دعا (معاوية) (مروان بن الحكم) إلى إقناع (جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي) ـ وكانت من زوجات الإمام الحسن(عليه السلام) ـ بأن تسقي الحسن السمّ وكان شربة من العسل بماء رومة ، فإن هو قضى نحبه زوّجها بيزيد، وأعطاها مئة ألف درهم .
وكانت (جعدة) هذه بحكم بنوّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف الذي أسلم مرتين بينهما ردّة منكرة ـ أقرب الناس روحاً إلى قبول هذه المعاملة النكراء .
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) :إنّ الأشعث شرك في دم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وابنته (جعدة) سمّت (الحسن)، وابنه (محمّد) شرك في دم الحسين (عليه السلام) .
وهكذا تمّ لمعاوية ما أراد، وكانت شهادته(عليه السلام) بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة أو تسع وأربعين .
وحكم (معاوية) بفعلته هذه على مصير أُمة بكاملها، فأغرقها بالنكبات وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات، وتمّ له بذلك نقض المعاهدة إلى آخر سطر فيها .
وقال الإمام الحسن(عليه السلام) وقد حضرته الوفاة : لقد حاقت شربته، وبلغ أمنيته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال .
وورد بريد (مروان) إلى (معاوية) بتنفيذ الخطّة المسمومة فلم يملك نفسه من إظهار السرور بموت الإمام الحسن(عليه السلام) وكان بالخضراء فكبّر وكبّر معه أهل الخضراء، ثم كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [زوج معاوية] من خوخة لها، فقالت : سرّك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن عليّ، فقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم بكت وقالت : مات سيّد المسلمين وابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) .
والنصوص على اغتيال (معاوية) للإمام الحسن (عليه السلام) بالسمّ متضافرة كأوضح قضية في التاريخ .
-وصاياه الأخيرة :
-وصيّته للإمام الحسين(عليه السلام) :
ولمّا ازداد ألمه وثقل حاله استدعى أخاه سيّد الشهداء فأوصاه بوصيّته وعهد إليه بعهده ، وهذا نصّه :هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأنّه يعبده حقّ عبادته ، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً ، وأنّه أولى من عبده ، وأحقّ من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) فإنّي أحقّ به وببيته ، فإن أبوا عليك فأُنشدك الله وبالقرابة التي قرّب الله منك والرحم الماسّة من رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا .
ـ وصيّته لمحمد بن الحنفية :
وأمر الإمام (عليه السلام) قنبراً أن يحضر أخاه (محمد بن الحنفية) ، فمضى إليه مسرعاً فلمّا رآه محمد ذُعر فقال : هل حدث إلاّ خير ؟ ، فأجابه بصوت خافت : أجب أبا محمد.
فذهل محمّد واندهش وخرج يعدو حتى أنّه لم يسوِّ شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفرّ الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفت(عليه السلام) له :
اجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء، كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ الله عَزَّ وجَلَّ جعل ولد إبراهيم أئمة، وفضّل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبوراً ؟ وقد علمت بما استأثر الله به محمداً(صلى الله عليه وآله و سلم) ، يا محمد بن علي إنّي لا أخاف عليك الحسد، وإنمّا وصف الله به الكافرين ، فقال تعالى:( كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً، يا محمد بن علي! ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك ؟ .
قال محمد: بلى، فأجابه الإمام(عليه السلام) : سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً، يا محمد بن علي! لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك، يا محمد بن علي! أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند الله في الكتاب الماضي وراثة النبيّ(صلى الله عليه وآله و سلم) أصابها في وراثة أبيه وأمه ؟ علم الله أنّكم خير خلقه فاصطفى منكم محمداً ، واختار محمد علياً ، واختارني عليّ للإمامة، واخترت أنا الحسين.فانبرى إليه (محمّد) مظهراً له الطاعة والانقياد .
-إلى الرفيق الأعلى :
وثقل حال الإمام(عليه السلام) واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً :أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء، فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً : اللّهم إنّي أحتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي. ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إيّاه فقال : لقد حاقت شربته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال . وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى ، وسمت إلى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً لقد مات حليم المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول وقرّة عينه ، فاظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع أبو هريرة وهو باكي العين مذهول اللبّ إلى مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو ينادي بأعلى صوته : يا أيّها الناس! مات اليوم حبّ رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) فابكوا. وصدعت كلماته القلوب ، وتركت الأسى يحزّ في النفوس ، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة .
-تجهيز الإمام وتشييعه :
وأخذ سيد الشهداء في تجهيز أخيه ، وقد أعانه على ذلك (عبد الله بن عباس )و(عبد الرحمن بن جعفر) و(علي بن عبد الله بن عباس) وأخواه (محمد بن الحنفية) و(أبو الفضل العباس)، فغسّله وكفّنه وحنّطه وهو يذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، وبعد الفراغ من تجهيزه أمر(عليه السلام) بحمل الجثمان المقدّس إلى مسجد الرسول لأجل الصلاة عليه .
وكان تشييع الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد نظيره عاصمة الرسول ، فقد بعث الهاشميّون إلى العوالي والقرى المحيطة بيثرب من يعلمهم بموت الإمام، فنزحوا جميعاً إلى يثرب ليفوزوا بتشييع الجثمان العظيم وقد حدّث ثعلبة ابن مالك عن كثرة المشيعين فقال : شهدت الحسن يوم مات ، ودفن في البقيع ، ولو طرحت فيه إبرة لما وقعت إلاّ على رأس إنسان . وقد بلغ من ضخامة التشييع أنّ البقيع ما كان يسع أحداً من كثرة الناس.
-دفن الإمام(عليه السلام) وفتنة عائشة :
ولم يشكَّ (مروان) ومن معه من بني أمية أنّهم سَيَدْفُنونَه عند رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) ، فتجمَّعوا لذلك ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين(عليه السلام) إلى قبر جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) ليجدّد به عهداً أقبلوا إليهم في جمعهم، ولحقتهم (عائشة) على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير مِن دَعَة، أَيُدْفَنُ عثمانُ في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية فبادر (ابن عباس) إلى (مروان) فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله و سلم) لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثم نردّه إلى جدّته (فاطمة بنت أسد) فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبي(صلى الله عليه وآله و سلم) لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّه(عليه السلام) كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.
ثم أقبل على (عائشة) وقال لها: وا سوأتاه! يوماً على بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفِئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، ارجعي فقد كُفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين والله منتصر لأهل البيت ولو بعد حين .
وقال الحسين(عليه السلام) :والله لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا .
ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدّته (فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف) -رضي الله عنها- .
ووقف الإمام الحسين(عليه السلام) على حافة القبر ، وأخذ يؤبّن أخاه قائلاً : رحمك الله يا أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحقّ مظانّه ، وتؤثر الله عند التداحض في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك ، ولا غرو فأنت ابن سلالة النبوّة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى رَوْح ورَيْحان ، وجنّة ونعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم حسن الأسى .
اترك تعليق