8) فما ورد يثبت صحة ما جاء في مدح النبي -صلى الله عليه وآله- لزيد في أن يده ستسبقه إلى الجنة ثم يتبعها جسده، ويثبت صدق إخبار النبي بالمغيبات.
وأصرح من ذلك هو شهادة أمير المؤمنين -عليه السلام- له، فروي عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال : (لما صرع زيد بن صوحان يوم الجمل جاء أمير المؤمنين -عليه السلام- حتى جلس عند رأسه فقال: رحمك الله يا زيد قد كنت خفيف المؤونة عظيم المعونة ، فرفع زيد رأسه إليه فقال : وأنت جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين فوالله ما علمتك إلا بالله عليما وفي أم الكتاب عليا حكيما والله في صدرك عظيما) (9) شهادة ومعرفة ندر نظيرها في ذلك الزمان فأمير المؤمنين -عليه السلام- يترحم ويثني عليه ويرد زيد بكلمات لا يقولها ولا يعتقد بها في زمنه إلا من محض الأيمان محضاً.
وفي رواية أخرى يكمل زيد -رضوان الله عليه- مخاطباً أمير المؤمنين -عليه السلام- : "...والله ما قاتلت معك على جهالة ولكني سمعت أم سلمة زوجة رسول الله -صلى الله عليه وآله- تقول : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله- يقول : " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله " . وكرهت والله أن أخذلك فيخذلني الله"(10) حتما إنها نهاية تكشف عن سيرة صاحبها ورفعة إيمانه، وأن اتباعه للإمام علي -عليه السلام- كان بدليل قول رسول الله -صلى الله عليه وآله-.
ومما ورد في علو شأنه بعد شهادته في كتاب المزار الكبير للمشهدي في حديث طويل نذكر محل الشاهد منه : " مسنداً عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : حججت إلى بيت الله الحرام فوردنا عند نزولنا الكوفة ، فدخلنا إلى مسجد السهلة ، فإذا نحن بشخص راكع وساجد ، فلما فرغ دعا بهذا ... قال : فاتبعناه وإذا به قد دخل إلى مسجد صغير بين يدي السهلة فصلى فيه ركعتين بسكينة ووقار ، كما صلى أول مرة ، ثم بسط كفيه وقال : الهي قد مد إليك الخاطئ المذنب يديه لحسن ظنه بك... فخرج فاتبعته وقلت له : يا سيدي بم يعرف هذا المسجد ، فقال : انه مسجد زيد بن صوحان صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا دعاؤه وتهجده ، ثم غاب عنا فلم نره ، فقال لي صاحبي : انه الخضر عليه السلام". (11) فأي منزلة وأي رفعة حصل عليها زيد حتى تكون هذه عاقبته.
فثبت مما تقدم أن زيد بن صوحان من الشخصيات التي ثبتت -رغم موجة الباطل واهله الذين انقلبوا على عقبهم- فهو عالم جليل فقيه وإن هذا الانموذج وان لم تذكر له مواقف في حياة النبي الاعظم -صلى الله عليه واله- إلا أن مواقفه بعد رحيل النبي تكشف عن عظمة مقامه ورفعته وما جاء في حقه في العشرات من المصادر المعتبرة يكشف لنا تلك العظمة رغم تكتيم بني أمية وبني العباس على تاريخ الشخصيات التي تمثل الاسلام الواقعي، فهناك الكثير من الشخصيات التي برزت في التاريخ الاسلامي، ولكن المتتبع لسيرة الكثير منهم في حياة النبي-صلى الله عليه وآله- وبعد رحيله يرى التناقضات في افعالهم واقوالهم، وندر من بقي ثابتاً في موقفه واتبع طريق الحق ونصرته ولم يتبع الهوى.
فسلام على زيد بن صوحان يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
الكاتب : إبراهيم السنجري
_____________________
1- النجم 3-4
2- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ح14421
3- شرح الاخبار ج 2 ص 34
4- الخرائج والجرائح ج 1 ص 66
5- وقعة الجمل ص 31
6- الاحزاب 33
7- الحجرات 9
8- شرح الاخبار ج 2 ص 34
9- الغارات ج 2 ص 894
10- الاختصاص ص 79
11- المزار الكبير ص 143
اترك تعليق