مصادر وسند الوصية :
إنّ وصيّته (عليه السلام) لإبنه الأكبر الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، والتي أوصى بها بعد أن غدر به أشقى الأشقياء " ابن ملجم المرادي " من خلال ضربته له بالسيف ، وهو يهمُّ بالقيام من سجوده في مسجد الكوفة ، قد وردت في جملة من كُتب الشيعة ومصنّفاتهم ، منها كتاب الكافي للشيخ الكليني ( فروع الكافي ج 7 ص52-53) وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4 ص 140-142 ) وغيرها من المصنّفات .
وكذلك أخرج جملة من أعلام أهل السنّة والجماعة ، هذه الوصية في كتبهم ومصنّفاتهم ، نذكر منها كتاب " مقاتل الطالبيين " لأبي فرج الأصفهاني ( ص 52 ) ، وكتاب " تاريخ الرسل والأمم " ( ج 5 ص 148 ) لابن جرير الطبري ، وكتاب " المناقب " لموفق بن أحمد الخوارزمي ( ص 385-386 ) ، ورواية " الخوارزمي "هي أقرب روايات العامة لما ورد عن طريق أهل البيت (عليه السلام) .
إلاّ أنّه يمكن ملاحظة بعض الإختلافات في نص هذه الوصية من مصدر إلى آخر ، تِبعًا لاختلاف نقل الرواة لها ، ويشتدّ ظهور هذا الإختلاف بين النص الذي نقله بعض أعلام أهل السنّة والجماعة ، وبين النّص الذي ورد من طُرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أو عن أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كسُلَيم بن قيس الهلالي العامري الكوفي .
ومن الفوارق الظاهرة بين النصيّن المنقولين عند الشيعة والسنّة ، والتي يظهر منها التحريف في ما نُقِلَ من طُرق أهل السنّة ، هي عبارة « الله الله في ذُرِّيّة نبيّكم » والتي بُدِّلَت في رواية أهل السنّة بــــ « الله الله في أمّة نبيّكم » ( حسب رواية أبي الفرج الأصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين ص 52 ) أو « الله الله في ذِمَّة نبيّكم » ( حسب رواية ابن جرير الطبري في تاريخه ج 5 ص148 ) ، وكذلك عبارة « الله الله فی أصحاب نبیّکم الذین لم یُحْدِثُوا حَدَثاً ولم یُؤْوُوا مُحْدِثًا ، فإنّ رسول الله صلّى الله علیه وآله أوصى بهم ، ولعن المُحْدِثَ منهم ومن غیرهم والمُؤْوِي للمُحْدِثَ » فحذفوا أكثر العبارة ليستقيم معنى الوصية ، بما يتناسب مع مذهب الراوي أو المصنّف المُخرج لها ، وأبقوا على عبارة « الله الله في أصحاب نبيّكم ، فإنّ رسول الله صلّى الله علیه وآله أوصى بهم » ( مقاتل الطالبيين ص 52 ، وتاريخ الطبري ج 5 ص 148 ) .
يبقى سند الرواية التي ذكرت فيها الوصية ، فقد أخرجها الشيخ الكليني من طريقين ، قال عنهما العلامة المجلسي: أنّهما صحيحان ( مرآة العقول : ج 9 ص 163 حديث رقم 7 ) .
متن الوصية :
قبل ذكر نص الوصية ، نود التأكيد على أربعة نقاط مهمة ، ستكون بمثابة اربعة أُسُسٍ ومنطلقات ، لما سنورده من بيان توضيحي لمفردات الوصية ، وهي كالآتي :
النقطة الأولى : لابد أن ندرك بأنّ صاحب هذه الوصية هو من أكمل خلق الله على الأرض، والذي بلغ من القرب والعرفة الإلهية مبلغًا عظيما ، حتى قال مقولته المعروفة « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا » .
النقطة الثانية : هي من الواضح ، أنّ قائل هذه الكلمات هو ذاك العَبدُ الذي بلغ أيضا من العلم ما شهد به العدو قبل الصديق ، حتى خطب في النّاس وقال مقولته التي لم يذكر لنا التاريخ أحد تجرّأ على قولها « سلوني قبل أن تفقدوني » .
النقطة الثالثة : يجب علينا أن نفهم أنّ هذه الكلمات جاءت في مقام الوصاية ، ممّا يعني - وكما هو شأن كل وصية - أنّها خلاصة ما توصلّ له الإمام (عليه السلام) بعد عمرٍ من الزمن في هذه الحياة الدنيا القائمة على المجاهدة والصبر على المصاعب الكثيرة .
النقطة الرابعة : وهي الأخيرة ، أنّ هذه الوصية أيضا في مقام تعليم المخاطبين ، بل وإنّها متوجّهة بدايةً لمن هو في درجة العصمة والكمال البشري ، وهو الإمام الحسن (عليه السلام) ، ومن بعده الأئمة المعصومين الذين سيرثون وصايا أبائهم وأجدادهم (عليه السلام) .
ومن هنا نعود لنقلِ والكَلامِ في مضامين الوصية التي لأجلها جرت أقلامنا في هذا المقام ، فنقول :
نقل الشيخ الكليني في كتابه " الكافي " ( جزء 7 ، كتاب الوصايا ، باب صَدَقَات النبي (صلى الله عليه واله) ، حديث رقم 7 ، ص 50-53 ) ، نصّ وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) مجموعة مع بعض الوصايا الأخرى في رواية واحدة ، ونحن في المقام سنذكر منها مقدار الحاجة فقط :
عن أبو عليّ الأشعريّ عن محمّد بن عبد الجبّار ، و عن محمّد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمان بن الحجّاج قال : بعث إليَّ أبو الحسن موسى (عليه السلام) بوصيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام) :............. وكانت الوصية الأخرى مع الأولى [ وهي ] :
بسم الله الرحمن الرحیم
« هذا ما أوصى به علی بن أبی طالب ، أوصى أنّه یشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شریك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودین الحق لیظهره على الدین کلّه ولو کره المشرکون ، صلّى الله علیه وآله، ثمّ إنّ صلاتی ونسکی ومحیای ومماتی لله ربّ العالمین لا شریك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمین »
فبعد أن نفهم النقاط الأربعة السالفة الذكر نقول : أنّ الإمام وفي هذا المقطع يحاول أن يؤكد ويكشف عن حاله وما عليه حقيقته (عليه السلام) كما يراها هو ، و دأب على تهذيبها ، ليعلّمنا بعد ذلك ، ما يجب أن تكون عليه سريرة الإنسان الذي يسعى لنيل الكمال البشري والقرب الإلهي .
وكذلك يمكننا أن نفهم أيضًا ، أنّ قوام إنسانية الإمام (عليه السلام) التي عرف بها وكشفتها سيرته ، تَتَقَوَّمُ بتقبّلها لحقيقة التوحيد التي تدلّل عليها عبارة « لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له »
وبالتبع لذلك يشير إلى عنصر ثانٍ أيضا ، من خلال قوله « وأنّ محمّداً عبده ورسوله » وهو الإقرار بعبودية ثم نبوّة صاحب الرسالة نبيّ الله محمد (صلى الله عليه واله).
وتقديمه (عليه السلام) للفظة " العَبد " على " الرسالة " حين نسبهما للنبي الأكرم (صلى الله عليه واله) ، تُظهر لنا أنّ مقام العبودية أعلى مرتبة من أي مقام آخر ، بل يترقى الإمام (عليه السلام) في كشف ما عليه من الإقرار بعبودية ونبوة النبي محمد (صلى الله عليه واله) ، إلى الإقرار بأنّ ما أرسل به الرسول (صلى الله عليه واله) هو الهدى و دين الحق الذي سيظهره على باق الأديان ، مهما كانت الظروف التي سيوجدها المشركون لطمس هذا الدين الحق .
ثمّ نفهم من قوله « إنّ صلاتی ونسکی ومحیای ومماتی لله ربّ العالمین لا شریك له » أنّ كل عبادات الإمام (عليه السلام) ، بل وكل حركة من حركاته في حياته الدنيوية ، وسواء كانت هذه الحركة الصادر منه بإرادة وقصد أو من غير أرادةٍ وقصدٍ ، كانت خالصة لوجهه تعالى ، وليس دافعه في عباداته وحركاته الدخول للجنّة مثلا ، أو الخلاص من النّار ، بل لأن المولى تعالى بعظمته يستحق العبادة والطاعة وأن تكون مقاصد الحركة له فقط .
فذكره (عليه السلام) للفظة « الصلاة » فقط دون باقي العبادات ، فيها إشارة إلى كونه استعملها كعنوان عام للتدليل على كل الأعمال العبادية ، وكذلك جعله الصلاة دون غيرها من العبادة عنوانًا عامًا ، فيه اشارة إلى أهمية الصلاة على غيرها من العبادات المعروفة في الإسلام .
أمّا لفظة « النسك » فهي تُدلِّلُ بما تفيد من معنٍى عام يساوق معنى الفعل و الحركة، على الفعل أو الحركة الإرادية والمقصودة من فاعلها .
أمّا لفظتي « محياي ومماتي » فهما ظاهرتان في الحركة التي تقع للإنسان، دون إرادةٍ وقصدٍ منه ، فالإحياء والإماتة من جهة كونهما فعل، من الأمور الخارجة عن دائرة الإرادة والقصد البشري .
يبقى قوله (عليه السلام) « لله ربّ العالمين لا شريك له » والذي يكشف لنا عن عظمة ومدى إخلاصه للمولى تعالى في النيّة والقصد، فقد أشار (عليه السلام) من خلال العبارة الآنفة الذكر ، إلى الجهة التي قصد ونوى لها ما تعلّق به من فعل وحركة .
بل يؤكد (عليه السلام) على عدم مخالطة وشَرَاكة شيء آخر للمولى تعالى في نيّته وقصده ، من خلال عبارة « لا شريك له »، فنفي الشركة في العبارة غير متعلّقٍ بلفظة الجلالة كما قد يتصور البعض ، بل هو متعلّق بنيّة وقصد الإمام (عليه السلام) ، المقدرة في المعنى العام للعبارة .
بمعنى أنّه (عليه السلام) يريد القول أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، كلها خالصة لوجهه تعالى، ولا يخالطه أو يشاركه أمر من الأمور من الأمور الأخرى ، من قبيل الطمع في الجنّة والخوف من النّار ، فكم هي الخلائق التي تجدها تعبد الله خوفًا ونجاةً من النّار ،أو طمعًا ورجاءً في الجنّة .
« ثمّ إنّي أوصیك یا حسن وجمیع أهل بیتي وولدي ومن بلغه کتابي : بتقوى الله ربّکم ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرّقوا { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم} (رواية الطوسي) ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله علیه وآله یقول : صلاح ذات البین أفضل من عامّة الصلاة والصیام ، و { إنّ البِغضَةَ حالقة الدين } أنّ المبیرة الحالقة للدّین {و} فساد ذات البین ، ولا قوة إلّا بالله العلی العظیم ، انظروا ذوي أرحامکم فصلوهم یهوّن الله علیکم الحساب »
بعد أن حدّد الإمام (عليه السلام) دائرة المخاطبين بهذه الوصية ، بحيث شملت الإنسانية جمعاء ، ولم يستثني منها أحدًا ، مهما كان مذهبه أو دينه أو عرقه أو لونه ، وهذا فيه دلالة على عُمق تَرسخ البُعد الإنساني في داخله (عليه السلام).
بعد ذلك ، قدّم التوصية بتقوى الله للإشارة إلى أهمّيتها ، فكيف لا تكون مهمة والعمل أو العبادة بدون التَحَلِّي والتَلَبُّس بتقوى الله لا يحصّل منه العبد إلى التعب والإرهاق، وأيضا يكفي في ظهور أهمّيتها ، أنّها في حقيقتها تستوعب كلُ فعلٍ يصدر من الإنسان سواء كان هذا الفعل نفسي داخلي أو خارجي ، فالعبد المُتَّقي هو ذلك العبد الذي تجده يُوَازِنُ كل حركة من حركاته حتى النفسية منها ، بميزان أوامر المولى تعالى ونواهيه ، وتجده لا يحاول حتى الإقتراب من حدود الله ، لا فقط يعمل على عدم تجاوز حدود الله .
ثمّ بعد ذلك أشار من خلال قوله « ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون » إلى أنّه على العبد المؤمن العمل ومجاهدة النّفس من خلال اتخاذ التقوى سبيلاً، حتى يبلغ لدرجة التسليم للمولى تعالى في كل أموره كبيرها وصغيرها قبل موته ، فالإمام نهى على أن يصل العبد لمرحلة الموت وهو مازال لم يبلغ بعدُ إلى تلك الدرجة العظمى والتي يتصف الواصل إليها بكونه من المسلمين .
فالواو من عبارة " وأنتم مسلمون " واو حالية ، بمعنى لا تَمُوتنّ إلاّ وأنتم في حال التسليم ، للمولى تعالى من حولكم وقوتكم لحوله وقوته هو تعالى .
ثم قال(عليه السلام) « واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرّقوا { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم} (رواية الطوسي)، فإنّی سمعت رسول الله صلّى الله علیه وآله یقول : صلاح ذات البین أفضل من عامّة الصلاة والصیام ، و { إنّ البِغضَةَ حالقة الدين } أنّ المبیرة الحالقة للدّین {و} فساد ذات البین » .
وهنا يُجيب (عليه السلام) السائل الذي يسأل عن الطريق للتَّحلِّي بالتقوى وبلوغ درجة التسليم ، و كذلك الأمان من شِراك الدنيا وما يجري فيها .
فيقول الإمام (عليه السلام) ، عليكم بالتمسك بحبل الله عزّ وجل في كل ما تختلفون أو تتحيّرون فيه ،
وحبل الله الذي طرفه الأول في الأرض أي عالم الدنيا، والطرف الثاني في السماء أي عالم الغيب، هو كتاب الله عزّ وجل ، كما نصت الكثير من الروايات على ذلك .
وكذلك احذروا وتجنّبوا الفرقة من خلال التمسك بحبل الله عز ّ وجل ، فالرسول (صلى الله عليه واله) قال : العمل على إصلاح الروابط التي تربط بين العباد ، حين يقع ما يفسدها ويقطعها أفضل في الحقيقة وبالتالي عند الشارع من كل الصلوات والصيام سواء كانا ندب أو فرض .
وهنا يُأَسّس لنا الإمام في هذه الوصية ، أصلاً مهمًا مرتبطًا بعلاقة الفرد بمن حوله من بني الإنسان ، وهو أنّ التكليف الأوّلي الذي تقتضيه القيّم الإيمانية للعبد حين وقوع خلاف بين طرفين ، هو العمل على الإصلاح بين المختلفين لا التحزب لطرفٍ دون الآخر واتباع العصبية القبلية أو المذهبية ، والحمية الجاهلية ، كما نشهده في عصرنا الحاضر الذي تراكمت فيه الفتن والمظالم ، حتى أُنْهِكَتْ القلوب المؤمنة .
ثمّ يختم في آخر الفقرة بالإشارة إلى السبب الأساس في تحقّق فساد ذات البَين ، بل والسبب المُهلك لدين العبد ، وهو التباغض والبغضاء ، فكيف لا والبغضاء مميتة لقلب الإنسان وبالتبع لذلك قاتلة لإنسانيته أيضا ، فيصبح صاحبها أقسى من حجر الصوان ، كما نشهده اليوم عند الكثير ممن يتلبسون بدين الله كذبا وزورا ، وسموم بغضائهم تتناثر مع كلماتهم وأفعالهم ، ضد المؤمنين والمسلمين .
« الله الله فی الأیتام، فلا تغبّوا { تَعِرَّ } أفواههم، ولا یضیعوا بحضرتکم ، فقد سمعت رسول الله صلّى الله علیه وآله یقول : من عال یتیماً حتى یستغنی أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنّة کما أوجب لآکل مال الیتیم النار »
إنّ معايشة اليُتم من أكثر العناصر المسبّبة لضعف وانكسار الفرد البشري ، وخاصة على مستوى محتواه الداخلي ، فكيف لا واليَتِيم ومنذ نشأته التي تَتَكَوَّن فيها شخصيته نجده يفتقد لذاك الإنسان الذي يصلح ليكون له سَندًا وحاميًا ووليًا ، بحيث يجبر كسره إن وقع ، ويؤمّن روعته إن خاف ، ويقضي حوائجه إن اعتاز ، بل ويمدّه بعنصر الشعور بأهميّة وجوده في الحياة .
ولأجل أنّ اليتيم هو أكثر النّاس حاجة لأخيه الإنسان ، وأنّه اكثر النّاس انكسارا ، نرى الإمام قد بدأ وصيّته به قبل غيره ، وهذا يكشف لنا بوضوح عن معايشة الإمام لما يقوله وينطق به ، بل إنّه (عليه السلام) لم يكتفي بالوصاية باليتيم ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير ، فوصّى بعدم ترك الأيتام حتى يبلغوا درجة الإحساس بالجوع ، ولم يكتفي بالتوصية على سَدِّ جوعتهم ، بل يوصي أيضًا بمتابعتهم والإهتمام بهم ، حتى لا يضيعوا والمؤمنون حاضرين موجودين .
وفي الأخير ، يعلّمنا (عليه السلام) ما سمعه وتعلّمه من رسول الله محمد (صلى الله عليه واله) ، حيث أشار إلى أنّ المولى تعالى جعل إعالة اليتيم حتى الغِنَى من القوانين والسّنن الإلهية الثابتة و المُوجِبَة لصاحبها دخول الجنّة ، وبمعنى آخر أنّ من الأمور التي تَضمن للمَرء دخول الجنّة ، أو قل من الأمور التي هي مُوجِبَةٌ لدخول الجنّة ، هي إعالة اليتيم حتى يصل لدرجة الإستغناء عن مُعِيلِه .
وكذلك أكل مال اليتيم بغير وجه حق ، هو قانون وسُنّة توجب لصاحبها دخول نار جهنّم ، وهذه يستلزم عدم نَفعِ باقي الأعمال الحسنة حين تحقّق أكل مال اليتيم .
« الله الله فی القرآن ، فلا یسبقکم إلى العمل به أحدٌ غیرکم.
الله الله فی جیرانکم فإنّ النبي صلّى الله علیه وآله أوصى بهم ، وما زال رسول الله صلّى الله علیه وآله یوصي بهم حتى ظننّا أنّه سیورّثهم »
أكّد (عليه السلام) على القرآن الكريم ، لأنّه هو المصدر والمرجع الأساس للمعارف الربانية التي تساعد على تنظيم البُعد الإنساني الفردي ، وكذلك تنظيم الوعي الجماعي لبني الإنسان ، ثم نبّه وأكّد أيضا على التسابق في العمل به قبل الغير ، وهذا كناية على عدم التباطئ والتأخير في العمل به .
وبعد ذلك رجع للعلاقات البشرية في ما بينهم ، فبدأ يوصي ويؤكد (عليه السلام) على الجار ، تبعا لوصية رسول الله (عليه السلام) على ذلك ،وهذا ثالث حلقة منظمة لحركة المؤمن يحدّدها الإمام (عليه السلام) ، فبعد ذات البين أي الأمّة أو الإنسانية جمعاء ، أكّد على الأيتام ، والآن يوصي بالجار ، بل ينقل لنا لتّدليل على أهية علاقة الجيرة ، أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) كان يكرّر التوصية بالجار ، حتى ظننّا أنه (صلى الله عليه واله) سوف يجعل للجار حق في الميراث .
ولعلّ التأكيد الشديد للرسول (صلى الله عليه واله) وكذلك للإمام علي (عليه السلام) على علاقة الجيرة ، يفهم بوضوح أكثر ، عندما ندرك حقيقة أنّ انهيار البُنَى الفوقية للمجتمع تبدأ أولا : بانهيار العلاقات الأسرية التي هي اللَّبَنَة و الدائرة الأولى في بنية المجتمع ، ثمّ يكتمل الإنهيار التّام بانهيار علاقات .
الجيران ، الذين هم الدائرة الثانية بعد الأسرة في تشكيل البنية الإجتماعية لكل قوم وأمّة ، وبناء الهياكل الإجتماعية أيضا ، يبدأ ببناء الأسرة ، ثم المحيط الأوسع منه وهو الجِيرَة
« الله الله فی بیت ربّکم، فلا یخلو منکم ما بقیتم ، فإنّه إن تُرِك لم تناظروا ، وأدنى ما یرجع به من أَمَّهُ أن یغفر له ما سلف »
بغض النظر عن المنافع الآخروية لزيارة وإلتِفَاف الأمّة حول بيت الله عزّ وجل ، والتي أوضح الإمام (عليه السلام) أقل ما يصيب العبد إذا أَمَّهَا وحط الرحال عندها، وهو أن يغفر الله له ما سبق من ذنوبه .
يمكن أيضا أن ندرك المغزى مِنْ حِرْص الإمام (عليه السلام) على شدّ الرحال إلى بيت الله عزّ وجل سواء في موسم الحج أو غيره ، وهذا المغزى نفهمه عندما نعلم أهمّية بيت الله وما تقدّمه من فوائد للأمّة ،
فبيت الله هو العنصر الوحيد الذي تجتمع عليه وفيه الأمة المسلمة بمختلف أقوامها ومجتمعاتها ، معنويًا وماديًا ، أمّا معنويا فبما تمثّله من قداسة في نفوس أبناء الأمّة الإسلامية ، وبما تحويه كذلك من شعائر إلهية ،تكون هي عنصر التقاء لأفئدة وقلوب المسلمين جميعا ، أمّا ماديّا فهي النقطة الجغرافية الوحيدة التي لها القدرة على جمع أكثر عدد ممكن من شعوب وأقوام الأمّة الإسلامية الواحدة .
وعليه فأهميّة الدور الذي يلعبه بيت الله عزّ وجل ، وخاصة على مستوى بُنْية الأمّة الواحدة ، يكمن في قدرتها على جمع اكثر عدد ممكن من ابناء الأمّة الإسلامية ، وبالتالي فهي تشكل الفضاء الأكبر الذي يتحقق فيه التواصل بين أفراد الأمّة الإسلامية ، وهذا التواصل هو العُنصر الذي يحافظ على بقاء وديمومة بُنَى أي أمّة كانت .
« الله الله فی الصلاة ، فإنّها خیر العمل ، { و } إنّها عمود دینکم »
نلحظ هنا أن الإمام (عليه السلام) في توصيفه للصلاة عبّر بلفظة " خير " ولم يعبّر بلفظة " أفضل " ، لأنّ لفظة " أفضل " تفيد معنى التراتبية وبالتالي التقدم والـتأخر ، بينما لفظة " خير " لا تفيد هذا المعنى .
وعليه فما يمكن أنّ نفهمه في المقام ، هو أنّ الصلاة هي أكثر الأعمال التي فيها الخير لبني الإنسان ، لا هي أفضل الأعمال وأَوْلاَهَا .
أمّا التعبير بكون الصلاة عمود الدين ، فلأنّ الصلاة هي أكثر العبادات التي تربط بين العبد وخالقه وهي أكبر قنوات التواصل بين العبد وبارِئِه ـ وبما أنّ الدين بكلّ مسائلة جاء ليربط
العَبد بربّه - لما في ذلك من خير للإنسان - من خلال ما يتضمنه من عبادات وأعمال ، كانت الصلاة وبلحاظ ما تمثله من أداة تواصل بين العبد وربّه ، عمودا تستند عليه باقي مسائل الدين الإسلامي ، كما تستند الخيمة على عمودها الواقع في وسطها .
« الله الله فی الزکاة ، فإنّها تطفئ غضب ربّکم .
الله الله فی شهر رمضان ، فإنّ صیامه جُنَّةٌ من النّار .
الله الله فی الفقراء والمساکین ، فشارکوهم فی معایشکم »
ذكر الإمام (عليه السلام) وأكّد على الزكاة لما تمثّله من دور في حل مشاكل الدولة ، وخاصة المتعلّقة بالطبقات التي تشكو العَوز والحاجة ، وأشار إلى منفعة واحدة من منافعها ، وهي إطفاء غضب المولى تعالى على العبد ، بعد أن يقوم هذا العبد بما يستوجب غضب الله عزّ وجل عليه .
ثم وصى بل أكّد على خصوص شهر رمضان ، لا فقط صيام شهر رمضان ، فاستعماله لعبارة " شهر رمضان" بدل " الصيام " الذي هو أبرز مميّزات هذا الشهر الفضيل ، لتدليل على أهميّة شهر رمضان كشهر ، بغض النظر عن لُزُوم صومه .
فالراجح هو كونَ شهر رمضان يكتسب أهميته من ليلة القدر وما يحصل فيها من فتح بين عالم الغيب وعالم الدنيا ، ولعلّ المولى أوجب علينا الصيام في شهر رمضان بالخصوص لما في الصيام من تطهير للقلب ، وبالتالي يكون الصيام من العناصر المساعدة على تطهير قلب المؤمن تحضيرا له لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وقد يكون من بينهم شهر رمضان .
وبما أنّ الصيام يُطَهِّر القلب ويُهَذِّب النَّفس ، فهو الواقي والساتر الذي يحول بين العبد ونار جهنَّم ، كما أشار لذلك الإمام (عليه السلام) حينما قال : فإنّ صيامه جُنّةٌ من النّار .
وفي الأخير وبعد أن أوصانا بالزكاة التي هي من حقّ الفقراء والمساكين ، وبعد أن أوصانا بالصيام ، الذي من أهم أبعاده معايشة معاناة وجوع وعطش الفقراء والمساكين .
توجّه (عليه السلام) إلى التوصية بالفقراء والمساكين نفسهم ، ولعلّ تقديمه للزكاة والصوم عن الفقراء والمساكين فيه تمهيد للتوصية بالفقراء والمساكين ، وهذا فيه إشارة إلى أهمية التوصية بالفقراء والمساكين على التوصية بالزكاة والصوم ، وخاصة عندما نعلم أنّه (عليه السلام) كان رؤوفًا وحنونًا ومتواضعًا مع الأيتام والفقراء والمساكين وأصحاب الحاجة من المستضعفين .
فقال (عليه السلام) في حقّ الفقراء والمساكين على العباد، أن يتشارك النّاسُ مع الفقراء والمساكين في ما تتقوم به معيشتهم ، ومع التدقيق يظهر لنا أنّه (عليه السلام) استعمل لفظة " المشاركة " التي تفيد معانٍ كثيرة :
منها : أن الشريك هو الذي له ملكية في جزء من الشيء المتشارك فيه .
ومنها : أنّ المال الذي يعطى للفقراء والمساكين ليس تفضلا من صاحبه ولا هو مِنَّةٌ منه ، بل هو حق لهؤلاء الفقراء والمساكين .
ومنها : أنّه على العبد المؤمن ، أنّ يجعل سهمًا من معيشته للفقراء والمساكين ، وأن لا يتهاون في تقديمه لهم ، فهو حق لهم كحق الشريك على الشريك .
« الله الله فی الجهاد { في سبيل الله } بأموالکم وأنفسکم وألسنتکم ، فإنّما یجاهد { في سبيل الله } رجلان : إمَامُ هُدَى ، أو مُطیعٌ له مُقتَدٍ بهُدَاهُ »
هنا نجد أنّه (عليه السلام) حثّ ووصّى بالجهاد في سبيل المولى تعالى ، وكذلك بيّن المراتب الثلاثة العامة للجهاد ، وهي الجهاد من خلال تقديم المال وكل ما يدخل تحت ملك الفرد ، والجهاد بالنفس وهو أفضل المراتب وأَوْلاَهَا ، والجهاد باللسان وكلمة الحق في وجوه الظالمين والمستكبرين والمفسدين في الأرض .
ثمّ بعد ذلك يبيّن لنا مصاديق المجاهدين ، والذين إذا ماقتلوا اعتبروا عند المولى تعالى من الشهداء ، فيحصر المجاهدين في سبيل الله في قسمين ، إمّا أن يكون هذا المجاهد إمام هدى يُقْتَدَى به ، وإمّا أن يكون فردًا مطيعًا ومقتد بإمام هُدى . وغير هذين الصنفين هم مجاهدون في سبيل آخر غير سبيل المولى تعالى .
« الله الله فی ذریة نبیّکم ، فلا یُظلمنّ بحضرتکم وبین ظهرانیکم ، وأنتم تقدرون
على الدفع عنهم »
وكم هي الوصايا التي وردت من الرسول (صلى الله عليه واله) حول شأن أهل البيت (عليه السلام) ولزوم نصرتهم ودفع المظالم عنهم ، ولكن أين الأمّة من ذلك ، ولعلّ من أسباب الذلّة والهوان الذي تعيشه الأمّة اليوم ، هو تخليّها عن أبرز تكاليفها التي أوصى بها النبي محمد (صلى الله عليه واله) ، ومنها التمسك والدفاع عن أهل البيت (عليه السلام) .
فالإمام (عليه السلام) وفي وصيّته حول ذرّية النبي (صلى الله عليه واله) ، ينهى عن السكوت عن تحقق المظلمة لأهل البيت (عليه السلام) بدون الدفاع عنهم ، ويُقَيّد الدفاع وعدم السكوت بالقدرة على ذلك .
« الله الله فی أصحاب نبیّکم الذین لم یُحْدِثُوا حَدَثاً ولم یُؤْوُوا مُحدِثًا، فإنّ رسول الله صلّى الله علیه وآله أوصى بهم ، ولعن المُحدِثَ منهم ومن غیرهم و المُؤْوِي للمُحْدِث »
لقد أوصى أيضا الإمام بأصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله) الذين لم يحدثوا بعد رسول الله ما يلزم منه غضب المولى تعالى أو لعنته ، وأيضا أوصى بالأصحاب الذين لم يُؤوُوا الذين انقلبوا على أعقابهم بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) .
وأوضح أنّ الذين أحدثوا وانقلبوا من الأصحاب بعد أن انتقل الرسول (صلى الله عليه واله) إلى الرفيق الأعلى ، وكذلك الذين آوَوْ المحدثين قد جاؤوا بأمر عظيم و لعنهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الله الله فی النساء وفیما ملكت أیمانکم ، فإنّ آخر ما تکلّم به نبیکم علیه السلام أن قال : أوصیکم بالضعیفین ، النساء وما ملکت أیمانکم .
وأخيرا يلتفت (عليه السلام) إلى الجهة الأضعف في البنية الإجتماعية للإنسان ، ويوصي بها خيرَا ، لما لها من أهميّة ودور حسّاس ، وخاصة في ما يتعلّق ببناء الأجيال التي سيتشكل منها في المستقبل المُجتمع .
ففساد اللُّحْمة الأُسَرية ، وبالتالي تدهور العلاقات بين أفراد الأُسرة ، يعود بالأساس إلى المرأة الأم ، التي هي في واقع الأمر عبارة عن العُنصر الذي يجمع ويربط كل أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض ، ومتى ما تعرّض هذا العنصر لما هو سلبي، يبدأ العد العكسي لذهاب اللّحمة الأسرية وبالتبع تدهور في العلاقات الأسرية ، التي قد تصل في الأخير إلى درجة الانهيار والتفكك الأسري .
ولأجل ما تتصف به المرأة من ضعف إذا ما قرنت بالرجل ، وما تمثّله من أهمية للأسرة والمجتمع ، أوصى بها الإمام(عليه السلام) وقبله الرسول (صلى الله عليه واله)
فالمرأة عموما، وبسبب اتصافها بالضعف ، والزوجة خصوصا لها أهمية بالغة في واقع المجتمع ، بل هي ركن أساسي فيه .
« الصلاة الصلاة الصلاة ، لا تخافوا فی الله لومة لائم ، یکفکم الله مَن آذاکم وبغى علیکم ، قولوا للناس حُسناً کما أمرکم الله عزّ وجل ، ولا تترکوا الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، فَیُوَلّي الله أَمْرَکُم شِرَارَکُم ، ثمّ تدعون فلا یستجاب لکم علیهم ، وعلیکم یا بنيّ بالتواصل والتباذل والتَبَار ، وإیّاکم والتقاطع و التدابر و التفرّق ، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثمّ و العدوان ، واتّقوا الله إنّ الله شدید العقاب ، حفظکم الله من أَهْلِ بیتٍ ، وحفظ فیکم نبیّکم ، أستودعکم الله ، وأقرأ علیکم السلام ورحمة الله وبرکاته »
ثم أخيرا وبعد التأكيد مجدّدا على الصلاة لما لها من أهمية في عملية التواصل بين العبد وربّه ، يبدأ الإمام (عليه السلام) ، بتوجيه جملة من النصائح والتوجيهات المهمة جدّا في المحافظة على البُنى الجماعية .
ومنها : عدم مخافة الملاَمَة من الخَلائق ، وخاصة إذا كان رضى المولى تعالى يكمن في الفعل الملام عليه ، وكذلك عدم الخوف من بغي الباغين نتيجة القيام بما فيه تكليف الله عزّ وجل لأنّ الله هو الكافي والمتكفل للعبد المؤمن الذي يتأذى في سبيل طاعته عزّ وجل ، ثم يقرّر الإمام (عليه السلام) لزوم قول الكلمة الحسنة للنّاس وإن كانوا ممن ظلمونا وآذونا .
وفوق كل ذلك ينهى الإمام (عليه السلام) ترك التخلّي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن في ذلك نتيجة حتمية وهو أن يتولى على القوم الذين يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هو أشرهم ، ثم وإن دعوتم الله أن يفرج عنكم من خلال ازالة هؤلاء الأشرار منكم ، لن يستجيب لكم .
ومنها : أنّه (عليه السلام) ينصح ويأمر بالتواصل بين العباد ، وكذلك التباذل في المساعدة والعمل على إيجاد الروابط بين العباد ، وترك التقاطع والتدابر بحيث يولّي كل فرد دُبُره إلى أخيه وكذلك التفرقة والتباعد .
وأخيرا يأمر بالإجتماع والتعاون على البر والتقوى وينهى عن التعاون عن الإثم والعدوان ، وويختم (عليه السلام) بالتوصية بالتقوى في العمل والحركة ، ثمّ يدعوا لأهل بيته بالحفظ والرعاية.
الحمد لله رب العالمين
الكاتب / السيد حبيب المقدم
اترك تعليق