الشبهة: اختصاص آية التطهير بنساء النبي لكونها جزء آية من آيات سبقتها.الرد:للسيد مهدي الجابري

زعم بعض أهل الأهواء ( قديماً وحديثاً ) أنّ قولَه تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، جزءٌ من آيةٍ وليست بآيةٍ مستقلّةٍ وحدَها، ووَصف من قال بأنّها آيةٌ مستقلّة أنّه تدليس، فقال: (آية التطهير وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ أقوى ما احتجّوا به من آيات القرآن، ويلاحَظ أنّها ليست آيةً كاملةً ، وإنّما هي تتمّة الآية التي أوَّلها خطابٌ لأمّهات المؤمنين رضي الله عنهنّ بقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ...﴾ ولذلك فتسميتُها بآية التطهير تدليسٌ؛ لأنّها ليست بآيةٍ وإنّما هي جزءٌ منها) (1). انتهى.

وللإجابة على هذا لا بدّ من إنعام النظر في أمور:

أوّلاً: لا محذور من اندراج آية التطهير ضمن الآيات المرتبطة بنساء النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ومثله ليس بعزيزٍ في القرآن الكريم، فالكلام في لغة العرب إمّا أنْ يَصدر على جهة التكلُّم، أو جهة الخطاب، أو جهة الغيبة، كما ويصدر عنها، إمّا على جهة الإفراد، أو جهة التثنية، أو جهة الجمع، وقد يصدر عنها، إمّا بصيغة المضارع، أو بصيغة الماضي، أو بصيغة الأمر.

ومن أساليب العرب أنّهم لا يسيرون على أسلوبٍ واحدٍ في الكلام، بل تلحظ التنقُّل في كلامهم من أسلوبٍ إلى آخر، وذلك لدفع السآمة عن المستمع أو لغير ذلك، وهذا الأسلوب ما هو إلّا فنٌّ من فنون نظم الكلام البليغ عندهم، ويسمّى في علم البلاغة بـ(الالتفات).

ولا يخفى على المتتبِّع أنّ للعرب عنايةً بهذا الأسلوب في الكلام لما فيه من تجديدٍ لأسلوب التعبير عن المعنى بعينه، تحاشياً من تكرار الأسلوب الواحد عدّة مرّات، فيحصل بتجديده لدى السامع تجديدٌ لنشاطه دفعاً للملل الحاصل من التكرار، وإلى ذلك أشار السكّاكي في (مفتاح العلوم) قال: (أ فَتراهم يُحسنون قِرى الأشباح، فيخالفون بين لونٍ ولون وطعمٍ وطعم، ولا يُحسنون قِرى الأرواح، فيخالفون بين أسلوبٍ وأُسلوب)، جاء كلامه هذا بعد أنْ ذكر كثرة استعمال العرب أسلوب الالتفات.

وعرَّف أهلُ اللغة الالتفات بأنّه: (انصراف المتكلِّم من الإخبار إلى المخاطَبة، ومن المخاطَبة إلى الإخبار)، وعرّف أيضاً أنّه: (إخراج الكلام من أحد طرق التعبير الثلاثة: التكلُّم، والخطاب، والغيبة، إلى طريقٍ آخر من هذه الطرق الثلاثة).

ومن فوائد هذا الأسلوب الذي أشار إليه الزركَشي في (برهانه): (إنّ للالتفات فوائدُ عامّة وخاصّة ، فمن العامّة التفنُّن والانتقال من أسلوبٍ إلى آخر، لما في ذلك من تنشيط السامع، واستجلاب صفائه، واتساع مجاري الكلام، فهذه إحدى فوائد أسلوب الالتفات العامّة، أمّا فوائده على وجه الخصوص فهي كالآتي:

1. قصْدُ تعظيم شأن المخاطَب، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾، ولَم يقُل: (واستغفرت لهم) عَدَل عنه إلى طريق الالتفات؛ لأنّ في هذا الالتفات بيان تعظيم استغفاره وأنّ شفاعته بمكانٍ من الأهمّيّة.

2. التنبيه على ما حقُّ الكلام أنْ يكون وارداً عليه، كقوله تعالى: ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (2)، فأصل الكلام: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم)، ولكنّه أبرز الكلام في معرض النُّصح لنفسه، وهو يريد نُصحهم، ليتلطَّف بهم، ويريهم أنّه لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه، ثمّ لمّا انقضى غرضه من ذلك قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. ليدلّ على ما كان من أصل الكلام ومقتضياً له.

3. أنْ يكون الغرض به التتميم لمعنىً مقصود للمتكلّم، فيأتي به محافَظةً على تتميم ما قَصد إليه من المعنى المطلوب له، كقوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، أصل الكلام: (إنّا كنّا مرسِلين رحمةً منّا) ولكنّه وضع الظاهر موضع المضمَر للإنذار بأنّ الربوبيّة تقتضي الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم أو لتخصيص النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالذكر أو الإشارة إلى أنّ الكتاب إنّما هو إليه دون غيره ثمّ التفت بإعادة الضمير إلى الربِّ الموضوع موضعَ المضمَر للمعنى المقصود من تتميم المعنى.

4. قصْد الدلالة على الاختصاص، كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾، فإنّه لمّا كان سَوْقُ السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالاً على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلّم؛ لأنّه أدخَلُ في الاختصاص وأدَلُّ عليه ﴿سُقْنَا﴾ و﴿أَحْيَيْنَا﴾.

5. قصْد الاهتمام، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾، فعدل عن الغَيْبَة في ﴿قَضَاهُنَّ﴾ و﴿أَوْحَى﴾ إلى التكلُّم في ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا﴾ للاهتمام بالإخبار عن نفسه سبحانه وتعالى.

6. قصْد التوبيخ، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾، حيث عدل عن الغَيْبَة إلى الخطاب للدلالة على أنّ قائلَ مثل قولهم ينبغي أنْ يكونَ موبَّخاً ومنكَراً عليه، ولمّا أراد توبيخَهم على هذا أخبر عنه بالحضور، فقال: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ﴾؛ لأنّ الحاضر أبلغ في الإهانة له (3).

قال الزركشي: (إنّه يُقرُب من الالتفات نقلُ الكلام إلى غيره، وإنّما يُفعَل ذلك إذا ابتُليَ العاقل بخصمٍ جاهلٍ متعصِّب فيجب أنْ يَقطَع الكلام معه في تلك المسألة وأنْ يُؤخذ في كلامٍ آخر أجنبيٍّ ويُطنَبَ فيه بحيث يُنسى الأوّل ، فإذا اشتغل خاطرُه به أَدرَج له أثناء الكلام الأجنبي مقدّمةً تُناسب ذلك المطلب الأوّل ليتمكَّن من انقياده، وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب (درّة التنزيل)، وجعل منه قوله تعالى: ﴿اِصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾، قال: إنّ قوله: ﴿وَاذْكُرْ﴾ ليس متّصلاً بما قبله، بل نقلاً لهم عمّا هم عليه، والمقدّمة المدرجة قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ إلى قوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾) (4).

وكذا الحال فيما نحن فيه ، فلا ضير في أنْ تكون آيةُ التطهير ضمن الآيات المرتبطة بنساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) من باب الالتفات ونقْل الكلام إلى غيره، وهذا الأسلوب ممّا اعتاد عليه العربُ كما اتّضح ذلك ممّا تقدَّم.

ثانياً: أنّ من سُنن العرب أنْ يَعترض بين الكلام وتمامه كلامٌ لا يكون إلّا مفيداً، واصطلحوا على هذا الكلام المعترِض فأسمَوه بـ(الجملة الاعتراضية)، والغاية المتوّخاة من هذه الجملة أنّها تفيد تأكيداً وتسديداً للكلام الذي اعترضتْ بين أجزائه.

وأدعوك ايها القارئ لإمعان النظر في القرآن الكريم فستجد أنّ هذا النوع من الجُمل ذو حضورٍ وافر وواضح في أثناء جُمله وآياته الشريفة، وقد نبّه على هذا الأسلوب كثيرٌ من المفسِّرين وبالأخصّ الذين لهم اهتمام بالجانب اللغويّ والبلاغي كالزمخشري، حيث أشار إلى هذا الأسلوب في عدّة آيات من القرآن الكريم، وهذه بعضها:

قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (5)، قال الزمخشري: (وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾ الآية، جملة اعتراضيّة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكّدةٌ لمعنى خطئهم، وما أحسن نظمَ هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم) (6).

قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾ (7)، قال الزمخشري: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾ جملةٌ اعتراضيّة، يعني: وكان أمر الله الذي يريد أنْ يكونه، مفعولاً مكوناً لا محالة) (8).

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (9)، قال الزمخشري: (قوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهي جملةٌ اعتراضيّة) (10).

وممّن أشار إلى هذا الأسلوب من المفسِّرين: أبو حيّان أثير الدين الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط): قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الـْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (11)، قال أبو حيّان: (﴿وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ويكون قوله: ﴿إِنَّ الـْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ جملةً اعتراضيّة بين ما قبلها وما بعدها) (12).

قال تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (13)، قال أبو حيّان: (قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ جملةٌ اعتراضيّة، وكذلك ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾) (14).

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الـْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (15)، قال أبو حيّان: (قوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿مِن دُونِ الـْمُؤْمِنِينَ﴾، وهي جملةٌ اعتراضيّة) (16).

وهكذا غيرهما من المفسِّرين تعرَّضوا لذكر هذا الأسلوب (الجملة الاعتراضيّة) وأعرضتُ عن ذكرهم خشية الإطالة ، ومن أراد الاستزادة فليراجع تفاسير أهل السنّة.

إذن, كان المفسِّرون كثيراً ما يعوِّلون على هذا الأسلوب، وقد اعتمدوا عليه في تفسير كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، فها هو ابن عاشور تحدَّث عنه في مقدّمة تفسيره، وبيّن فائدته، فقال: (تكثُر في القرآن الجُمل المعترضة لأسبابٍ اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإنّ كلَّ جملة تشتمل على حكمةٍ وإرشاد، أو تقويمِ معوَجّ) (17).

وأَورد أمثلةً من القرآن على ما ذَكر.

وقال الزركشي في (البرهان) نقلاً عن الشيخ عز الدين في أماليه، قال: (الجملة المعترضة تارةً تكون مؤكِّدة، وتارةً تكون مشدِّدة؛ لأنّها إمّا ألّا تدلّ على معنى زائدٍ على ما دلّ عليه الكلام، بل دلّت عليه فقط، فهي مؤكّدة، وإمّا أنْ تدلّ عليه وعلى معنى زائدٍ فهي مشدِّدة) (18).

ويؤتى بالجملة الاعتراضيّة لعدّة أمور:

منها: يؤتى بها بقصد تقرير الكلام.

ومنها: يؤتى بها بقصد التنزيه.

ومنها: بقصد التأكيد.

ومنها: بقصد التوبيخ.

ومنها: بقصد رفع الإبهام.

ومنها: بقصد التخصيص.

ومنها: بقصد التعظيم.

ومنها: بقصد التنبيه.

ومنها: بقصد التحدّي والتعجيز.

وعلى ضوء ما تقدّم: يتّضح أنّ آية التطهير انما زُجَّت بين الآيات المختصّة بنساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) بنحو الجملة الاعتراضيّة كان من باب التأكيد على مقام أهل بيت العصمة (عليهم السلام) لانتساب النساء المعنيّات إلى هذا البيت الطاهر.

ثالثاً: صرَّحت عدّةُ روايات ، بهذه العبارة: (نزلت الآية..) فلو كانت جزءَ آيةٍ كما هو المدّعى لمَا جاءت الأخبار والآثار مؤكِّدةً أنّها آية مستقلة، وإليك نزْراً منها:

1. عن عمر بن أبي سلَمة ربيبِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله)، قال: (لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ في بيت أمّ سلَمة...)، وصرَّح الألبانيّ بصحّته (19).

2. عن أمّ سلَمة رضوان الله عليها أنّها قالتْ: (في بيتي نزلتْ هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾...) ( ).

3. عن أمّ سلَمة رضوان الله عليها، قالتْ: (... فاجتمعوا على تلك البرمة يأكلون منها، فنزلت الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾...) (20).

4. قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نزلتْ هذه الآية في خمسة، فيَّ وفي عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين» رضي الله عنهم )) (22)وغيرها كثيرٌ من الروايات التي جاءتْ بطرقٍ متعدِّدة صرَّحت بالنَصِّ (أنّها آيةٌ) وهذا خلاف ما يدّعيه المستشكل كما هو واضح.

الكاتب: السيد مهدي الجابري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. آية التطهير وعلاقتها بعصمة الأئمّة ـ طه حامد الدليمي ـ: 4.

2 . سورة يس: 22.

3 . انظر: البرهان في علوم القرآن ـ الزركشي ـ 3: 27 ـ 29.

4 . البرهان في علوم القرآن ـ الزركشي ـ 3: 335.

5 . سورة القصص: 8.

6 . تفسير الكشّاف ـ للزمخشري ـ 3: 395.

7 . سورة الأحزاب: 37.

8 . تفسير الكشّاف ـ للزمخشري ـ 3: 543.

9 . سورة الأحزاب: 50.

10 . تفسير الكشّاف ـ للزمخشري ـ 3: 551.

11 . سورة آل عمران: 73.

12 . تفسير البحر المحيط 3: 214.

13 . سورة النساء: 128.

14 . تفسير البحر المحيط 4: 87.

15 . سورة الأحزاب: 50.

16 . تفسير البحر المحيط 8: 494.

17 . التحرير والتنوير ـ لابن عاشور ـ 1: 81.

 18. البرهان في علوم القرآن ـ للزركشي ـ 3: 56.

19 . صحيح وضعيف سنن الترمذي 7: 205.

20 . مستدرك الحاكم 2: 451 / ح 3558. قال : هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط البخاري ، ولم يخرجاه.

21 . الشريعة ـ للآجُرّي ـ 5: 2209 / ح 1697.

22. المحرر الوجيز 5: 308.